هل صار بناء الهيكل الثَّالث على أنقاض الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى قريبًا؟3من 5
إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن
3.تآمر ديني-سياسي لبناء الهيكل الثَّالث وفق “خطَّة عالية السّريَّة”
ليس سرًّا أنَّ الرَّئيس الأمريكي، أيًّا كان انتماؤه السّياسي، لا بدَّ وأن تتوجَّه سياساته بما يخدم المشروع الصُّهيوني في منطقة الشَّرق الأوسط، والَّذي تأتي قضيَّة تأسيس دولة إسرائيل التَّوراتيَّة وإعادة بناء هيكل أورشليم على رأس أولويَّاته، ولو على حساب أبناء المنطقة. يناقش الإعلامي والمبشّر الأمريكي الإنجيلي “توماس آر. هورن” (2019) المؤامرة السّريَّة الَّتي يحيكها البيت الأبيض بتحريض من السُّلطة اليهوديَّة الدّينيَّة العليا في أمريكا، موطن الغالبيَّة العظمى من يهود العالم، لإعادة بناء الهيكل بعد ما يقرب من ألفي عام على دمار هيكل هيرودس عام 70 ميلاديًّا. أدخل “بولس الرَّسول” في رسالته إلى العبرانيين مفهوم اعتبار يسوع الكاهن الأكبر للهيكل، مفترضًا أنَّ دماء يسوع طهَّرت أتباعه من الآثام، كما يطّهر ماء الخطيئة اليهود ليؤهّلهم لدخول الهيكل، كما جاء في قوله “أَنَّهُ يَشْهَدُ أَنَّكَ: «كَاهِنٌ إِلَى الأَبَدِ عَلَى رُتْبَةِ مَلْكِي صَادَقَ»” (رسالة بول الرَّسول إلى العبرانيين: إصحاح 7، آية 17)؛ ممَّا يعني أنَّ الاعتقاد في قدسيَّة هيكل أورشليم من تمام كمال العقيدة المسيحيَّة. ويشير الدُّكتور “فؤاد شعبان” (2003) إلى أنَّ أمريكا تأسَّست مطلع القرن السَّابع عشر للميلاد في صورة مستعمرات، على يد البيوريتانيِّين (Puritans)، أتباع مذهب بروتستانتي متشدِّد يُعرف بـ “التطهيريَّة” (Puritanism)، الَّذين اعتبروا أنَّ في عبورهم البحر إلى “العالم الجديد”، وهو الاسم المعروف حينها لقارَّتي أمريكا، محاكاة لعبور بني إسرائيل مع موسى وهارون البحر هربًا من بطش الفرعون، ناذرين أنفسهم لخدمة أهداف تأسيس دولة المخلّص في الأرض المقدَّسة، إيذانًا بمجيئه. في حين يعتبر المؤرّخ اليهودي المؤرِّخ اليهودي “بول تشارلز مركلي” (2004) أنَّ رؤساء أمريكا على مرّ العصور هم “ورثة كورش”، الإمبراطور الفارسي الَّذي أمَر ببناء الهيكل الثَّاني بعد إعادة بني إسرائيل من السَّبي البابلي عام 515 ق.م. (سفر عزرا: إصحاح 3، آيات 8-13)، في تأكيد على أنَّ مهمَّة كلّ رئيس أمريكي هي التَّوطئة لدولة مخلّص بني إسرائيل والتَّعجيل ببناء الهيكل الثَّالث الَّذي سيحكم منه المخلّص العالم.
