مقالاتمقالات مختارة

هل كان علماء الحديث يستعدون ويستجلبون بطش السلطان على الآخرين؟!

بقلم الشيخ خباب مروان الحمد

من الافتراءات التي يطرحها بعض المستشرقين وأتباعهم؛ زعمهم أنّ علماء النقد الحديثي كانوا يقومون بالاستعانة بالسلطة على بعض الرواة للحديث.

والواقع أنّ هذه الادّعاءات كذب وبهتان؛ لأنّ الوارد عن علماء الحديث أنّهم يستعدون بطش السلطان على الرواة الكذّابين؛ ونقلة أحاديث موضوعة ومكذوبة؛ لحماية السُّنة من الكذب على النبي صلّى الله عليه وسلّم، ومن مواقفهم في ذلك:

– قول الشافعي: لولا شعبة ما عُرف الحديث بالعراق؛ كان يجيء إلى الرجل فيقول: لا تُحدّث، وإلاّ استعديت عليك السلطان.

– وقول محمد بن يحيى بن منبه : رأيت أبا الحجاج الفرساني قد لزم علي بن بشر، ويقول: بيني وبينك السلطان، فإنّك تكذب على رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
– وقول ابن حبان أنّه سمع جعفر بن أحمد بن علي بن بيان يملي بمكة قال: حَدَّثَنَا محمد بن رمح، حَدَّثَنَا الليث، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعًا: من سر المؤمن فقد سرني ومن سرني فقد سر الله… الحديث.
وبه: ينادي مناد يوم القيامة أين بغضاء الله؟ فيقوم سؤال المساجد.
قال ابن حبان: فقلت: يا شيخ اتق الله، وَلا تكذب على رسول الله فقال: لست مني في حل أنتم تحسدونني لإسنادي فلم أزايله حتى حلف أن لا يحدث بمكة بعد أن خوفته بالسلطان مع جماعة!

وهذا الاستعداء من المُحدّثين على الرواة بالسلاطين؛ هدفهم فيه عدّة أمور:

1. لم يكن ذلك من قبيل ضعف حُجّتهم؛ إذ كانوا يُناقشون الكذّابين ويُناظرونهم؛ وما كلّ واحد منهم يقتنع، أو يتوقف عن نشر أكاذيبه؛ خاصّة حين يرى الدهماء والغوغاء من الناس تسمع له؛ فيكون ذلك عند الوضّاعين من القُصّاص مدعاة لاستجلاب المزيد من الحكايات المكذوبة ونسبتها لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

2. أنّ المُحدثّين من أولي الأمر الذين يقومون على الناس بما يُصلحهم في شؤون دينهم؛ وإذا لم ينتبه السلاطين لخطر الوضّاعين لانشغلاتهم بقضايا الناس عموماً؛ فالواجب على علماء الحديث أن يقفوا في وجوههم فهذا فيه طاعة لله، وصيانة لدينه، وحفظاً لسنّة نبيّه من أن يتطرّق إليها ما ليس فيها، فينتج عن ذلك ممارسات وسلوكيات لا ترضاها الشريعة؛ بل تكون متعارضة معها؛ وبهذا فيكون علماء الحديث أمناء الله على دينه؛ بتحذير هؤلاء من استمرارهم في الكذب؛ فإن ارتدعوا كان به؛ وإلاّ رُفع أمرهم إلى السلطان لكفّ شرّهم وأكاذيبهم.
قال الخطيب البغدادي” وأمّا إذا كشف الراوي قناعه، وأسقط في تخرّص الكذب حياءه؛ فيجب إنهاء أمره إلى السلطان والاستعانة في التنكير عليه بمن وُجد من الأعوان”

3. أنّ هذه الحالات نادرة ليست دائمة؛ لأنّ كثيراً من السلاطين كانوا يوكلون بعض المحدثين بتتبع مثل هذه الأكاذيب تارة وفضح من يقوم بها؛ وقبالتئذٍ فبعض السلاطين أصلاً لم يكن يهتمّ بهذه الأشياء؛ أو يدري عنها؛ فيكون هذا مدعاة من علماء الحديث لنصحية السلاطين بإيقاف من يكذب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

4. أنّ المُتحكّم في المسألة ليس الانتقائية والتحكُّم وظلم الآخرين والوشاية بهم حسداً وظلماً أو ليستفرد بهم السلطان بالسجن طبقاً لأكاذيب وظنون باطلة؛ وليس لمجرد وجهات نظر وآراء يختلف الناس في تقديرها؛ بل يكون ذلك لصيانة الدين وحفظه من كلام الكذابين أو المنافقين أو المُغرضين؛ ولهذا حين قال بعض المنافقين ” مارأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا ولا أكذب ألسنا ولا أجبن عند اللقاء “، قال عوف بن مالك ” كذبت ، ولكنك منافق لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم “، وفي ذلك دلالة على جواز إبلاغ السلطان عن شيء يمسّ دين المسلمين.
يقول العلاّمة الجويني في كتابه غياث الأمم : ” إن نبغ في الناس داع في الضلالة وغلب على الظن أنه لا ينكف عن دعوته وشر غائلته فالوجه :أن ـ السلطان ـ يمنعه وينهاه ويتوعده لو حاد عن ارتسام أمره وأباه فلعله ينزجر وعساه .
ثم يكل به موثوقا به حيث لا يشعر به ولا يراه فإن عاد إلى ما عنه نهاه بالغ في تعزيره وراعى حدا الشرع وتحراه .
ثم يثنى عليه الوعيد والتهديد ويبالغ في مراقبته من حيث لا يشعر.
ويرشح مجهولين يجلسون إليه على هيئات متفاوتات ويعتزون إلى مذهبه ويسترشدونه ويتدرجون إلى التعلم والتلقي منه فإن أبدى شيئا أطلعوا السلطان عليه فيتسارع إلى تأديبه والتنكيل به”.

5. أنّ عدداً من الحُكّام في تلك الحِقَبِ الزمنيّة ما كان لديهم عداءٌ ومعارضة لأصل الدين؛ فقد يكون لديهم طُغيان في الاستبداد بالحكم، أو وجود مخالفات وكبائر على المستوى الشخصي؛ لكنّهم في أصل ديانتهم يُعظّمون دينهم؛ ويبتغون حفظه؛ وقلّ منهم من كان يتقصّد تحريف الشريعة؛ وبهذا فإنّ رفع أمر من يكذب على الدين وأحاديث رسول الله للسلاطين؛ هو من النصح لله ورسوله ولأئمة المسلمين وعامّتهم.

هذا والله تعالى أعلم..

(المصدر: صفحة الشيخ مروان الحمد على الفيسبوك)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى