هل فرض عمر بن الخطاب أبا بكرٍ حاكما على المسلمين؟!
بقلم محمد خير موسى
بعد أن دار نقاشٌ طويل في السّقيفة، بين الأنصار الذين قرروا اختيار سعد بن عبادة رضي الله عنهم ووفد المهاجرين المكوّن من أبي بكر وعمر وأبي عبيدة رضي الله عنهم، قد أسفر النّقاش الطويل إلى اقتناع الأنصار بضرورة أن يكون الخليفة من المهاجرين لاعتبارات عديدة؛ منها فهم النّص ومنها اقتضاء مصلحة الدّولة النّاشئة لذلك.
حاول أبو بكرٍ رضي الله عنه أن ينأى بنفسه عن الأمر، فأعلن ترشيح عمر وأبي عبيدة اللّذين رفضا بشكلٍ قاطع. وهنا دخل النّقاش حيّزا جديدا، حيث طرح الحُباب بن المنذر أن يكون للدّولة أميران؛ واحدٌ من الأنصار وآخر من المهاجرين، فقال: “أنَا جُذَيلُهَا المُحَكَّكُ وعُذَيْقُها المُرَجَّبُ؛ منَّا أميرٌ ومنكم أمير“.
عندها طلب عمر من أبي بكرٍ رضي الله عنهما أن يمدّ يده للمبايعة قائلا: “ابسط يدك يا أبا بكر”، فأخذ بيده وبايعَه، ثمّ تتابع على ذلك الموجودون في السقيفة من المهاجرين والأنصار.
في المشهد ما جعل العديد من الكتّاب يصفون الحادثة بأنّها عمليّة فرضٍ للخليفة؛ فعمر فرض أبا بكر على النّاس فرضا، غير أنّنا لو دقّقنا قليلا في المشهد لوجدناه يحمل دلالات مختلفة تماما منها:
أوّلا: قدّر عمر رضي الله عنه أنَّ الأمر بدأ يتطوّر إلى حالة من الاستقطاب والجدل الذي سينتهي إلى حالة من التفرّق والتنازع، وقد تصل إلى الهياج العام ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم لمّا يدفن؛ فاستشعر ضرورة المبادرة إلى اتّخاذ خطوةٍ عمليّةٍ بعد تقديره بأنَّ المداولات قد استوفت الغاية منها؛ فكانت مبادرتُه بمطالبة أبي بكرٍ بسط يده للبيعة إنّما هي من أجل الحفاظ على وحدة الدّولة، وهو تقديرٌ سياسيّ معتبر ومبادرةٌ إيجابيّةٌ في سياقها وظرفها.
ثانيا: المجتمعون في السّقيفة ليسوا صبية صغارا ولا حدثاء الأسنان ولا سفهاء الأحلام؛ حتّى يفرض أحد عليهم رأيا بعد كلّ هذا الجدل، بل هم من سادة القوم وعقلائهم وفرسانهم. فلا يستطيع عمر ولا أبو بكر ولا أحد على الإطلاق أن يفرض عليهم رأيا ولا قرارا عاديّا؛ فكيف بقرارٍ مصيريّ مثل هذا؟
ثالثا: لا يملك عمر ولا المهاجرون الحاضرون في السّقيفة من القوّة والعدد ما يجعل المرء يتوهّم بأنّهم فرضوا قرارهم فرضا؛ فهم ثلاثة رجال مقابل العشرات من الأنصار الذين هم أهل المكان وأصحاب السّقيفة، فكيف يقبلُ عاقلٌ على نفسه أن يقول بأنَّ عمر فرضَ أبا بكرٍ خليفة؟!
بيعةُ أبي بكرٍ كانت “فَلتة” فكيف تكون خلافتُه سليمة؟!
نعم؛ كان بعض الصّحابة يصفون البيعة التي تمّت لأبي بكر بأنّها فلتة، بل إنَّ عمر نفسه وصفها بذلك.
ففي صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في آخر حجّة حجّها قبل وفاته سمع رجلا يقول: “لو قد مات عمر لقد بايعت فلانا، فوالله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة فتمّت!”.
فغضب عمر لذلك وقرّر أن يخطب في الحُجّاج موضّحا ما جرى، فنصحه عبد الرّحمن بن عوف أن يؤجّل ذلك إلى حين عودته للمدينة حتّى لا يثير كلامه في الحجّ الذي يحوي أخلاطا كثيرة من النّاس؛ مسألة تُفهم على غير مرادها فتطير في الآفاق، بخلاف واقع المدينة حيث تتوفّر البيئة المناسبة لطرح هكذا قضيّة.