ويستهلُّ “هورن” (2019) نقاشه بالإشارة إلى أنَّ الهيكل الثَّالث “علامة نبويَّة يضعها كلمة الرَّبّ للباحثين عن الحقيقة”، لكنَّه من المفترَض أن يُبني على “أكثر بقاع الأرض توتُّرًا”، حيث يخشى سياسيُّو العالم أن تشكّل تلك البقعة الصَّخريَّة أكبر تهديد للسَّلام العالمي والإقليمي (صـ7). يذكّر هورن بأنَّ هضبة موريا، أو جبل الهيكل، في القُدس الشَّريف محطُّ اهتمام المسلمين واليهود والمسيحيين، ناعيًا حقيقة أنَّ المسلمين وحدهم هم الَّذين يحظون بإمكانيَّة الوصول إلى تلك البقعة لممارسة الشَّعائر الدّينيَّة، زاعمًا أنَّ “مجرَّد التَّلميح إلى سعي أبناء الدّيانات الأخرى إلى العبادة أعلى هضبة موريا يُواجَه بالعنف من قِبل المسلمين المتشدّدين (Muslim militants). ويبدو أنَّ من غير المتصوَّر إطلاقًا أن تُبني دار يهوديَّة للعبادة هناك” (صـ8). وبرغم التَّحدّي الكبير الَّذي يمثّل التَّشدُّد الإسلامي، يرى هورن أنَّ بناء الهيكل الثَّالث حتمي ومُحقَّق؛ فقط لأنَّه وعْد ربَّاني، ولم يخلف الرَّبُّ وعْده أبدًا، وهذا ما يدعم “الخطَّة السّريَّة للسُّلطات الدّينيَّة لتحقيق ذلك أسرع ممَّا يعتقد الكثيرون” (صـ8).
تتعالى المطالبات بحقّ اليهود في ممارسة شعائرهم الدّينيَّة فوق جبل الهيكل، وهو الحقُّ الَّذي يتمتَّع به المسلمون في مسجدهم على هضبة موريا، أي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، الَّذي يُعدُّ ثالث أهمّ المساجد المقدَّسة في الإسلام، بينما يعتبر الموقع ذاته أكثر البقاع تقديسًا في اليهوديَّة. يحذّر “هورن” (2019) من التَّوتُّر المتصاعد بسبب ما يراه من تفرقة بين المسلمين واليهود في التَّمتُّه بحريَّة ممارسة الشَّعائر الدّينيَّة فوق هضبة موريا، متأسّفًا على حظْر الصلاة والرُّكوع والسُّجود والرَّقص والغناء وشقّ الملابس على اليهود. ويتحدَّى هورن ما هو ثابت ومصرَّح به من قِبل كبار حاخامات إسرائيل أنفسهم عن أنَّ الموقع المحدَّد والأبعاد الفعليَّة هيكليّ أورشليم المدمَّرين (587 قبل الميلاد و70 ميلاديًّا) غير معروفة، بادّعائه أنَّ موقع الهيكلين كان فوق الحائط الغربي (حائط البُراق/المبكى) وخلفه في البلدة القديمة في القُدس. وبرغم التّحديات، يصرُّ الحاخام “حاييم ريتشمان”، مدير الإدارة الدُّوليَّة لمعهد الهيكل (מכון המקדש)، وهو منظَّمة مقرُّها البلدة القديمة في القُدس هدفها بناء الهيكل الثَّالث، على تنفيذ الوصيَّة التَّوراتيَّة بإقامة هيكل للرَّبّ “كَلِّمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَأْخُذُوا لِي تَقْدِمَةً… فَيَصْنَعُونَ لِي مَقْدِسًا لأَسْكُنَ فِي وَسَطِهِمْ” (سفر الخروج: إصحاح 25، آيات 2-8). منذ دمار الهيكل الثَّاني على يد الرُّومان، ساد الأوساط الدّينيَّة اليهوديَّة تيَّار يعارض إعادة بناء الهيكل قبل قدوم المخلّص، بحجَّة أنَّ الشَّريعة الدّينيَّة غير واضحة في هذا الشَّأن، على عكس موقف معهد الهيكل، الَّذي لا يرى أنَّ موانع إعادة البناء ليست شرعيَّة، بل فقط سياسيَّة. لا يخجل أعضاء معهد الهيكل من المطالَبة بهدم مُصلَّى قبَّة الصَّخرة وغير من الأبنية الدّينيَّة الإسلاميَّة على هضبة موريا لإعادة بناء الهيكل، بل ووُضع تصميم للهيكل تحت إشراف 20 من علماء اليهوديَّة، وفي ذلك ما يثير مخاوف المجتمع الدُّولي ممَّا قد تؤول إليه الأمور بعد تصريحات معهد الهيكل الاستفزازيَّة بشأن إعادة البناء.
