المسلمون اليوم موزعون على قارات العالم وبتعداد يتجاوز البليونين، ويعيشون في بلدان يمثلون أكثريتها، وهناك دول تضم عشرات الملايين من المسلمين ومع ذلك يصنفون أقلية. هذا الانتشار العددي الضخم يضم أطيافاً متنوعة من الأفكار والمذاهب والطرق والطوائف، يجمعها الإسلام بشموله وأصوله، ويمكن أن تتفرق هذه الجموع بسبب موقف، أو خطبة، وأحياناً فتوى لأحد العلماء، فهم كغيرهم بينهم جواذب الائتلاف، وكذا أسباب الاختلاف، لكن لو قارنّا بينهم وبين الأديان العالمية لوجدنا المسيحية واليهودية والهندوسية على سبيل المثال أقرب إلى الانتظام في المواقف الكبرى من خلال مؤسسات تمثل أكبر تجمعاتها في العالم، وغالباً ما تندمج وتتوافق في الرؤى والاستراتيجيات، بينما يشهد عالمنا الإسلامي استقطابات طائفية حادة، وتشظياً فكرياً ودينياً مخيفاً، وفي كل فترة نسمع عن خروج جماعة إسلامية تحتكر الإسلام وتدّعي النجاة وما سواها هالك وكافر، وأحياناً تشتعل بينهم الحروب بدعوى جهاد أعداء الدين والملّة أي إخوانهم في المذهب، وليس في الإسلام الجامع، وارتدادات الربيع العربي شاهدة على ذلك. أمام هذه الحال تُطرح بعض التساؤلات حول هذا الوضع المتشظي للمسلمين، هل نحن الأمة الواحدة كما وصفها القرآن؟ وهل ديننا يملك صلاحية البقاء والنماء في كل زمان ومكان؟ ثم هل لدينا في الإسلام خطاب عالمي يجمع المسلمين ويخاطب العالم كله بلغة مفهومة ومشتركات معلومة؟ وأمام تلك السؤالات أحاول أن ألقي بعض الضوء على أهم هذه القضايا من وجهة نظري، والمتعلقة بخطاب المسلمين العالمي واستحقاقاته الدينية والواقعية، وفق المقاربات التالية:
أولاً: أحاول الإجابة عن إشكالية وجود خطابين عندنا كمسلمين، خطاب محلي وآخر عالمي؟ وهل خطابنا في الداخل هو ذاته في الخارج؟ وهل وجود خطابين يعتبر ازدواجية مرفوضة في الدين؟ هذه التساؤلات تقودنا إلى الرجوع إلى خطاب القرآن للناس أو لبني آدم، حيث يظهر أنه عام للعالمين، وفيه نجد أن الأصل عالمية الخطاب، القائم على بيان كلي، يؤكد معنى عام، كحرية الاختيار للدين أو المساواة في الأصل أو الدعوة إلى الخير ورفع الظلم، وهذا الخطاب ألاحظه في خطب النبي (صلى الله عليه وسلم) الكبرى التي يخطبها في مجامع الناس العظمى كيوم فتح مكة، إذ قال :»يامعشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب. وتلا «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ «[الحجرات: 13] ثم قال يا معشر قريش: «ما ترون أني فاعل بكم قالوا خيراً أخ كريم وابن أخ كريم قال فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته» لا تثريب عليكم اليوم «اذهبوا فأنتم الطلقاء» (الطبقات لابن سعد 1/141 ). وكما في خطبته في حجة الوداع التي كانت تعتبر خطاباً عاماً أممياً، غالباً سيتحول إلى بيان يصل إلى كل سكان الجزيرة، لعظم مشهد الحج عند العرب، وفيه بيّن حرمة الدماء والأموال والأعراض والربا والتفاخر بالأنساب ودعا إلى المساواة وإلى رد الأمانات وفضائل الأخلاق وإكرام النساء (انظر: نصوص خطبته في حجة الوداع من صحيح البخاري (1714، 4406، 5550، ومن صحيح مسلم (1218، 1679) وغالب مرويات السنة تذكرها). هذه المعاني الكبرى والمقاصد العظمى هي معالم الخطاب العالمي للإسلام. لم يكن في تلك التجمعات إثارة لقضايا لا علاقة لها بالمكان والزمان كأحكام تفصيلية أو قضايا شخصية، أو تحذيرات من فئة أو طائفة، وهذا ما يؤكد بالنسبة إلي أن للإسلام خطاباً عالمياً أممياً يتجاوز فيه كل خصوصيات الهوية وخلافات الدين.
