مقالاتمقالات مختارة

هل قيام دولة الإسلام مستحيل؟!

هل قيام دولة الإسلام مستحيل؟!

بقلم أبي يعرب المرزوقي

أنطلق من هذا السؤال الدقيق حول مسألة الدولة “هل صحيح ألا مستقبل لدولة الإسلام؟ هل هي مستحيلة حقا؟” في إطار بحث أوسع يخص ما أطلق عليه اسم عقد المسلمين وكيف نتجاوز الموقف الدفاعي لتحقيق الاستئناف الموجب. فما يبنغي فهمه لعلاج هذه المسألة هو:

كيف انتقل الفكر التحديثي العجول من نفي وجود دولة الإسلام إلى ادعاء استحالتها في التاريخ الحديث محاولا أصحابه تعطيل استئناف المؤمنين بالإسلام وقيم القرآن في صيغتها التي بلغها الرسول ومارسها استئناف دورهم لتمكين الأمة من شروط المنزلة التي تليق بها في العالم ولم؟

من الفكر الذي ينفي أن يكون للإسلام الأنظمة التي يمكن أن نسمي مجموعها دولة باستدعاء وهمي للتدليل التاريخي والنقلي في بداية القرن الماضي كما في محاولة علي عبد الرازق: الإسلام وأصول الحكم1.

إلى الفكر الذى يدعي استحالة أن تقوم دولة الإسلام في العصر الحديث في بداية القرن الحالي بدعوى امتناع شروط التماشي مع الدولة الحديثة بالاستدلال التاريخي والعقلي كما في محاولة وائل حلاق: الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي2.

والغريب أن الدعويين يبدو أصحابهما وكأنهما يدافعان عن علوية الإسلام على التاريخ الفعلي للشأن السياسي إما بصورة عامة فصلا للدين عن السياسة (عبد الرازق) أو بمقتضى خلقي يتفرد به الإسلام وتخلو منه الدولة الحديثة (حلاق). لكن جهنم كما هو معلوم مبلطة بالنوايا الحسنة: فرب مدح هو في الحقيقة عين الذم خاصة إذا كان فيه تكذيب بنصوصه الصريحة.

ذلك أن الدعويين تنافيان خاصيتي الإسلام كما يحدد ذاته في مرجعيتيه القرآن والسنة:

فهو أولا: رسالة نقدية لتحريف الأديان السابقة تحريفها الذي يدلل عليه بممارستها التاريخية في إدارة الشأن العام وليس بتغيير نص الرسالات فحسب. ويغلب على هذا البعد التركيز على مقتضيات الوجه الخلقي من إدارة الشأن العام.

وهو ثانيا: رسالة طبق مبلغها ما علمه منها للامة فأسس دولة واصل أصحابه تحقيق شروط قيامها التاريخي الفعلي وشروط بقائها بالتوسع الجغرافي والتأسيس التاريخي. ويغلب على هذا البعد التركيز على مقتضيات الوجه السياسي من إرادة الشأن العام.

لب الإشكال

ليس من عادتي العناية بالموضة. خاصة إذا كانت تدور حول كليشهات فاقدة لروح الفكر الفلسفي أعني علاج القضايا من منطلق مفهوماتها التي يتعلق بها الإشكال. فمن السهل أن تثبت استحالة استعادة الماضي بالحال التي مضى عليها: ومحاولة الكلام في هذا من السخافة إلا إذا كان القصد بالاستحالة في زمن معين حدث بعد أن لم يكن. لكنها عندئذ ليست مستحيلة لذاتها بل لعارض هو ما يكتنف ذلك الزمان.

ومن ثم فإذا كان القصد بأن إعادة دولة الإسلام كما كانت في عصر الراشدين أو في أي عصر تقدم على عصرنا فلا حاجة لقوة استدلال ولا داعي للنقاش لأنها حينئذ لا تكون فكرا بل محاولة لإقناع الموتى من ماضغ فكر ميت. وهذه يمكن أن يعنى بها بوكو حرام لا الفكر الفلسفي.

أما إذا كان القول متعلقا بالزعم أن الإسلام لا يمكن أن يعيد استئناف دوره وأن يحقق شرطه الأساس لأن دولته التي هي أداة محافظته على مقوماته الأساسية أصبحت مستحيلة فذلك ما يجعل القائل لا يدري ما يقول لأنه يكرر فكرة قديمة ختم بها هيجل الفصل الذي خصصه للإسلام في فلسفة التاريخ. وهي فكرة كذبها التاريخ . فالدولة المحافظة على مقومات الاسلام ليست زائدة دودية في الدين الإسلامي بل هي جوهره إذ إن القرآن يعتبر نظاما لاستعمار الإنسان في الأرض بمنزلة الخليفة الذي يحقق القيم السامية بقدر المستطاع. ومن يقول باستحالة ذلك يجهل تكذيب التاريخ لفكرة هيجل التي يعيدها مشوهة دون الكلام على الدوافع والنوايا التي لا يعلمها إلا الله.

لذلك فلن أتهم صاحبها بمعاداة الإسلام من خلال اعتبار أهم مقوماته أمرا ماضيا تجاوزه التاريخ ولا مستقبل له فهذا هو جوهر الاستراتيجية التي يعتمدها العلمانيون والليبراليون والقوميون الفاشيون الذين يريدون تأبيد تفيت دار الإسلام وتشتيت تاريخه لإضفاء الشرعية على الدويلات القطرية التي تسهل الاستضعاف والاستتباع من المستعمر وذراعيه إيران وإسرائيل ومليشياتهما

لن أتهم نواياه خاصة وهو قد زين أطروحته بمغازلة الكبرياء الإسلامية فمجد الماضي وادعي أنه كان على أفضل حال بل وقد أضاف إليه إبراز مزاياه الخلقية التي يدعي أنها غائبة في العصر الحديث بالقياس إلى ما يزعمه من مزايا كانت للإسلام لكنها لم تعد مناسبة للعصر. فيعطينا من ناحية ثانية كاريكاتورا من الحداثة لا يقل سطحية عن كاريكاتور الأصالة.