وقد قال له كما في صحيح البخاري: “يا أميرَ المؤمنين لا تفعل، فإنّ الموسم يجمع رعاع النّاس وغوغاءهم؛ فإنّهم هم الذين يغلبونَ على قربك حين تقوم في النّاس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيّرها عنك كل مُطَيِّر، وأن لا يعوها وأن لا يضعوها على مواضعها؛ فأمهل حتى تقدم المدينةَ فإنّها دارُ الهجرة والسّنة، فتخلص بأهل الفقه وأشراف النّاس فتقول ما قلتَ متمكنا، فيعي أهلُ العلم مقالتَك ويضعونَها على مواضعها“.
وفعلا أخذ عمر بهذه النّصيحة، وعندما عاد إلى المدينة كان أوّل شيءٍ فعلَه أنّه وقف على المنبر ليلقيَ بيانا سياسيّا يناقشُ فيه هذه القضيّة، فكان ممّا قاله: “إنّه بلغني أنّ قائلا منكم يقول: والله لو قد مات عمر بايعت فلانا، فلا يغترنّ امرؤ أن يقول: إنّما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمَّت، ألا وإنّها قد كانت كذلك! ولكنّ الله وقى شرّها، وليس منكم من تُقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر. مَن بايع رجلا عن غير مشورةٍ من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه، تَغرَّة أن يقتلا!” ثم روى قصة بيعة أبي بكر بتفاصيلِها الكاملة، في ما يمكن وصفه ببيانٍ سياسيٍّ تاريخيّ.
وهنا نجدُ أنَّ عمر رضي الله عنه يقرّ بأنّ خلافة أبي بكرٍ الصّدّيق رضي الله عنه كانت فعلا “فلتة”، ولكن قبل المسارعة إلى بناء تصوّرات ذهنيّة تنتجُ عنها قناعاتٌ تاريخيّة اعتمادا على هذه الكلمة تقود إلى التشكيك بصحّة البيعة، فلا بد من التّأكيد على الآتي:
أولا: إنَّ كلمة “فلتة” في كلام عمر والصّحابة الكرام معناها “فجأة”، كما ذكر ابن الأثير في “النّهاية في غريب الحديث والأثر”، وهو المعنى الرّاجح المتّسق مع المعنى اللّغوي. أي أنّ البيعة أتت بشكل مفاجئ للجميع، وكان هذا بسبب الاجتماع المفاجئ للأنصار في سقيفة بني ساعدة، وهذا توصيف دقيق لما جرى.
وهناك معنى آخر لها وهو أنّها كانت بسبب ما حدث من تفلّت في السقيفة؛ والتفلّت هنا معناه التّشاجر والتّنازع كما ذكره ابن الأثير أيضا. أيّ أنَّ المبادرة التي قام بها عمر إلى مبايعة أبي بكرٍ رضي الله عنهما سببها محاولة قطع الطريق على التنازع والتفرّق المتوقّع، والذي بدأ يطلّ برأسه من بين حوارات السّقيفة.
ثانيا: يعبّر عمر رضي الله عنه بكلّ وضوح بأنَّ هذه الطريقة التي تمّت في مبايعة أبي بكر، لم تكن هي الطريقة المثلى التي يطمح إليها في قضيّة استلام الحكم، بل إنّه كان يطمع أن يكون هناك المزيد من الرويّة والشّورى؛ وهذا من دلالات كلمة “فلتة” في اللّغة أيضا، فهي “كلّ شيءٍ فُعل مِنْ غَيْرِ رَوِيَّة” كما عند ابن الأثير أيضا.
صحيحٌ أنّ الله تعالى قد وقى بهذه البيعةِ الأمة شرّا كبيرا، إضافة إلى كون شخصيّة أبي بكرٍ تصلح أن تتمّ معها البيعة بهذه الطريقة التي لا تصلح لأحدٍ مثله؛ غير أنّ هذه العجلة والفلتة ينبغي ألّا تتكرَّر لاحقا في قضايا استلام دفّة الحكم.
فعمر من خلال توصيفه لخلافة أبي بكرٍ أنّها “فلتة” ومن خلال بيانه السياسيّ الذي ألقاه تعليقا على هذا التوصيف؛ فإنّه يدعو إلى الشّورى المتأنية التي تدرس فيها الخيارات بهدوءٍ بعيدا عن الاستقطابات ويشارك فيها الجميع، وكان هذا ما حرص على فعله عقب اغتياله وقبيل استشهاده رضي الله عنه في آخر خلافته.
على أنّ السّؤال الأكثر علوقا في قضيّة استلام أبي بكرٍ للخلافة هو؛ لماذا لم يبايع عليّ أبا بكرٍ؟ وما دام أنَّ عليّا لم يبايع أبا بكرٍ؛ فأين الإجماع على بيعته؟!
وهذا ما نفصّل القول فيه بإذن الله تعالى في المقال القادم.
(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)