جهود الحركات السّريَّة لإعادة بناء الهيكل
يعرف الجميع الآن أنَّ المنتمين إلى الحركات السّريَّة، سواءً الماسونيَّة (Freemasonry) أو الأخويَّات التَّنويريَّة (Illuminati)، يسعون إلى المشاركة في إعادة بناء الهيكل، الَّذي تنبني عليه كافَّة المحافل الماسونيَّة والشَّعائر الطَّقسيَّة؛ ربَّما لما للهيكل من “قداسة أو قيمة باطنيَّة” (ص19). خرج الأمر إلى العلن أوَّل مرَّة عندما نشرت صحيفة Illustrated London News البريطانيَّة في 28 أغسطس 1909م مقالًا تحت عنوان “The Freemason’s Plan to Rebuild Solomon’s Temple at Jerusalem-خطَّة البنَّائين الأحرار (الماسون) لإعادة بناء هيكل سليمان في أورشليم”.
اتَّبعت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكيَّة ذلك النَّهج، بنشر مقال تحت عنوان ” Solomon’s Temple: Scheme of Freemasons and Opinions of Jews on Rebuilding-هيكل سليمان: مخطَّط البنَّائين الأحرار وآراء اليهود حول إعادة البناء”، وذلك بتاريخ 22 سبتمبر 1912، أي بعد سابقتها البريطانيَّة بثلاث سنوات. وبحلول عام 1914، بدأت تُنشر تفاصيل غير مسبوقة، عن شراء الأرض الَّتي يقع عليها الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى سرًّا وبدء التَّخطيط لإعادة بناء الهيكل فعليًّا. ويتردَّد في أوساط الباحثين أنَّ تعاونًا صامتًا يجري حاليًا، ويتحيَّن الفرص والظُّروف والوقت المناسب لكي ينتقل الماسون ويشرعون في إعادة البناء، وحينها سيدخل المخلّص من البوابة الذَّهبيَّة. وإلى جانب أتباع العقائد الباطنيَّة، ينشغل أعضاء بعد الجماعات الدّينيَّة اليهوديَّة، من بينها جماعة مؤمن جبل الهيكل ومعهد الهيكل، هذه الآونة بتصميم الأوعية والملابس المقدَّسة الَّتي ستُستخدم في الهيكل.
دور “دونالد ترامب” في بناء الهيكل الثَّالث
يعتقد حاخامات اليهود أنَّ في وصول “دونالد ترامب”، وقتئذ كان لم يزل المرشَّح الجمهوري في السّباق الرّئاسي الأمريكي لعام 2016م، إلى سُدَّة الحُكم بفارق بسيط عن منافسته الدّيموقراطيَّة، قد ألقى الأساس الَّذي سيقيم دولة “إِنْسَانُ الْخَطِيَّةِ”، أو ضدّ المسيح (Anti-Christ)، كما يشير إليه “هورن” (2019)، مستخدمًا وصْف بولس الرَّسول له “لاَ تَتَزَعْزَعُوا سَرِيعًا عَنْ ذِهْنِكُمْ، وَلاَ تَرْتَاعُوا، لاَ بِرُوحٍ وَلاَ بِكَلِمَةٍ وَلاَ بِرِسَالَةٍ كَأَنَّهَا مِنَّا: أَيْ أَنَّ يَوْمَ الْمَسِيحِ قَدْ حَضَرَ. لاَ يَخْدَعَنَّكُمْ أَحَدٌ عَلَى طَرِيقَةٍ مَا، لأَنَّهُ لاَ يَأْتِي إِنْ لَمْ يَأْتِ الارْتِدَادُ أَوَّلًا، وَيُسْتَعْلَنْ إِنْسَانُ الْخَطِيَّةِ، ابْنُ الْهَلاَكِ” (رسالة بولس الثَّانية إلى أهل تسالونيكي: إصحاح 2، آيتان 2-3). نال ترامب تأييد كهنة الكنيسة الإنجيليَّة خلال حملته الرّئاسيَّة نهاية عام 2016م، كما نال قسطًا من دعواتهم خلال حفل تنصيبه رئيسًا في 19 يناير 2017م، وجرى الرَّبط بين شخصه والملك الفارسي الوثني “كورش”، الَّذي أعاد بني إسرائيل من السَّبي البابلي بعد أن غزا بابل عام 539 ق.م.، في إشارة إلى أنَّ الرَّبَّ قد قيَّد لدولة إسرائيل في الماضي حاكمًا غريبًا أعاد أبناءها إلى الطَّريق القويم وأسهم في بناء هيكلها المقدَّس. وقبل أشهر من إعلان فوزه، تنبَّأ الحاخام “متتياهو جلازرسون”، الخبير في شفرات الكتاب المقدَّس، أنَّ “ترامب” سيكون الرَّئيس المقبل، وأنَّه سيمهّد للقدوم الثَّاني للمخلّص، كما نشر موقع كاريزما نيوز في 14 أبريل 2016م.
أعدَّ الحاخام “جلازرسون” جدولين منفصلين من الشَّفرات، ووجد أنَّ كلمة “دونالد” تقع إلى جانب كلمة “رئيس” بالعبريَّة، كما اختصارًا لكلمة الولايات المتَّحدة بالعبريَّة، بالإضافة إلى 4 شفرات تشير إلى يومي 8 و9 نوفمبر، يوم الانتخابات وأوَّل يوم يشغل فيه “ترامب” موقع الرَّئيس المنتخَب في حال فوزه، وشفرات أخرى تعني “المنتخَب” و “الحب لإسرائيل”. واعتقد “جلازرسون” حينها أنَّ في انتخاب “ترامب” نُصرة لإسرائيل، خاصَّة بعد أن وجد رابطًا بين “ترامب” وكلمة “משיח”، ماشيح، وهو المخلّص؛ حيث اعتبر أنَّ انتخابه رئيسًا يبشّر بقرب مجيء المخلّص. لم يكن “جلازرسون” هو الحاخام الوحيد الَّذي استبشر بفوز “ترامب”، فهناك من الحاخامات مَن ربط بينه وبين كورش في مسألة إعادة بناء الهيكل، وهناك مَن قال إنَّ المخلّص ذاته هو الَّذي دعَّم “ترامب” في حملته، تأييدًا منه لدوره المستقبلي الفعَّال في مجيئه.
جدال واسع حول موقع هيكل أورشليم
يعيد هورن الحديث عن مسألة الجدال الواسع بين علماء الكتاب المقدَّس وعلماء الآثار بشأن موقع هيكل أورشليم، وينقل عن عالم الآثار الأمريكي “راندال برايس” ما صرَّح به خلال استضافته في برنامج Prophecy Watchers، المهتمّ بتحليل نبوءات الكتاب المقدَّس، في حلقة عنوانها ” Is the Temple Mount the Hoax of the Millennium? An Answer to the Current Controversy-هل جبل الهيكل خدعة الألفيَّة؟ ردُّ على الجدال الحالي”. يقصد برايس بذلك العنوان الرَّدَّ على ما أثاره “مايك إم. جوزيف”، عالم اللاهوت اليهودي، في كتابه (2011)، الَّذي يحمل العنوان “جبل الهيكل في أورشليم: خدعة الألفيَّة”، عن أنَّ الهيكل المقدَّس في اليهوديَّة قد يتفاجأ الجميع بأنَّ موقعه كان خدعة تناقلتها الأجيال. ويسوق “جوزيف”، يمني المولد وإسرائيلي النَّشأة، من الأدلَّة المستمدَّة من الكتاب المقدَّسة والرُّوايات التَّاريخيَّة الموثوقة ليهود ولمؤرّخين معاصرين من غير اليهود ما يثبت أنَّ الاعتقاد بأنَّ هضبة موريا، المقدَّسة لدى المسلمين والمسيحيين تمامًا مثل اليهود، هي موقع الهيكل ما هو إلَّا خدعة، لتقل هو “خدعة الألفيَّة”.
يتحدَّى عالم الآثار “راندال برايس” الرَّأي المعارض للاعتقاد بأنَّ الهيكل كان يقع على هضبة موريا، ولا يرى صحَّة أنَّ نبوءة يسوع المسيح بأنَّ هيكل أورشليم لم يبقَ فيه حجر على حجر تنفي ما يُشاع عن أنَّ الـ 10 آلاف حجر الَّتي أُثبت أنَّها تعود إلى عصر الملك هيرودس الكبير هي من حجارة الهيكل. يفنّد برايس كذلك أن تكون تلك الحجارة تعود إلى قلعة أنطونيا الَّتي بناها “هيرودس الكبير” في الزَّاوية الشَّماليَّة الغربيَّة من جبل الهيكل، تخليدًا لذكرى القائد الرُّوماني “مارك أنطونيوس”، على مساحة 35 فدَّانًا.
نموذج لقلعة أنطونيا
يُفترَض أنَّ الأجيال القديمة نسيت موقع هيكل أورشليم، لكنَّ الاكتشافات الأثريَّة ونصوص الكتاب المقدّسة أثبتت بلا جدال، بحسب قوله، أنَّ “هيكل سليمان وهيكل زروبَّابل وهيكل هيرودس بُنيت فوق مياه نبع جيحون (מעיין הגיחון)، الَّذي يقع جنوب شرقي أورشليم، وكانت مياهه نقيَّة وعذبة في الماضي”، نقلًا عن “هورن” (صـ74). يُقصد بهيكل زروبَّابل الهيكل الَّذي بناه بنو إسرائيل بعد عودتهم من السَّبي البابلي وأتمُّوا بناءه عام 515 ق.م، ثمَّ خضع للتَّجديد والتَّوسعة في عهد “هيرودس الكبير”، تحديدًا عام 20 ق.م، وأُطلق عليه هيكل هيرودس لما أُضيف إليه من عظمة وبهاء ورونق بعد تجديده. أمَّا نبع جيحون، ويُعرف كذلك باسم نبع أمّ الدَّرج ونبع العذراء، وهو يطلُّ على وادي سلوان في القُدس جنوب قبَّة الصَّخرة.
نبع جيحون في وادي سلوان-القُدس
ويؤكّد معارضو الاعتقاد السَّائد بأن هضبة موريا هي جبل الهيكل أنَّ البحث أثبت أنَّ تلك البقعة كانت تضمُّ مدينة داود، وهي المدينة الَّتي بناها “داود” بعد غزوه أورشليم، ويرد ذكرها في العهد القديم، في سفر صموئيل الثَّاني (إصحاح5، آيات 6-9) وفي سفر أخبار الأيَّام الأوَّل (إصحاح 11، آيتان 5 و7). إذا ما ثبت صحَّة هذا الزَّعم “الَّذي سيغيّر قواعد اللعبة”، فلا شكَّ أنَّ في ذلك يعني أنَّ “تاريخ الهيكل سيتغيَّر تغيُّرًا جذريًّا”، كما يرى “هورن” (صـ75). إذا صحَّ أنَّ هضبة موريا ليست موقع جبل الهيكل، فهذا يعني إمكانيَّة بناء الهيكل الثَّالث في أيّ موقع آخر؛ وهذا يزيل معضلة ضرورة هدْم مُصلَّى قبَّة الصَّخرة في سبيل تشييد الهيكل محلَّها؛ ويعجّل ذلك بدوره قدوم المخلّص. غير أنَّ هناك دليل من العهد القديم على عدم صحَّة الزَّعم بأنَّ “مدينة داود” هي الَّتي كانت فوق هضبة موريا، الَّتي تسمّيخا ترجمة الكتاب المقدَّس “جَبَلِ الْمُرِيَّا“، وليس الهيكل: “وَشَرَعَ سُلَيْمَانُ فِي بِنَاءِ بَيْتِ الرَّبِّ فِي أُورُشَلِيمَ، فِي جَبَلِ الْمُرِيَّا حَيْثُ تَرَاءَى لِدَاوُدَ أَبِيهِ، حَيْثُ هَيَّأَ دَاوُدُ مَكَانًا فِي بَيْدَرِ أُرْنَانَ الْيَبُوسِيِّ” (سفر أخبار الأيَّام الثَّاني: إصحاح 3، آية 1).
يُضاف إلى ما سبق أنَّ بناء الهيكل في “بَيْدَرِ” يؤكّد أنَّ البناء على بقعة مرتفعة عن الأرض؛ حيث كانت تُبنى البيادر في مناطق يسهل وصول الهواء الطَّلق إليها. يعني ذلك أيضًا أنَّ الهيكل لم يُبنَ فوع نبع جيحون؛ لأنَّ البيادر كانت عادةً متّسخة، ولا يمكن بناؤها بالقرب من ينابيع المياه. غير أنَّ هناك رأيًا يفترض أنَّ بناء الهيكل بالقرب من قناة للمياه الجارية ضروريٌّ للتَّخلُّص من دماء القرابين بعد ذبحها. وهناك أكثر من نصّ من العهد القديم يثبت أنَّ الهيكل بُني داخل مدينة داود فوق نبع جيحون، منها “وَيَكُونُ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ أَنَّ الْجِبَالَ تَقْطُرُ عَصِيرًا، وَالتِّلاَلَ تَفِيضُ لَبَنًا، وَجَمِيعَ يَنَابِيعِ يَهُوذَا تَفِيضُ مَاءً” (سفر يوئيل: إصحاح 3، آية 18)، و “ثُمَّ أَرْجَعَنِي إِلَى مَدْخَلِ الْبَيْتِ وَإِذَا بِمِيَاهٍ تَخْرُجُ مِنْ تَحْتِ عَتَبَةِ الْبَيْتِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ، لأَنَّ وَجْهَ الْبَيْتِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ. وَالْمِيَاهُ نَازِلَةٌ مِنْ تَحْتِ جَانِبِ الْبَيْتِ الأَيْمَنِ عَنْ جَنُوبِ الْمَذْبَحِ. ثُمَّ أَخْرَجَنِي مِنْ طَرِيقِ بَابِ الشِّمَالِ وَدَارَ بِي فِي الطَّرِيقِ مِنْ خَارِجٍ إِلَى الْبَابِ الْخَارِجِيِّ مِنَ الطَّرِيقِ الَّذِي يَتَّجِهُ نَحْوَ الْمَشْرِقِ، وَإِذَا بِمِيَاهٍ جَارِيَةٍ مِنَ الْجَانِبِ الأَيْمَنِ” (سفر حزقيال: إصحاح 47، آيتان 1-2).
ويشير “روبرت كورنيوك”، الكاتب الأمريكي ورئيس معهد الاستكشاف والبحث في آثار الكتاب المقدَّس (2014)، إلى أنَّ المؤرّخ اليهودي “يوسيفوس فلافيوس” يسرد في المجلَّد السَّادس من كتابه الحرب اليهوديَّة (The Jewish War) تفاصيل دمار الهيكل بالكامل عام 70 ميلاديًّا، ممَّا ينفي أيّ ادّعاء بأنَّ هناك بقايا لحجارة الهيكل، أو آثار من محتوياته. وتكفي شهادة العهد الجديد على لسان يسوع بنفسه على دمار الهيكل بالكامل: “ثُمَّ خَرَجَ يَسُوعُ وَمَضَى مِنَ الْهَيْكَلِ، فَتَقَدَّمَ تَلاَمِيذُهُ لِكَيْ يُرُوهُ أَبْنِيَةَ الْهَيْكَلِ. فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «أَمَا تَنْظُرُونَ جَمِيعَ هذِهِ؟ اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ لاَ يُتْرَكُ ههُنَا حَجَرٌ عَلَى حَجَرٍ لاَ يُنْقَضُ!»” (إنجيل متَّى: إصحاح 24، آيتان 1-2)، وهناك رواية أخرى للنُّبوءة: “وَفِيمَا هُوَ خَارِجٌ مِنَ الْهَيْكَلِ، قَالَ لَهُ وَاحِدٌ مِنْ تَلاَمِيذِهِ: «يَا مُعَلِّمُ، انْظُرْ! مَا هذِهِ الْحِجَارَةُ! وَهذِهِ الأَبْنِيَةُ!» فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ: «أَتَنْظُرُ هذِهِ الأَبْنِيَةَ الْعَظِيمَةَ؟ لاَ يُتْرَكُ حَجَرٌ عَلَى حَجَرٍ لاَ يُنْقَضُ»” (إنجيل مرقس: إصحاح 13، آيتان 1-2). من هنا، يؤكّد “روبرت كورنيوك” على أنَّ الموقع المنطقي للهيكل، الَّذي تدلُّ عليه الاكتشافات الأثريَّة والنُّصوص الكتابيَّة، على بُعد 1000 قدم من هضبة موريا، في مدينة داود.
وبرغم الأدلَّة على عدم صحَّة وجود الهيكل على هضبة موريا، يصرُّ عالم الآثار “راندال برايس” على رأيه، مشيرًا إلى عثور إحدى فرق التَّنقيب الإسرائيليَّة أواخر التّسعينات من القرن العشرين، وتحديدًا أسفل الحائط الجنوبي الغربي للمسجد الأقصى، على حجارة يُعتقد أنَّها تعود للهيكل. يرجّح “برايس” أنَّ الهيكل كان في وسط هضبة موريا، وبجواره قلعة أنطونيا الرُّومانيَّة في الزَّاوية الشَّماليَّة الغربيَّة، ويتحدَّى برايس بذلك الزَّعم بأنَّ القلعة كانت بمفردها فوق الهضبة، متسائلًا عن سبب تدمير الرُّومان لقلعة تخصُّهم. يعزّز عالم الآثار زعْمه بالإشارة إلى العثور على ختْم حجري صغير كُتب عليه بالآراميَّة ما يعني “نقي للرَّبّ”، معتبرًا ذلك الختم “الدَّليل الكتابي الأوَّل على إقامة الشَّعائر الدّينيَّة فوق هضبة موريا”، على أساس أنَّ ختمًا مثل ذلك كان يُستخدم في شؤون العبادة، نقلًا عن “هورن” (صـ85). ويُضاف إلى ذلك الختم جرس ذهبي صغير عُثر عليه في البلدة القديمة في القُدس، على مسافة قصيرة من هضبة موريا، ويُعتقد أنَّه استُخدم في طقوس الهيكل؛ حيث تشير تجهيزات خيمة الاجتماع، النَّموذج الأوَّلي للهيكل، في سفر الخروج إلى وجود أجراس، أو جلاجل، ذهبيَّة بين الأغراض المستخدمَة في إقامة الطُّقوس: “وَصَنَعُوا جَلاَجِلَ مِنْ ذَهَبٍ نَقِيٍّ، وَجَعَلُوا الْجَلاَجِلَ فِي وَسَطِ الرُّمَّانَاتِ” (سفر الخروج: إصحاح 39، آية 25). وإلى جانب ما سبق، يزعم “برايس” أنَّه عُثر عام 2006م، أثناء حفْر خندق للكابلات الكهربائيَّة، على آنية فخاريَّة تعود إلى العصر الحديدي الثَّاني (القرنين السَّابع والثَّامن قبل الميلاد)، ويُرجَّح أنَّها من عصر الملك المُصلح حزقيا، وكانت تُستخدم في حفظ الزَّيت في الهيكل الأوَّل.
الهيكل الثَّالث: معبر من محنة ضدّ المسيح إلى منحة المسيح
وردت في الكتاب المقدَّس عدَّة إشارات إلى تأسيس الهيكل الثَّالث؛ منها ما جاء في سفر حزقيال، الَّذي يصفه بدقَّة: “لَهُ سُورٌ حَوَالَيْهِ خَمْسُ مِئَةٍ طُولًا، وَخَمْسُ مِئَةٍ عَرْضًا، لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْمُقَدَّسِ وَالْمُحَلَّلِ” (سفر حزقيال: إصحاح 42، آية 20). وقد ذكَر بولس الرَّسول ذلك الهيكل في تحذيره من ضدّ المسيح، الَّذي سيعلن نفسه منه إلهًا على الأرض: “لاَ يَخْدَعَنَّكُمْ أَحَدٌ عَلَى طَرِيقَةٍ مَا، لأَنَّهُ لاَ يَأْتِي إِنْ لَمْ يَأْتِ الارْتِدَادُ أَوَّلًا، وَيُسْتَعْلَنْ إِنْسَانُ الْخَطِيَّةِ، ابْنُ الْهَلاَكِ. الْمُقَاوِمُ وَالْمُرْتَفِعُ عَلَى كُلِّ مَا يُدْعَى إِلهًا أَوْ مَعْبُودًا، حَتَّى إِنَّهُ يَجْلِسُ فِي هَيْكَلِ اللهِ كَإِلهٍ، مُظْهِرًا نَفْسَهُ أَنَّهُ إِلهٌ” (رسالة تسالونيكي الثَّانية: إصحاح 2، آيتان 3-4). ويرد ذكْر الهيكل الثَّالث كذلك في موضع آخر في العهد الجديد: ثُمَّ أُعْطِيتُ قَصَبَةً شِبْهَ عَصًا، وَوَقَفَ الْمَلاَكُ قَائِلًا لِي: «قُمْ وَقِسْ هَيْكَلَ اللهِ وَالْمَذْبَحَ وَالسَّاجِدِينَ فِيهِ. وَأَمَّا الدَّارُ الَّتِي هِيَ خَارِجَ الْهَيْكَلِ، فَاطْرَحْهَا خَارِجًا وَلاَ تَقِسْهَا، لأَنَّهَا قَدْ أُعْطِيَتْ لِلأُمَمِ، وَسَيَدُوسُونَ الْمَدِينَةَ الْمُقَدَّسَةَ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ شَهْرًا” (سفر رؤيا يوحنَّا اللاهوتي: إصحاح 11، آيتان 1-2). يوضح ذلك أنَّ بناء الهيكل الثَّالث سيسبق سنوات المحنة السَّبع؛ لأنَّ “ضدَّ المسيح” ما كان ليسمح ببنائه، لو أنَّه كان قد سيطر على مقاليد الأمور. وينقل “هورن” عن عالم اللاهوت الكندي، “جرانت آي. جيفري” (2007) قوله إنَّ ضدَّ المسيح سيلاحق الصَّالحين، وسيحاول تدمير هيكل الرَّبّ، وسيمرُّ اليهود في أيَّامه بفترة عصيبة.
غير أنَّ تلك المحنة العظيمة ستفضي في النّهاية إلى منحة أعظم، وهي قدوم المخلّص ليقضي على قوى الشَّرّ ويبدأ مرحلة جديدة من السَّلام العالمي. فمن الملفت أنَّ نبوءة النَّبيّ “ارميا” عن المحنة العظيمة تنتهي ببشارة بخلاص بيت يعقوب، أي بني إسرائيل، في النّهاية: “أَيَّامٌ تَأْتِي، يَقُولُ الرَّبُّ، وَأَرُدُّ سَبْيَ شَعْبِي إِسْرَائِيلَ وَيَهُوذَا، يَقُولُ الرَّبُّ، وَأُرْجِعُهُمْ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أَعْطَيْتُ آبَاءَهُمْ إِيَّاهَا فَيَمْتَلِكُونَهَا…لأَنَّهُ هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: صَوْتَ ارْتِعَادٍ سَمِعْنَا. خَوْفٌ وَلاَ سَلاَمٌ…آهِ! لأَنَّ ذلِكَ الْيَوْمَ عَظِيمٌ وَلَيْسَ مِثْلُهُ. وَهُوَ وَقْتُ ضِيق عَلَى يَعْقُوبَ، وَلكِنَّهُ سَيُخَلَّصُ مِنْهُ” (سفر ارميا: إصحاح 30، آيات 3-7). ويقول يسوع ما يحمل نفس هذا المضمون: “وَمَتَى ابْتَدَأَتْ هذِهِ تَكُونُ، فَانْتَصِبُوا وَارْفَعُوا رُؤُوسَكُمْ لأَنَّ نَجَاتَكُمْ تَقْتَرِبُ” (إنجيل لوقا: إصحاح 21، آية 28). يعني ذلك أنَّ الباقين من اليهود بعد مهلكة سنوات المحنة سينعمون أبدًا في ظلّ حُكم المخلّص. أمَّا عن المراحل الممهّدة لمجيء المخلّص، فهي: ظهور زعيم ديني عالمي يقود العالم بعد مرحلة من الفوضى والصّراعات؛ ثمَّ إبرام اتّفاقيَّة للسَّلام بعد أن ينجح الزَّعيم العالمي في إطفاء نار الحرب في الشَّرق الأوسط، وتُجبَر إسرائيل على الوصول إلى تسوية مع أعدائها؛ ثمَّ يحدث هجوم يأجوج ومأجوج بعد أن يخرق أعداء إسرائيل الهدنة، وحينها يُهزمون بتدخُّل إلهي بعد ظهور المخلّص.
المصدر: رسالة بوست