ذلك أن ذم الحداثة بهذه الطريقة هو من علامات غباء الكثير من الإسلاميين الذين يتصورون أن الأخلاق حكر على المسلمين وأنه يمكن أن توجد حضارة دولتها خالية من الأخلاق.

الخطأ المضاعف في الحكم و أصله

وفي الجملة فإن الكلام يدور حول معركة بين كاريكاتورين نتجت عن استبطان صراع الحضارات لدى صفيها التأصيلي والتحديثي السطحيين ونفي المشترك الكلي بينها.

وهذا الصراع الكاريكاتوري يفترض أن التاريخ الإنساني يرد إلى التاريخ الطبيعي وأنه لا يمكن أن يبقى إلا نوع هو الأرقى. والباقي حتى لو كان سليما في عصره فإن التطور تجاوزه بحيث إنه لم يعد بوسعه ان يبقى. فتجاوز الماضي يقتضي استحالة الاستئناف بتطوير المؤتلف وتعهد المختلف.

لذلك فهذا الصدام الكاريكاتوري ينفي أصحابه الكليات الأساسية الواحدة في العمران البشري والاجتماع الإنساني. ومجرد هذه النسبة إلى البشر وإلى الإنسان في علم ابن خلدون تعني أنه أكثر فهما للظاهرات الحضارية من كل المتفلسفين الحاليين القائلين ضمنا أو صراحة بالتاريخانية المطلقة وبانغلاق الحضارات بعضها على البعض كما تتوهم فلسفة ما بعد الحداثة.
الأسس الفلسفية لنظرية الدولة الإسلامية

وفي إطار هذه الموضة -وكم أكره الموضات التي لا تتجاوز فرقعة العنوان والتي افسدت الفكر عامة والفكر الفلسفي خاصة- أود مناقشة الأسس الفلسفية لنظرية الدولة الإسلامية بين نفي وجودها في الماضي ونفي إمكانها في المستقبل لعلاج إحدى عقد المسلمين الذين استبطنوا خرافة صدام الحضارات النافية للكليات وليس تنافسها على تمثيلها.

وآخر صيحات هذه الخرافة أطروحة الدولة المستحيلة والتناقض الجوهري لمفهوم الدولة الإسلامية لوائل حلاق. فهات ننظر في الأسس التي تنبني عليها هذه الأطروحة ومدى استجابتها لشروط القول الفلسفي المستند إلى منطق المفهوم لا منطق الموهوم.

لذلك فسنحاول دحض هذين الموقفين وخاصة الثاني منهما ليس في جزئياته بل من حيث أسسه لاعتقادنا أن السياسي بخلاف ما يتصور الأول من أسمى الأغراض الدينية وليقيننا أن دور الأخلاق في الدولة الحديثة لا يقل عن دوره في دولة الإسلام وإن بأساليب مختلفة علينا بيانها.
التأسيس الخلقي في السياسي

وليس صحيحا أن الفكر الحديث يحاول استمداد تأسيس الخلقي في السياسي من الدنيوي -بمعنى ما يقابل الأخروي إذ بهذا المعنى حتى الإسلام لا يفعل- بل المقابلة هي بين المصلحي المنفعي الخالص والخلقي. فمصادر نظرية الحكم والدولة مصادرها الفلسفية سواء القديم منها أو الوسيط أو الكلاسيكي أو الحديث التنويري أو الحديث ما بعد التنويري كلها تأسيسات تعتمد على مفهوم الإنسان وحقوقه الطبيعية المترتبة على مقومات وجوده وخاصة حريته ومسؤوليته وحاجاته الأمنية والإعالية.

وهذه العناصر كلها ليست دنيوية إلا بمعنى كونها شارطة لدنيويته أي بمعنى كونها طبيعية من الطبيعة وبمعنى كونها طبيعية لذاته أي مناسبة لها ومستمدة من أسس ليست من وضعه بصورة تحكمية بل ناتجة عن مقومات كيانه التي ليس هو مبدعها بل هو مبدع حلول لما يترتب عليها من إشكالات ككل منتجات الحضارة والدولة أولها.

وهذا الموقف في وضع نظرية الدولة في الفكر الغربي يرد إلى مفهوم طبيعة الإنسان اليونانية أو إلى مفهوم خلقته المسيحية. وكل الحضارات التي أتت بعد الفلسفة اليونانية والأديان المنزلة وخاصة بعد امتزاجهما في الفكر الوسيط جمعت بين المرجعيتين الفلسفية والدينية سواء كانت الثانية يهودية أو مسيحية أو إسلامية.

ولكن حتى الدول التي ليس لها صلة بالمعينين اليوناني والديني المنزل أعني الدول التي وجدت في حضارات الشرق القديم قبل الفلسفة اليونانية والأديان المنزلة مثل الفرعونية والبابلية أو مثل حضارات الشرق الأقصى فإنها تستند إلى ما يناظر هذين المرجعين:

فلها فكر وضعي يعود إلى اجتهادات إنسانية صريحة هي المعرفة المتوفرة بشروط الأمن والإعالة في الجماعات أو الحماية والرعاية وتلك هي وظائف الدولة.