ثانياً: إذا كانت الشريعة ونصوص الوحي تؤسس لخطاب عالمي للبشر يختلف في مقتضياته عن الخطاب المحلي الخاص بالقضايا الجزئية، فهذا يدل على ضرورة مراعاة المبلِّغ للدين هذا النوع من الخطاب إذا خرج إلى بيئة متعددة، أو استعمل منبراً أممياً يجمع مختلف الأديان والثقافات، وهذا النوع من تكييف الخطاب هو من مقتضيات الحكمة وحسن التدبير، وهنا يمكن أن نستحضر قاعدة الاستصحاب في مقام البلاغ الأممي، بمعنى استدامة إثبات ما كان ثابتاً عند وقوع بعض التردد أو الخلاف، فإننا نرجع إلى استصحاب العودة للأصل، إما إجماعاً عندما يحدث النزاع ، أو استصحاباً للبراءة الأصلية بإبقاء ما كان على ما كان، هذه الاستصحابات مرجع في قطع التردد ما بين استعمال الخطاب الأممي أو الخطاب المحلي، وآثار استعمال المسلمين المعاصرين الخطاب المحلي فوق منابر عالمية مُشكلة في فهم خطاب الإسلام وعالميته، فالمجتمعات الإسلامية تمر بأزمات هوية مذهبية وطائفية، كثيراً ما نحملها معنا إلى المحافل الدولية لدرجة تقزيم الإسلام في وعاء مذهبي أو تيار فكري أو طريقة صوفية، كما أن إثارة الخلافات والقضايا التفصيلية المتعلقة بأحكام تكليفية خاصة بالفرد، مثل الدفاع عن الحدود والعقوبات أو بعض المطالب النسوية في بيئات خاصة، أو المطالبة بلباس وهيئة معينة في بيئة متعددة الثقافات والأديان، هو من تقديم ما يجب تأخيره في سلم المعرفة الدينية والأولوية الدعوية.
ثالثاً: غالب الخطاب العالمي الإسلامي يقوم حول المشترك الإنساني الذي جاءت به الأديان والفطر السليمة، كالأساس الإيماني والأخلاقي، وهذا النمط من الخطاب يحقق في شكل مباشر التعارف بين الشعوب، كما في قوله تعالى: «وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا» [الأحزاب 13]، لأن قاعدة التعارف هي أهم نماذج السلوك التواصلي بين الدول والشعوب، وأكثرها تحقيقاً للسلام والأمن العالمي، فالتعارف قائم على علاقة تبادلية أساسها المعرفة وليس السياسة أو المصلحة المتقلبة؛ مع حاجتنا لهما، بيد أن المعرفة تمنح الاحترام والتقدير بين الشعوب، لأن منجزات العلم والمعرفة غالباً ما تكون خادمة للمجتمعات ونافعة لمعاش الأفراد في الجملة، فمن ارتقى منبراً دولياً ليتحدث باسم الإسلام فالواجب عليه تقدير المشتركات والبحث عما يجمع الناس لا ما يفرقهم، والواقع يشير إلى طرفي نقيض، فإما خطاب هجومي يهدد سلم العالم أو خطاب مهزوز وباهت، لا طعم فيه للإسلام ولا رائحة، ومن شواهدي على ذلك، خطاب جعفر بن أبي طالب في بلاط النجاشي وأمام كبار الرهبان. فكان وضوحه في البيان وقوته في التأثير مستمدين من تلك المعاني المشتركة التي جاء بها الإسلام، إذ قال بعدما ذكر بؤس الجاهلية: «فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة، والزكاة، والصيام» (انظر: مسند أحمد رقم: 4168 و4400 ) وموقف جعفر في هذا المحفل قد يحصل للكثير من المسلمين المعاصرين، فهل ندرك حكمة هذا النوع من الخطاب ومكانته في نفوس السامعين؟
رابعاً: مَن يمثّل المسلمين في خطابهم العالمي؟ سؤال آخر يصيبنا بالخوف والقلق عندما نتأمل حال الكثير ممن يتحدث باسم الإسلام اليوم وظلامية احتكاره الدين، لأن اختيار المتحدث لا يقل أهمية عن مضامين الحديث، وبناءً على هذه الأهمية ندرك عناية الرسول (صلى الله عليه وسلم) عند اختياره بعث رسله للملوك، فاختار دحية الكلبي للذهاب لهرقل عظيم الروم، وكان دحية من أجمل الصحابة في المدينة (انظر سيرا أعلام النبلاء 2/551). هذا الجمال الظاهري لا شك في أنه سبب في إقبال النفوس على صاحب الرسالة، خصوصاً الروم الذين يجلّون الهيئة والشكل، وكذا عندما أرسل جرير بن عبدالله البجلي لليمن المعروف أيضاً بعقله وجماله حتى شُبّه بيوسف عليه السلام (المرجع السابق 2/531)، وهناك من أرسله (عليه الصلاة والسلام) لأنه أدرى بأولئك القوم ولغتهم وعاداتهم، فممثّل المسلمين في المحافل العالمية لا ينبغي أن يُختار من دون موصفات محددة، ظاهرية وموضوعية معاً، لأن هذه الاعتبارات ذات تأثير قوي في قبول الرسالة والاهتمام بها، والإعلام اليوم يسلط الضوء بقوة على كل التفاصيل ويظهر كل الجوانب الشكلية، وإذا كان المتحدث الرسول مستهدفاً لتشويه دينه أو دولته فمسؤوليته أكبر في حسن الظهور والحذر من الخطأ في البروتوكول، أو التصريح المستغَل سلباً، فتدارك ذلك في الاختيار يدل على حكمةٍ وحسن تدبير.
خامساً: لماذا الاقتصار في المحافل الدولية ذات الطابع الثقافي والديني على علماء الدين في شكل رئيس وتهميش من سواهم؟ على رغم أن الحوارات الدينية على أهميتها، تقف على رأس هرم هائل من الاتهامات العقدية، والصراعات الدموية العنيفة، وقرون طويلة من المواجهات، وحتى مع وجود وعي معاصر للالتقاء والتفاهم؛ إلا أن طبيعة الحوارات الدينية لا تنتج في الغالب مشاريع عمل واقعية؛ بل يدور كثير منها في فلك الأحاديث الديبلوماسية والمجاملات السياسية، بينما لو تم إشراك التخصصات الأخرى في مجال العلوم والطب والفن والآداب والفلسفة لربما حظينا بتلاقح متنوع من الثقافات وتوالد لكثير من البرامج والمشاريع المجسّرة للتعاون بين الأمم والشعوب.
وأخيراً… من المهم أن ندرك أننا في عصر التحولات الكبرى التي تسير وفق خطين متعاكسين، أحدهما يتجه بسرعة هائلة نحو التحول الرقمي والشبكي في التواصل التجاري الربحي السريع، والتداخل المباشر ما بين فئات المجتمع ضمن فضاء افتراضي بلا هوية، والاتجاه الآخر في المقابل، يعود بالإنسان نحو الشغف الديني والروحي وبعثٍ محمومٍ لكل أسطورة لتعود من جديد، مهما أوغلت في الماضي السحيق. أمام هذا الانتشار الأفقي لثقافات ما بعد الحداثة والغوص العمودي بحثاً عن الدين وما بعد الروحانيات، تظهر أهمية بقاء الحوارات الدينية في العالم وضرورة ترشيدها من التطرف، وتفكيك بواعث الصدام الحضاري المتصاعد مع انتشار اليمينيين في أوروبا ومحاولة توظيف تلك الحاجة الدينية التي كان العالم يُخفيها ويهرب منها إلى جزيرة وادعة، نهرب إليها بحثاً عن السلام والأمان.
(مجلة الحياة)