ولها فكر عقدي يؤسسها على اجتهادات لا تنسب إلى الإنسان بل تعتبر مقدسة وتنسب إلى الآلهة سواء كانت طبيعية أو ما فوق طبيعية.

وإذن فما تتميز به دولة عن دولة بخصوص هذه العلاقة بين الموجود السياسي وتأسيسه الخلقي المتعالي عليه دينيا كان أو طبيعيا وأيا كانت المرحلة التاريخية التي يمر بها “العمران البشري والاجتماع الإنساني” (بعبارة خلدونية) ليس جوهريا بل هو عرضي وأن الجوهري في الدولة بما هي “صورة العمران” الحامية والراعية (بنفس العبارة) ثابت لا يتغير ثبات وظائفها.

وقد اكتفيت بالإشارة إلى المحاولتين الحدين اللتين تستحقان المناقشة تجنبا للمواقف الوسيطة بينهما والخالية من محاولة الاستدلال المبتور الذي يدعي اعتماد الكشف التاريخي المؤيد بالنقلي والكشف التاريخي المؤيد بالعقلي عند بعض الموتورين الذين يحولون فشلهم في الصراع السياسي إلى معركة أشبه بصدام الحضارات والصراع القيمي فيجعلون من شروط التطور التحرر المطلق من كل التراث الإسلامي وتمسيح المسلمين بدعوى الدولة المدنية المتنافية مع قيم الإسلام كما يزعمون.
نقد أسس الموقفين – مقوما الدولة

وما يدفعني للجمع بين هذين الموقفين فضلا عن محاولة أصحابهما الاستدلال النقلي والعقلي مع الشواهد التاريخية هو أنهما يشتركان في نفي أمر لا يقبل عقلا وليس له ما يثبته نقلا فضلا عن وقائع التاريخ إذا عمقنا الفحص فنظرنا في ما في الاستدلال من متانة أو عدمها.

فكلاهما لا يمكن أن يثبت فرضيته من دون شرطين يصعب معهما الكلام على معرفة علمية:

الشرط الأول: نفي الكلية في أنظمة الاجتماع الإنساني كلية أساسياتها التي تتجاوز الفروق الحضارية العرضية. ومعنى ذلك أن ما يدعيانه لا يصح إلا بشرط أن ننفي مفهوم الدولة بما هي صورة للعمران الإنساني أيا كانت مرحلة نموه بمعنى المؤسسات التي تحقق الحد الأدنى من الحماية الداخلية والخارجية والرعاية الدنيا لتكوين الإنسان وتموينه.

الشرط الثاني: تعريف الدولة تعريفا لا يطابق حقيقتها هذه التي لا يخلو منها عمران تعريفا يستند إلى الفروق العرضية التي بها تتمايز دولة عن أخرى دون أن يمس الجوهر من وظائفها التي لا تكون دولة من دونها والتي هي صورة أي مجتمع مهما كان بدائيا أعني شكلي الانتظام المقوم لمفهوم الدولة في كل عصور التاريخ.

فلا بد من الأحكام أو القوانين ومن جهاز تحكيم ليحصل التعاون والتبادل والتعاوض بين المجتمعين (البعد السياسي) ولا بد من الأحكام الخلقية والقيم وجهاز تربوي لتثبيت السلوك المناسب لتلك الوظائف (البعد التربوي).

وذانك هما مقوما الدولة أو صورة العمران بلغة ابن خلدون وهو مفهوم يتجاوز الفروق العرضية في مقومات الدولة سواء كانت قديمة (التركيز على احترام الحدود الطبقية) أو وسيطة (التركيز على خدمة القانون أيا كان رومانيا أو دينيا والتربية) أو حديثة بمعناها الكلاسيكي (التركيز على الأمن) أوبمعناها التنويري (التركيز على الحرية). لذلك فإن موقف الرجلين -وخاصة موقف حلاق-يبدو مشروطا بما ينفي علمية تحليلهما بل ويؤكد عكسه تماما : وعلى بيان غياب هذين الشرطين سأركز تحليلي.
مفهوم الدولة و النظرة التاريخانية الصرفة

واساس كلامي سيكون بيان حقيقة عجيبة لدى رجلين يتكلمان في الدولة وكأنها ظاهرة كل ما فيها تاريخي وليس لها حقيقة مفهومية يمكن أن تتلون بمقتضيات التاريخ لكنها تبقى ذات وظائف لا تتغير من حيث الطبيعة والغاية.

لذلك فعندي أن مفهوم الدولة غائم وغير دقيق في كلامهما. فكلاهما يخلط بينها وبين كلام أصحابها عليها التهم المتبادلة بينهم وخاصة في لحظة صراع الحضارات الذي بدأ بالتنازع بين الحضارتين الغالبتين على الأبيض المتوسط حول تمثيل الكلي المطابق للحقيقة التي يدعيها كلاهما كما تتبين في الكاريكاتور من هذا التنازع والمتمثل في نخبتي الأمة الحاليتين:

فالإسلاميون المزعومون يدعون أن الدولة الغربية بلا أخلاق. وهو كذب محض. إذ لا يمكن لأي نظام حتى لو كان مافيويا أن يوجد من دون التمييز بين درجتين من النظام المؤسس والمؤسس عليه والأول هو أخلاق المجموعة والثاني هو إجراءات تعايشها.

والحداثيون المزعومون يدعون أن الدولة الإسلامية لم تعد مناسبة للعصر حتى وإن كانت ربما ناجحة في عصرها. وهو كذلك كذب محض حتى لو أضاف له حلاق شبه ترضية بالقول إن المسلمين قد كانوا قادرين على حكم أنفسهم وتكوين إمبراطورية.

فمحاولة عبد الرزاق تنطلق من نفي وجود نظرية محددة للحكم في الإسلام معتبرا ما وجد في التاريخ مستندا إلى العارية (مأخوذ عن الإمبراطوريتين السابقتين) ونافيا أن يكون تأسيسها الفقهي مطابقا لما يوجد في المرجعية القرآنية والسنية. وأساس النفي يوجه إلى الخلافة ليؤسس الدولة المدنية-ليبرالي علماني سطحي- لكأن الخلافة دولة دينية من جنس الكنسية أو من جنس الإمامة الشيعية.

ومحاولة حلاق لا تنطلق من نفي وجود دولة الإسلام في الماضي الدولة التي يبالغ في مدح صورة كاريكاتورية منها-هي وهم الإسلاميين النافين لكلية القيم المشتركة بين الحضارات الإنسانية أي الذين استبطنوا مقولات صراع الحضارات مع نفي تام لما يتأسس عليه الإسلام من قول بالفطرة الكلية المتجاوزة للاختلافات الحضارية- صورة لا توجد إلا في خطاب فقهاء التخلف وليس في حقيقة التاريخ. لكنه يدعي استحالتها في العصر الحديث.

وهو محق إذا قصد بالدولة الإسلامية هذا الكاريكاتور الذي لا يؤيده لا التاريخ ولا المرجعية القرآنية والسنية. ذلك أنه يمكن ألا يوجد كما يزعم بين هذا الكاريكاتور وبين الشكل الحديث كليات مشتركة كما لا يوجد بين أي صنم والحقيقة التي هو صنم منها. وتركيز حلاق على تقابل بين الدولة الإسلامية والدولة الحديثة مداره دور الأخلاق المثبت في الدولة الإسلامية والمنفي في الدولة الحديثة أو على وظائف المواطن المثبتة في الدولة الحديثة والمنفية في دولة الإسلام دليل على تجريدات أساسها هذا الكاريكاتور من الحضارتين كما تحدد في واقع صدام الحضارتين وخاصة بعد أن تشرب الإسلاميون أنفسهم نظرية صدام الحضارات أو بسبب موضة الأنساق المغلقة والتي لا يوجد بينها مشتركات في فلسفة ما بعد الحداثة والتي هي اساس التاريخانية المطلقة.
موقف هيجل من دولة الإسلام – النقاش الجوهر

والملاحظ أن نظرية حلاق التي يظنها الكثير أمرا جديدا هي في الحقيقة صيغة جديدة سطحية ومشوهة لنظرية هيجل في الدولة الإسلامية المستحيلة لعلل أخرى أعمق من تعليلات حلاق ومؤسسة بالذات على مشتركة مع الحداثة التي يعتبرها هي بدورها عاجزة عن تأسيس الدولة وليس على اعتبارها الحل الذي تقاس بها أشكال الدولة. نظرية حلاق في استحالة الدولة الإسلامية وتناقضها مجرد انتحال لنظرية هيجل مسكوت عنه مع فقدان المتانة التي تتميز بها نظرية هيجل في ما يعتبره علل امتناع نجاح الدولة الإسلامية3.

ذلك أن هيجل أسس حكمه على مقومات عقدية في الإسلام تحول دون الطبقية والتراتبية ولا تعترف إلا بالمساواة المطلقة بين البشر -أي المثال الأعلى الذي تصبو إليه كل الجماعات والذي يراه هيجل حائلا دون الاستقرار والأمن وهو التناقض الذي يعتبره هيجل محايثا لنظرية الدولة الإسلامية بخلاف نظرية الدولة المسيحية التي تعلل التعضي وما يترتب عليه من فروق وامتيازات4 -وليس على صفات يدعي لها أصحابها الخصوصية دون إثبات أنها ليست موجودة في كل دولة من حيث هي دولة بما فيها الدولة الحديثة5.

لذلك فالنقاش لن يدخل في جزئيات هذه الفرضية الخالية من مقومات العلم لأنها لم تنطلق من المفهوم بل اعتمدت خصائص ثانوية. وفي مثل هذه الحالة فإن العلاج يكتفي ببيان الأسس العلمية التي تنفي وجاهة الفرضية دون تضييع الوقت في الجدل حول الخصائص الثانوية التي اعتمد عليها الباحث. فبيان عدم الكلام على مفهوم الدولة من حيث هي منظومة المؤسسات التنظيمية التي تحتاج إليها الجماعة بوصفها كليات لا يخلو منها عمران ومجتمع -مهما كان بدائيا-بيان ذلك كاف لنفي متانة الأطروحة وعلمية التدليل عليها.

والمعلوم أن النقد العلمي لاي نظرية لا يذهب من فروعها إلى أصولها بل ينطلق من فحص الأصول. فإذا تبين أنها واهية أغناه ذلك عن الدخول في جزئيات الفروع. والأصول في نظرية الدولة هي وظائفها التي لا يخلو منها عمران فضلا عن مستويي مقوماتها السياسي والتربوي.

فنسبة الأنظمة الكلية في حياة الجماعات إليها تماثل نسبة الكليات العضوية للظاهرات الحية دون أن تكون من جنسها. ذلك أن الأنظمة المؤسسية ليست عضوية بل هي ثقافية. لكنها مع ذلك تحددها الاستجابة لحاجات عضوية أو شارطة للحاجات العضوية او مشروطة بها. ومن ثم فهي من صنع الإنسان لكنها استجابة لحاجات ليست من صنعه حتى لو بدت اصطناعية مثل الحاجات التي تنتج عن الترف والتي تكون في الغالب مضادة للحياة السوية فتصبح معطلة لقواها وأهمها ما يؤدي إلى تدجين الإنسان وإلى الفشل العضوي الناتج عن عدم التجدد مثل شيخوخة بعض المجتمعات التي تعاني من إرهاق وجودي وضيق بالحياة وفقدان لعنفوان الشباب. وذلك من علامات شيخوخة الحضارات.
الفرضية المؤسسة لرفض نظريتي حلاق و عبد الرازق

ومعنى ذلك أن فرضيتنا التي ننطلق منها لرفض نظرية حلاق ومعها النظرية القائلة بأن الإسلام لم يحدد نظرية في الحكم والدولة (عبد الرازق) هي أن الحضارات -رغم كونها ليست عضوية- لها كليات مثل الظاهرات الحية وهي كليات حضارية تترتب على خصائص كلية للإنسان خصائص عضوية أي خصائصه من حيث هو حيوان مبين أو ناطق رغم التنوع الثقافي لتشكلها الذي ليس هو الجوهري فيها:

وأول هذه الكليات الحكم بكل وظائفه التي تقبل الاختصار في وظيفتين هما الحماية (الداخلية والخارجية) والرعاية (التكوينية والتموينية). لذلك فلن نناقش الشيخ علي عبد الرازق لأن وهاء دعواه لم تعد موضع جدال وقد أفحمه الشيوخ حينها.

كما أننا لن ندخل في نقاش جزئيات نظرية وائل حلاق لأنها لا تنطلق من شروط البحث الفلسفي أعني من المفهوم وتكتفي بسطحيات تاريخية يمكن أن تؤيد الشيء وضده. وبصورة عامة فهي عديمة الدلالة الفلسفية التي تمكن من فهم الإشكالية التي تعنينا:

تحرير الأمة من الجدل الزائف حول خصوصية الحضارة الإسلامية في اساسيات الوجود الإنساني وخاصة في حاجة الجماعة للدولة وحاجة الدولة للأخلاق والزعم بأن تاريخية الدولة تنفي أن يكون للدول مقومات مشتركة هي حقيقتها لأنها هي منظومة وظائفها التي لا تتخلف.
عقد السنة و طبيعة دولتهم و قابلية وجودها الفعلي

والمعلوم أن همنا أوسع من إشكالية الدولة إذ نريد أن نحدد المقصود بعقد السنة -وأهمها هذه المتعلقة بطبيعة دولتهم وقابليتها للوجود الفعلي مع التكيف المناسب للعصر-وأن نبين أصنافها وعللها حتى نعالجها الواحدة بعد الأخرى بالترتيب التالي. فهذه العقد خمس بعدة الكليات الخمس التي لا يخلو منها عمران بشري واجتماع إنساني لأنها هي عين مقومات الجماعة المؤلفة من كائنات حية وعاقلة مستعمرة في الأرض ومؤسسة لاستعمارها فيها على ما يتجاوز الأرض مكانا وزمانا بصورة تضفي على أنظمته شرعية متعالية.

وهذه الكليات الخمس هي ما يترتب على ارتباط وجود الإنسان بالأحياز الخمسة ومن بحاجة الدولة لحمايتها ورعايتها لأنها جوهر وظائفها في كل العصور على مستويين سياسي وخلقي دائما:

المكان أو الشروط الجغرافية لوجوده: المحافظة على وحدة مكان الجماعة.

الزمان أو الشروط التاريخية لوجوده: المحافظة على وحدة زمان الجماعة.

الثروة لسد الحاجات المادية وأصلها المكان: تحقيق شروط التنمية المادية.

التراث لسد الحاجات الرمزية وأصلها الزمان:تحقيق شروط التنمية الروحية.

والحيز الجامع وهو ماوراء هذه الأحياز الأربعة-وهو متعال عليها وساع لتوسيعها المكان (مكان الجماعة هو مجالها الحيوي) والزمان (زمان الجماعة هو غريزة البقاء والاستمرار) والثروة (ما تستمده الجماعة من مجالها الحيوي) والتراث (ما تؤسس به الجماعة قيامها وقيوميتها).

ولذلك فهذا الحيز الخامس هو منبع كل تجدد في أي حضارة وهو الشارط لكل الشروط السابقة. فهو:

أساس الوحدة الرمزية للجماعة، وهو أساس حصانتها الروحية.

والوحدة والحصانة لا تكتملان إلا ببعدي الدولة المحققين لهذه الوظائف الحامية والراعية للأحياز:

الدولة هي منظومة مؤسسات الحكم الموحد والتربية الموحدة. وبالدولة تصبح الحصانة الروحية أساس المناعة المادية. لذلك فالحيز الخامس هو المرجعية العقدية للجماعة وأغلب المرجعيات “قصة أو سردية” دينية أو اسطورية أو تاريخية تحدد هوية الجماعة وصلتها بالأحياز الأربعة السابقة ودورها فيها. وهذا الحيز الجامع هو الذي تستند إليه صورة العمران أي الدولة بوجهيها المادي (الحكم) والرمزي (التربية).
الشرعية ومقومات القيام الإنساني و تصوراته لها

وهذه الشرعية سواء كانت دينية أو فلسفية تعود إلى نفس الأساس أعني إلى مقومات القيام الإنساني وتصورات الإنسان لها في مرجعيته الفكرية التي يحددها تاريخه وتراثه مهما حاول تجاوزهما. وهذا الأساس سواء افترضناه ذا طبيعة خاضعة للحتمية ماهيتها متقدمة على وجودها أو العكس ذا طبيعة حرة وجودها متقدم على ماهيتها. وحتى نفهم القصد بوحدة هذا الأساس في الدين وفي الفلسفة فلنشر إلى أن الإسلام لا يقول بالدين المنزل-كما قد يتوهم الكثير- بل هو يقول إن المنزل ليس إلا تذكيرا بالدين الفطري ومن ثم فالدين طبيعي قبل أن يكون منزلا. وإذن فحتى أصحاب الزعم بأن الدين من صنع الإنسان فإنهم في الحقيقة يسلمون بأمرين يثبتان ما يعنينا:

أولا: أن الإنسان يحتاج لوضع الأنظمة التي يخضع لها حياته إلى إبداع شرعية متعالية على شرعية الأمر الواقع أو الإيمان بها وفي الحقيقة فحتى الإبداع الذاتي لهذه الأنظمة الرمزية يفترض الإيمان بأنها متعالية على مبدعيها لأن المبدعين يعيشون تجربة الإبداع في شكل يشبه الوحي: وتلك هي نظرية الحق الطبيعي بالمعنى الحديث أو الفطرة بالمعنى الإسلامي. فالأمر الواقع لا يمكن أن يؤسس ذاته ولا خاصة أن يفسر كونه على ما هو عليه.

ثانيا: أن هذه الشرعية المتعالية حتى لو سلمنا بأنها من صنع الإنسان فإنها تثبت أن الإنسان لا يكتفي بعالم المكان والزمان والحس بل يضع وراءهما عالما آخر وحدسا ليس من جنسهما في علمه وعمله على حد سواء ولا يكتفي بالأحياز التي ذكرنا بل يضع لها ماوراء وتكون الدولة التي في هذا الماوراء نموذج الدولة التي يسعى لتحقيقها في تاريخه الفعلي.

الكوني في الجماعات البشرية

ومعنى ذلك أن افتراض ما وراء الموجود خاصية كونية في كل الجماعات البشرية. وذلك هو الدين الطبيعي الذي لا يخلو منه عمران سواء اعتبرناه طبيعة أو شريعة. فكلتاهما منظومة قوانين وسنن ليست من وضع الإنسان. وحتى في حالة فرضها من وضعه فقدرته على وضعها ذات سنن ليس هو واضعها وهي متعالية على وضعه. فعالم القوانين الطبيعية وراء الظاهرات الطبيعية في العلوم وعالم القوانين الخلقية وراء الظاهرات الإنسانية كلاهما متعال وكلاهما أكثر فاعلية من عالم الأمر الواقع الطبيعي والتاريخي حتى بالنسبة إلى أكثر الناس قولا بالمادية:

فالقوانين الرياضية بالنسبة إلى علوم الطبيعة ليست مواد بل هي علاقات ونسب ومع ذلك فهي المتحكمة في أفعال المادة وانفعالاتها6.

والقوانين الخلقية بالنسبة إلى أعمال التاريخ ليست مواد بل هي علاقات ونسب ومع ذلك فهي المتحكمة في أفعال البشر وانفعالاتهم7.

ومثلما أن القوانين العلمية لا تنشغل بالعرضيات الظاهرة في الطبيعة فإن القوانين الخلقية لا تنشغل بعرضيات الأمر الواقع في التاريخ بل هي تنشغل بما وراءه من أحكام تعلل سلوك طرفي العلاقة بين البشر ومن خلالها يتحدد السلوك بسلبها أو بإثباتها.
خاتمة: المفارقة العجيبة

ما يعسر على المرء فهمه هو الكلام على الدولة الإسلامية والدولة الحديثة دون أن يتقدم على النوعين جنس مشترك بمقتضاه يشتركان في كونهما دولة وهو منظومة المقومات التي لا بد منها في ما يطلق عليه اسم الدولة8.

فالكلام العام على الدولة دون تحديد لمقوماتها يجعله كلاما دائرا حول خاصيات لا ندري جوهريتها أو عرضيتها في تقويم ما يسمى دولة. لكن الأهم من ذلك كله هو عدم التمييز بين الشيء الذي يسمى دولة كما يجري بمقتضى حقيقته والأقوال الدائرة حولها في خطاب اصحابها لوصفها بما يزينها ويبررها في أعين الخاضعين لها9.

لذلك فزعم النظام الإسلامي مختلفا بالجوهر عن النظام الحديث بمعيار وجود الأخلاق وعدمها وبمعيار وظائف الدولة الحديثة وعدمها من السذاجة والتسرع إلى حد لا يكاد يصدقه عاقل خاصة عند من لم يقدم على ذلك الأمرين التاليين:

أولا: تعريفا للمقومات الأساسية التي بوجودها يمكن الكلام على دولة والتي بعدمها لا يحق لنا الكلام على دولة لأن فقدانها يعني أنها ليست صورة العمران بوجهيها المادي (بأداة السياسة الأولى أي القانون القوة الشرعية) والرمزي (بأداة السياسة الثانية أي الأخلاق والتربية).

ثانيا: استقراء الواقع التاريخي الذي يظهر هذه المشتركات ولو في شكل تقارب متدرج نحو غاية هي مطابقة الموجود لحقيقته لأن شكل الحكم في الدولة الإسلامية الأخيرة مطابق لما تنحو إليه كل دولة حديثة مع بعض الفروق طبعا10.

وإذن فنحن لا نفهم محاولة إثبات أن الإسلام لا يمكن أن يؤسس نظاما يشترك مع الحداثة في أي نزر من قيامه لنستنتج أن دولته مستحيلة الوجود بعد القرون الوسطى وأن الدولة الحديثة تتميز على دولته بعدة أمور لا شيء يثبت فقدانها فيها. وكذلك الزعم بأن النظام الحديث لا يتضمن بعدا خلقيا-وهو أمر لا يصدقه عاقل- ودعوى امتناع تضمنه إياه يعني أن الموجود في الدولة الحديثة يعد واجب الوجود ولا يوجد نقد له وسعي لتجاوزه لما هو أفضل لأنه ليس أحد الممكنات بل الممكن الوحيد. وهو أمر متناقض مع زعمه أحد الأنواع وليس النوع المطلق.

وهذه العقدة التي سميناها بهذا الاسم هي العقدة الرئيسية لأنها مدار الفتنتين الكبرى (بين الشيعة والسنة: هل الحكم حق إلهي كما ترى الشيعة أو هو بالاختيار كما ترى السنة) والصغرى (بين الإسلامي والعلماني: هل للحكم مرجعية متعالية على إرادة الشعب أم هو مقصور عليها)11.

وهي عقدة لأنها نتجت عن عجز آل إليه الفكر السني في مجال الفكر السياسي والدستوري بسبب سطيحة النخبتين الممثلتين للانحطاطين :

الانحطاط الذاتي أو فقهاء الشرع التقليديين
الانحطاط المستورد أو فقهاء الوضع المقلدين.

وهاتان النخبتان هما أداتا الحرب النفسية التي تشن على الأمة باسم معركة التحديث والتأصيل بسبب الجبن على الحسم من منطلق فهم للإسلام كما يحدد نفسه رسالة تذكير بدين فطرة هو بالجوهر استراتيجية استعمار الإنسان في الأرض والاستخلاف فيها. والهدف من المحاولة هو تحرير السنة من تأثير هذه العقد والتغلب على مفعول الحرب النفسية التي كبلت فكرها.

-1- علي عبد الرازق

-2- وائل حلاق

-3- هيجل: وإليك التعليل الهيجلي الذي يفسر به استحالة وجود دولة إسلامية ناجحة وقادرة على البقاء بالمقارنة مع المسيحية وهي بالذات العلل التي تجعله أقرب إلى الدولة الحديثة مما يتصور حلاق لأنه يعتبره قائلا بفكر مماثل لفكر التنوير المجرد المنافي للتعيين الضروري لوظائف الدولة التي توجد في التاريخ الفعلي: Vorlesungen über die Philosophie der Religion الجزء الثاني من نشرة surkamp taschenbuch wissenschaft ص.336-337 ترجمة أبي يعرب المرزوقي.

“فالمسلمون يكرهون كل ما هو عيني, ويمنعونه, والإله عندهم واحد بإطلاق, وبالمقابل فلا يتضمن الإنسان غاية ولا خصوصية ولا أي أمر يخصه بالذات.

لكن الإنسان الموجود يضفي على نفسه الخصوصية في ميوله ومصالحه- فتكون هذه على قدر كبير من الوحشية, وفقدان الزمام لعدم التفكير لديهم. لكن النقيض التام من ثم موجود لديهم كذلك, أعني ترك كل شيء واللامبالاة إزاء أي هدف, ومطلق الاستسلام لحتمية الأقدار, واللا مبالاة إزاء الحياة. وليس لاي غاية عملية قيمة جوهرية. لكن لما كان الإنسان كذلك عمليا وفاعلا, فإن الغاية يمكن حينئذ أن تكون حتى تحقيق إجلال الواحد لدى كل البشر, ومن ثم فالإسلام دين متعصب بالجوهر.

إن التفكر الذي رأينا (تفكير فلاسفة التنوير) يشغل نفس الدرجة مع الإسلام, الدرجة المتمثلة في أن الإله ليس له مضمون وليس كائنا عينيا. وبالتالي فظهور الإله في جسد حي, والسمو بالمسيح إلى منزلة ابن الإله, وتصعيد متناهي العالم, وتناهي الوعي بالذات إلى درجة التحديد الذاتي اللامتناهي للإله, ليست أمورا موجودة هنا (في الإسلام). فالمسيحية لا تتعدى قيمتها عند المسلمين كونها عقيدة. والمسيح ليس إلا رسول الإله, ومعلما إلهي. ومن ثم فهو عندهم معلم مثله مثل سقراط مع تفضيل المسيح عليه, لكونه حسب رأيهم كان من دون خطيئة. لكن ذلك ليس إلا نصف الحقيقية. فإما أن المسيح لم يكن إلا إنسانا أو هو “الإنسان الابن”.

ومن ثم فإنه لم يبق شيء من قصة المسيح (حسب العقيدة المسيحية) في ما قيل عنه في القرآن. والفرق بين هذه الدرجة والإسلام لا يتمثل إلا في كون الإسلام يسبح حدسه في أثير اللامحدود بوصفه هذا التحرر اللامتناهي المتخلص بإطلاق من كل خاص, ومن كل استمتاع ومن كل طبقة ومن كل علم ومن كل كبرياء ذاتية. وبالمقابل مع ذلك ففي موقف تنوير الحصاة يكون الإله بالنسبة إلى اصحاب التنوير ماوراء, وليس له علاقة إيجابية مع الذات. والتنوير يضع الإنسان بالنسبة إلى ذاته بصورة مجردة, بحيث إنه لا يعترف إلا بالكلي الإيجابي, ما كان موجودا فيه, لكنه لا يوجد فيه إلا على نحو مجرد. ومن ثم فتحقيقه لا يُـؤخذ إلا من خلال العرضية والتحكم”

(تكوينية الوعي الإنساني و الديني من دروس فلسفة الدين لهيجل ترجمة أبي يعرب).

-4- ولولا رفضي التمجيد المفرط لقلت إن هذه الخصائص هي بالذات ما بات اليوم مطلب كل الشعوب وكل البشر بعد أن تحرروا من اعتبار الحكم حقا إلهيا والثروة امتيازا يمكن أن يؤسس لعدم المساواة بين البشر.

وبهذا المعنى فكل شباب العالم أميل إلى مفهوم الدولة الإسلامي وهو أساس فكرة الديموقراطية الحديثة التي يكون فيها الحكم للشعب ولا يكون الحاكم فيها إلا خادما لديه وليس ممثلا للمافية المتحكمة فيه من وراء حجاب يزينه الكذب الإعلامي الذي يوهم الشعب بأنه هو الذي يختار الحكام في حين أن الاختيار تقوم به المافيات الحزبية المتحالفة مع المصالح الخفية.

-5- أسطورة خلو الدولة الحديثة من الأخلاق لا معنى لها:

لا يمكن أن توجد دولة خالية من الأخلاق سواء في الأفعال أو على الأقل في الأقوال. وكل الدول عند الصدام بين الأخلاق والمصالح فإن الأفعال تقدم فيها المصالح والأقوال تقدم فيها الأخلاق لتمرير الأفعال.

وإذن فلا معنى عن الحضور والغياب الخلقيين في الدولة بل المهم هو الكلام على دور الأخلاق في الدولة.

ولهذا الدور مستويان: في الدولة من حيث بنيتها الشكلية ومن حيث من يملأ هذه البنية.

وللتقريب فلنقارن دور الأخلاق في الدولة بدور الجمال في اللغة. فاللغة من حيث بنيتها تحدد جملة من المحددات لجمالية العبارة فوق صحتها والمتكلم بها بمقتضى القدرة الأسلوبية يضيف شيئا أو ينقص شيئا والأول يسمى أديبا ويحتذى والثاني يعتبر متكلما عاديا ولا يحتذى. والمتكلم في اللغة يناظر القائم بوظائف الحكم السياسي والمعارض في الدولة. وما نسميه أديبا مبدعا في استعمال اللغة يناظره من نمدحه بكونه رجل دولة صالحا. الخلق في الأفعال السياسية مثل الجمال في الأباديع الأدبية.

-6- طبيعة القوانين العلمية وراء الظاهرات الطبيعية ودورها الفعال ينفي أن تكون مجرد تصورات إنسانية أو أن تكون عين الظاهرات الطبيعية بما هي أمر واقع.

-7- طبيعة القوانين الخلقية وراء الظاهرات التاريخية ودورها الفعال ينفي أن تكون مجرد تصورات إنسانية أو أن تكون عين الظاهرات التاريخية بما هي أمر واقع.

-8- لذلك فسنبدأ بوضع نظرية هذه المقومات التي تمثل جنس الأنواع التي تقبل اسم الدولة المقومات التي لا يخلو منها نوع بصرف النظر عن مضمون مرجعيته وتاريخ تشكل عرضياته التي يتعين بها بوصفه أمرا واقعا.

-9- وحقيقة الدولة تختلف تماما عن كلام أهلها أو أعدائها في وصفها ضمن الايديولوجية التي لها أو عليها. لذلك فغالبا ما يكون كلام الساسة في خطابهم الانتخابي مثلا غير سلوكهم بعده ومثل ذلك في ما يسمى بالخطاب المزدوج أي إن أغلب الناس لا يصدقون مزاعم أمريكا مثلا في دعواها الدفاع عن حقوق الإنسان وعن قيم الحرية والكرامة. وهذا جزء من استعمال الأخلاق في السياسة عند ممثلي الدول الحديثة. ولا أتصور الأمر مختلفا عند من يتكلم باسم الدولة الإسلامية ماضيا وحاضرا. وكما نبين في الهامش الموالي فإن الدول دائما تحتاج إلى نظامين من القيم : نظام الثوابت وتمثله سلطة رمزية ليس مؤثرة التأثير المباشر لأنها تؤثر عن طريق المثل العليا والتربية ونظام المتغيرات الذي يستجيب لصراع المصالح ومقتضيات توازن القوى في الجماعة الواحدة (السياسة الوطنية) أو بين الجماعات المختلفة (السياسة الدولية).

-10- ولأضرب هنا مثال تطور مؤسسة الحكم الإسلامية (الخلافة والسلطنة معا) بالمقارنة مع مؤسسة الحكم الديموقراطي الحديث (رئاسة الدولة ورئاسة الحكومة) سواء كان النظام جمهوريا (ألمانيا وإيطاليا مثلا) أو ملكيا (بريطانيا والكثير من دول شمال أوروبا مثلا). فالعلاقة في الحالتين واحدة : هي علاقة السلطان الرمزي للممثل للمرجعية القيمية للجماعة والسلطان الفعلي الممثل للمصالح ومحاولة تنظيم العلاقات بمقتضى العبارة عن إرادة الجماعة بقانون الاغلبيات المتداولة على تمثيلها. وفي ذلك نوع من التوفيق بين الثابت والمتغير من شروط تنظيم الحياة الجماعية.

-11- وهنا يبرز التناقض الجوهري في موقف العلماني : فلا معنى للكلام على حقوق الإنسان من دون التسليم بحقوق طبيعية متعالية على تشريعات الإرادة الشعبية التي تعبر عنها الأغلبيات الحاكمة. وحتى مفهوم المعارضة والديموقراطية يصبحان غير مفهومين لأن إطلاق الإرادة الشعبية يعني بالضرورة دكتاتورية الغالبية ولا يمكن نقدها لأن ما باسمه ستنقدها معدوم إذا أطلقنا إرادة الشعب حكما ليس وفقه غيره. وذلك هو مفهوم الحق الطبيعي الذي هو في الحقيقة بديل من المرجعية الدينية. وفي دين يعتبر القيم الدينية فطرية فإن الأمر يصبح من نفس الطبيعة.

(المصدر: صحيفة الأمة الالكترونية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى