هل صار بناء الهيكل الثَّالث على أنقاض الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى قريبًا؟ 2من5
إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن
مساعٍ صهيونيَّة لهدْم الأقصى وبناء الهيكل محلَّه
يذكّر “بركو” (2010) بأهمّ محطَّات نشأة الحركة الصُّهيونيَّة أواخر القرن التَّاسع عشر على يد الصُّحافي والأديب النَّمساوي-المجري، “تيودور هرتزل” (2 مايو 1860م– 3 يوليو 1904م)، مشيرًا إلى توظيف اليهود لما سمَّاه “خرافات وأساطير التَّوراة المحرَّفة” لمنْح استعمارهم لأرض فلسطين التَّاريخيَّة صبغة دينيَّة (صـ39). يستشهد “بركو” بما أورده “أنيس منصور” (1973) عن حرْص السّياسيين الإسرائيليين “زلمان شازار” و “دافيد بن غوريون” و “موشيه دايان” على الصَّلاة عند حائط البراق، برغم ما يُدَّعى عن إلحاد ثلاثتهم. ويُنسب إلى بن غوريون قوله “لا قيمة لإسرائيل بدون القُدس، ولا قيمة للقُدس بدون الهيكل” (الجزيرة. نت،28 مايو 2015). وبرغم ما تتَّخذه الصُّهيونيَّة من هالة سياسيَّة، فهي في جوهرها حركة دينيَّة تقوم على أساس الاعتقاد في ظهور مخلّص من نسل الملك داود سيحكم العالم من القُدس ويسيطر على الكون من الهيكل، الَّذي تستند فكرته إلى العقائد الباطنيَّة. ولا يحسبنَّ البعض إنَّ فكرة بناء الهيكل ترتبط بدولة اليهود الحديثة؛ بل إنَّها تعود إلى القرن الثَّاني للميلاد، بأن نشأت حركة اسمها “باركو جنا”، دعت إلى تحدّي حظْر دخول اليهود للأرض المقدَّسة، الَّذي فرَضه الرُّومان، بعد تدمير هيكل هيرودس عام 70م، كما يشير “طعيمة” (1972). كما هو معروف، لا يتلقَّى مشروع تأسيس الهيكل الثَّالث دعمًا صهيونيًّا يهوديًّا فقط، إنَّما كذلك دعمًا صهيونيًّا مسيحيًّا؛ بل إنَّ الصُّهيونيَّة المسيحيَّة تحشد دعمًا هائلًا لإسرائيل، فيما يخصُّ بناء الهيكل على أنقاض الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى.
مصداقًا لقوله تعالى ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ”﴾ [سورة الأحقاف: الآية 10]، يستشهد بركو (2010) بآراء عدد من المؤرّخين وعلماء الآثار اليهود على عدم وجود أدلَّة معتبَرة على ارتباط اليهود بمدينة القُدس، أو بناء هيكل بالمواصفات الواردة في العهد القديم في الموقع الَّذي يشير إليه اليهود، وهو هضبة موريا، وتحديدًا حول الصخرة المشرَّفة، الَّتي يعتبرونها قُدس الأقداس. وكما يذكر العسكري (مايو 2007)، لم يجد عالم الآثار اليهودي الرَّائد، “إسرائيل فلنكشتاين”، أدلَّة ملموسة تثبت صحَّة بناء هيكل على هضبة موريا، أو أدلَّة تثبت حدوث ما ترويه أسفار العهد القديم عن قصَّة تأسيس دولة إسرائيل الأولى بعد الخروج من مصر. ويضيف العسكري في المقال نفسه إنَّ عالم الآثار اليهود مائير بن دوف قد أعلن عدم وجود آثار للهيكل تحت الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، مؤكّدًا عدم وجود صلة بين هيكل هيرودس والصَّخرة المشرَّفة. يشير بركو كذلك إلى رأي عالم الآثار “زئيف هيرتزوج”، الَّذي كان رئيس لقسم الآثار بجامعة تل أبيب، وصرَّح لصحيفة هآرتس الإسرائيليَّة في 28 نوفمبر 1999م، كما يذكر “فرج الله أحمد يوسف” (سبتمبر 2006):
إنَّ الحفريَّات المكثَّفة في أرض إسرائيل خلال القرن العشرين، قد أوصلتنا إلى نتائج محبطة. كلُّ شيء مختلَق، ونحن لم نعثر على شيء يتَّفق والرُّواية التَّوراتيَّة. إنَّ قصص الآباء في سفر التَّكوين مجرَّد أساطير…إنَّ مملكة داود وسليمان الَّتي توصف في التَّوراة بأنَّها دولة عظيمة، كانت في أفضل الأحوال مملكة قبليَّة صغيرة…إنَّني أدري بوصفي واحدًا من أبناء الشَّعب اليهودي، وتلميذًا للمدرسة التَّوراتيَّة، مدى الإحباط النَّاجم عن الهوَّة بين آمالنا في إثبات تاريخيَّة التَّوراة، والحقائق الَّتي تتكشَّف على أرض الواقع.
وبسبب عدم وجود آثار تاريخيَّة مقنعة ترجع إلى فترة الوجود اليهودي في الأرض المقدَّسة، لجأ اليهود، كما يشير “بركو” (2010) إلى التَّزوير، من خلال تزييف الآثار القديمة. نقلًا عن “يوسف” (2006)، قدَّم باحث إسرائيلي في علم الآثار، يُدعى “نحمان أبيجاد”، أطروحة للدُّكتوراه حاول في إثبات إنَّ الأثر المعروف بـ “طنطورة فرعون”، والقائم شمال شرقي القُدس، أثرٌ يرجع إلى زمن الملك داود، أي مطلع الألفيَّة الأولى قبل الميلاد، بل وأطلق عليه اسم أحد أبناء “داود”. غير أنَّ “جدعون فرستر”، أستاذ علم الآثار بالجامعة العبريَّة، أثبت أنَّ الأثر مسيحي يعود إلى فترة الوجود الإغريقي في الأرض المقدَّسة، بعد عثوره على نقوش باليونانيَّة القديمة. وقد أكَّد الباحث في تاريخ القُدس، روبين أبو شميسة، إنَّ الأثر يعبّر عن تمازُج الإرثين الحضاريين الإغريقي والفرعوني (المركز الفلسطيني للإعلام، 11 أبريل 2018).
وترجع آثار تلك المنطقة، الواقعة أسفل السَّفح الغربي للجزء الأخير الجنوبي من جبل الزيتون المقابل للجزء الشَّرقي من سور الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى والقُدس، إلى القرن الأوَّل قبل الميلاد، كما يرجّح علماء الآثار، أي بعد 9 قرون من الفترة الَّتي ادَّعاها أبيجاد! يضيف “يوسف” (2006) أنَّ الحزب القومي الدّيني في دولة الاحتلال الإسرائيلي أعلن في 12 يناير 2003م العثور على لوح حجري بالقرب من الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى نُقش عليه بالفينيقيَّة، مدعيًا أنَّه يرجع إلى عام 2800 ق.م.؛ وقد مُنح اللوح اسم “نصّ يشوع”، وادُّعي أنَّه يرجع إلى ترميم خضع له هيكل أورشليم. غير أنَّ إدارة الآثار في إسرائيل أثبتت أنَّه اللوح زائف ومنقوش حديثًا. ويشير يوسف إلى رأي المؤرّخ الفرنسي فرانسيس نيوتن، القائل إنَّ فلسطين ليس بها نقْش واحد يُنسب إلى المملكة العبريَّة القديمة، وإن كان مبرّر ذلك هو أنَّ الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة دمَّرت آخر ممالك بني إسرائيل في الأرض المقدَّسة في القرنين الأوَّل والثَّاني للميلاد. ويؤيّد الباحث “كيث وايتلام”، رئيس قسم الدّراسات الدّينيَّة بجامعة ستيرلنغ الأسكتلنديَّة، ذلك الرَّأي، بتأكيده على إنَّ غياب سجلّ تاريخي واضح للإمبراطوريَّة الإسرائيليَّة المزعومة يدفع إلى الاعتقاد بأنَّ وجودها مجرَّد خيال.
ويعدّد “بركو” (2010) محاولات علماء الآثار المتخصّصين في التَّاريخ اليهودي لإثبات زيف مزاعم وجود هيكل في القُدس على هضبة موريا من قبل، مشيرًا إلى حالة المؤرّخ الأمريكي “توماس تومسون” وما تعرَّض له من تنكيل بسبب تناوُله في أطروحته للدُّكتوراه صعوبة إثبات حدوث القصص الواردة عن آباء بني إسرائيل المؤسّسين في العهد القديم. اضطر “تومسون” إلى احتراف طلاء المنازل، بعد طرْده من جامعة توبنجن الألمانيَّة، الَّتي رفضت منْحه الدَّرجة العلميَّة؛ كما طُرد من إحدى الجامعات الأمريكيَّة بعد أن نُشرت مراجعة لكتابه Early history of the Israelite people (1992)، أي التَّاريخ المبكر للشَّعب الإسرائيلي، ادَّعى فيه عدم وجود مملكة داود من الأصل. يشير “بركو” كذلك إلى إثبات الباحثة البريطانيَّة “كاثلين كينون” تناقُض الآثار الموجودة في القُدس مع التَّوراة، بعد حفريَّات أجرتها في الفترة ما بين عاميّ 1961 و1967م.
2.تحذير من مخطَّط هدْم الْمَسْجِد الْأَقْصَى
يوجّه “عبد بن محمَّد بركو” (2010) تحذيرًا من المخاطر المحدقة بالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، في ظلّ استمرار أعمال حفْر الأنفاق أسفل المسجد، وإصرار اليهود على هدْمه ضمن مخطَّط تهويد فلسطين التَّاريخيَّة. ويبدأ الباحث بالإشارة إلى إنَّ محاولات الحفر تحت سور القُدس الجنوبي ليست حديثة، إنَّما بدأت عام 1884م، كما يذكر “مارديني” (2003)، مضيفًا أنَّ محاولات الاستيلاء على حائط البراق بدأت عام 1839م، كما ينقل عن “أبو زيد” (2007). أمَّا أوَّل محاولة للتَّنقيب تحت مُصلَّى قبَّة الصَّخرة، فقد تمَّت عام 1911م، كما يشير “فرج الله أحمد يوسف” (2004). ويُجمل بركو رأيه عن محاولات التَّهويد الصُّهيونيَّة (صـ71) بقوله:
لقد اتَّبع الصَّهاينة على الدَّوام سياسة الخطوة خطوة في ابتلاع فلسطين منذ بدايات السَّيطرة على حائط البراق، مرورًا بالحفريَّات الصُّهيونيَّة المتواصلة قُرب وتحت أساسات الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى المبارك، والمحاولات الفعليَّة لهدْم وإحراق الأقصى المبارك، وصولًا إلى الواقع الرَّاهن المؤلم للمسجد الأقصى، في ظلّ تسارُع عمليَّات الحفر وتواتُر الأنباء عن قُرب تنفيذ الصَّهاينة لجريمة هدْم الأقصى وبناء “هيكلهم” المزعوم، الَّذي لا وجود له إلَّا في مخيَّلتهم المريضة وأطماعهم المشبوهة.
كما يؤكّد “أبو زيد” (2007)، حاول المهاجرون اليهود إلى الأرض المقدَّسة، الَّذين وجدوا منفذًا إليها من خلال الامتيازات الَّتي مُنحت للأقليَّات الدّينيَّة في الدَّولة العثمانيَّة في مرحلة ضعفها وأفولها، عام 1839م الحصول على حق مكتسب في حائط البراق، بأن طلبوا إلى السَّفير البريطاني في القُدس تبليط الرَّصيف المواجه للحائط. وبعد فشل تلك المحاولة، عملوا عام 1911م على إحضار كراسي للجلوس عند الصَّلاة أمام الحائط، ثمَّ إقامة ساتر بين الرّجال والنّساء في الصَّلاة. غير أنَّ الدَّولة العثمانيَّة أصدرت مرسومين، عام 1840م و1911م، ينصَّان على أنَّ حائط البراق وقف إسلامي، وينسفان مزاعم اليهود بوجود حقّ لهم في تلك البقعة. وقد انتهت ثورة البراق، الَّتي اندلعت في أغسطس 1929م بعد محاولة اليهود تغيير وضْع الحائط الغربي للْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وادّعاء أنَّهم لهم، بعد إقرار لجنة شكَّلها الانتداب البريطاني بأحقيَّة المسلمين دون غيرهم في الحائط، كما يشير “أبو الحسن” (1990). ويؤكّد “فودة” (1969) إنَّ قرار تلك اللجنة البريطانيَّة قد اكتسب شرعيَّة دوليَّة بعد مصادقة مجلس عصبة الأمم عليه في 14 يناير 1930م؛ فأصبح بذلك وثيقة ذات اعتراف دولي لا تقبل النّزاع. لم يتغيَّر وضْع حائط البراق حتَّى 14 مايو 1948م، وقت انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين وإعلان دولة الاحتلال في اليوم التَّالي، حينما أصبحت تلك الوثيقة لا يُعتدُّ بها، في ظلّ الهيمنة الإسرائيليَّة على المقدَّسات الإسلاميَّة. استغلَّ اليهود احتلال الضَّفَّة الغربيَّة لنهر الأردن خلال حرب يونيو 1967م في فرْض سيطرتهم على البلدة القديمة في القُدس، وحينها، كما يروي “أبو زيد” (موقع مدينة القُدس، 24 نوفمبر 2007):
هدموا جميع مساجد حيّ المغاربة، ومنها مسجدان وزاويتان، وأصبحت هناك مساحة واسعة من الجدار الغربي للحرم حتَّى باب المغاربة جنوبًا وباب السّلسلة شمالًا، واستعملوا هذه المساحة للصَّلاة. وفي 27 يونيو 1967، ضمَّ الصَّهاينة كلَّ المدينة إلى كيانهم المصطنع، وألغوا البلديَّة العربيَّة، وأرهبوا السُّكَّان للخروج، وسلبوا بيوتهم وأراضيهم وأُعطيت لمهاجرين يهود. وفي 18 أبريل 1968 نشرت الجريدة الرسميَّة “الإسرائيليَّة” أمرًا باستملاك جميع الأراضي ومساحتها 29 فدانًا ما بين الحائط الغربي للحرم الشريف شرقًا وحي الأرمن غربًا. وتم تنفيذ هذا الأمر فورًا دون إعطاء إنذار، مما أدَّى إلى إخراج ستة آلاف عربي من بيوتهم ومتاجرهم ومصانعهم.
وفي 1969 صادرت “إسرائيل” قطعتيْن من الأرض ملاصقتين للحرم الشَّريف من جهة حائط البراق كان على إحداهما مقرّ مفتي الشافعيَّة وعائلة أبي السعود، وهم خدم الحرم الشَّريف على مدى قرنيْن من الزمان ثم هدمت بيوتهم. وكان على القطعة الأخرى بناء المحكمة الشرعيَّة الَّذي شيَّده العثمانيّون العام 1328، ثم جعل في عهد الإنجليز منزلًا لرئيس المجلس الإسلامي الأعلى. وبهذا تكون “إسرائيل” قد اغتصبت حائط البراق وأعلنت ملكيَّة اليهود له بالقوَّة، بعد أنْ وقف لهم الحكام والولاة المسلمون بالمرصاد عبر قرنيْن من الزَّمان وحالوا دون امتلاكهم لهذا الوقف الإسلامي.
هذا، وقد أثار “أبو زيد” (2005) مسألة في غاية الحساسيَّة، وهي اشتمال خطوات تهويد القُدس على مصادرة مدارس الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وتخريبها؛ ممَّا أدَّى إلى إزالة 14 دارًا دينيَّة وأثريَّة بحلول عام 1969م. وقد أفضت الحفريَّات في محيط الأقصى إلى تصدُّع الأبنية المجاورة؛ فسارعت قوَّات الاحتلال الإسرائيلي بإزالة تلك الأبنية وبناء أحياء يهوديَّة، في محاولة لتطويق المسجد وتهويده. وكما سبقت الإشارة، بدأت أعمال الحفر والتَّنقيب في محيط الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى عام 1884م على عالم الآثار “مودسلي”، لكنَّ العرب من سُكَّان القُدس انتبهوا إلى خطورة أعمال الحفر تلك وأوقفوها. أعاد البريطاني “مونتاحو باركر” المحاولة عام 1911م، بعد عامين من حصوله على فرمان عثماني رسمي للبحث عن مخبأ الهيكل، الَّذي يحتوي على تابوت عهد الرَّبّ، كما يخبر سفر حزقيال. ولمَّا عجَز باركر عن العثور على التَّابوت المزعوم، دفَع الأثري البريطاني رشوة إلى عزمي بك، الحاكم العثماني للقُدس، للسَّماح له بالتَّنقيب تحت مُصلَّى قبَّة الصَّخرة مع 4 من معاونيه. غير أنَّ أحد حرَّاس الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى انتبه لمحاولة التَّنقيب الَّتي قام بها باركر ورفاقه ليلة 18 أبريل 1911م، وتمكَّن المقدسيون من حماية المسجد من عبث الفريق البريطاني، الَّذي لاذ بالفرار بمعاونة الوالي العثماني، مع أشدّ الأسف. استُأنفت أعمال الحفر بعد السَّيطرة الإسرائيليَّة على البلدة القديمة في القُدس عام 1967م، ويوضح “يوسف” (2004) إنَّ التَّنقيب تمَّ في 4 مراحل متتالية، تستمرُّ رابعها إلى وقت إنجاز دراسته. أمَّا المرحلة الأولى، فبدأت ما بين عاميّ 1967 و1968م، على امتداد 70 مترًا، وعمق 14 مترًا، وكانت أسفل الحائط الجنوبي للمسجد الأقصى، لتبدأ المرحلة الثَّانية من حيث انتهت الأولى على امتداد 80 مترًا، وتمتدُّ حتَّى باب المغاربة. استمرَّت المرحلة الثَّانية من الحفر حتَّى عام 1970م، وانتهت ببدء المرحلة الثَّالثة، الَّتي استمرَّت بدورها حتَّى عام 1972م، على امتداد 180 مترًا وعمق ما بين 10 و14 مترًا. شملت المرحلة الثَّالثة للحفر 5 من أبواب الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، هي السّلسلة، والمطهرة، والقطَّانين، والحديد، وعلاء الدّين البصيري، وقد بدأت أسفل المحكمة الشَّرعيَّة، الَّتي بُني أسلفها كنيس يهودي.
وصلت حفريَّات المرحلة الرَّابعة إلى محراب الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ، وقد افتتحت قوَّات الاحتلال النفق في 24 سبتمبر 1996م، بعد أن فجَّر المقدسيون تلك القضيَّة أمام الرَّأي العام، فيما عُرف حينها بـ “هبَّة النَّفق”، حينما خرج الشَّعب الفلسطيني بكافَّة طوائفه في مسيرات للتَّنديد بأعمال الحفر اللئيمة يوم 25 سبتمبر 1996م. استمرَّت تلك الهبَّة الشَّعبيَّة 6 أشهر، وراح ضحيَّتها عشرات القتلى، كما أصيب أكثر من 1600 مواطن، بعد أن تعاملت قوَّات الاحتلال مع التَّظاهرات السّلميَّة ” بإطلاق الرصاص بكثافة، كما استُخدمت المروحيات والدبابات بالإضافة لاشتراك المستوطنين في إطلاق النار على المواطنين (المركز الفلسطيني للإعلام، 26 سبتمبر 2020). ويؤكّد “بركو” (2010) أنَّ وتيرة أعمال الحفر أسفل الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى تسارعت في السَّنوات الأخيرة، وهو ما يحذّر منه القائمون على المسجد المبارك من علماء الإسلام التَّابعين لدائرة الأوقاف الأردنيَّة. وقد صرَّح الشَّيخ محمَّد حسين، مفتي القُدس والدّيار الفلسطينيَّة حينها وإمام الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، لمجلَّة الوعي الإسلامي، الصَّادرة عن وزارة الأوقاف الكويتيَّة، في فبراير 2007م، بوجود شبكة من الأنفاق أسفل القُدس، بمحاذاة المسجد المبارك، أحدها يدخل إلى ساحة البراق، مشيرًا إلى وجود أنفاق أخرى يتعذَّر الوصول إليها.
ويذكّر بركو بإنشاء مؤسَّسة الأقصى لإعمار المقدَّسات عام 2000م، على يد الشَّيخ المقدسي “رائد صلاح”، رئيس الحركة الإسلاميَّة في الدَّاخل الفلسطيني، بهدف حماية المسجد المبارك من أيادي العبث الصُّهيونيَّة. وقد أطلق الشَّيخ رائد صلاح في 10 مارس 2008م صيحة تحذير من العبث بأمن الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، خلال مؤتمر صحافي نظَّمته مؤسَّسة الأقصى لإعمار المقدَّسات. عُرض خلال المؤتمر فيلم يوضح الحفريَّات المتشعّبة ومتعدّدة الاتّجاهات أسفل المسجد، منبّهًا إلى تأسيس الاحتلال الإسرائيلي كنيسًا يهوديًّا تحتيًّا في موقع حمام العين، الَّذي كان وقفًا إسلاميًّا استولت عليه قوَّات الاحتلال في السَّابق. يوضح الفيلم ما يشبه مدينة تحتيَّة كاملة أسفل الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى؛ وهذا ما أغرى الشَّيخ رائد صلاح بالتَّصريح بقوله “أمام هذا المشهد المروّع نستصرخ الأمَّة جمعاء…أنقذوا الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى حتى لا يُهدم” (الجزيرة نت، 10 مارس 2008).
وبرغم عجْز الاحتلال الإسرائيلي عن العثور على أثر واحد أسفل الْمَسْجِد الْأَقْصَى يثبت للجميع وجود هيكل أورشليم في تلك البقعة من قبل، فهناك إصرار على مواصلة التَّنقيب؛ الأمر الَّذي يُرجعه “بركو” (2010) إلى عدَّة أسباب، من بينها: إضعاف أساسات الأبنية المحيطة بالأقصى وتسهيل انهيارها وبناء كُنُس يهوديَّة تحتيَّة تقنّن الوجود اليهودي في تلك البقعة؛ وتصديع أساسات الْمَسْجِد الْأَقْصَى ، خاصَّةً مع استخدام حوامض لإذابة الأساسات، تمهيدًا لهدْمه من خلال هزَّة أرضيَّة طبيعيَّة أو مصطنعة؛ وتهويد القُدس بعد إزالة كافَّة المعالم الإسلاميَّة ومحو الهويَّة العربيَّة. وتدخل في إطار مخطَّط تهويد القُدس عدَّة خطوات، يأتي على رأسها تدمير الآثار الإسلاميَّة؛ وطمْس معالم الآثار الموجودة واستبدالها بأخرى تعبّر عن الهويَّة اليهوديَّة؛ ومصادرة بيوت المقدسيين في محيط الأقصى لتأسيس أحياء لليهود؛ وتدنيس الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ونزْع قدسيَّته من خلال التَّغاضي عن الاقتحامات اليهوديَّة، بل وتسهيلها حتَّى وصل الأمر إلى السَّعي إلى تأسيس مدرسة توراتيَّة دائمة في السَّاحة الشَّرقيَّة للمسجد. وقد أرسلت جماعات “المعبد” المتطرّفة التماسًا في هذا الصَّدد إلى وزير الأمن الدَّاخلي الإسرائيلي لبدء مخطَّط هو بمثابة “نقطة انطلاق للتَّقسيم المكاني” (المركز الفلسطيني للإعلام، 16 نوفمبر 2020).
لم يخفِ حاخامات اليهود يومًا رغبتهم في هدْم الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وتأسيس الهيكل الثَّالث في موقعه، وتحديدًا في موقع مُصلَّى قبَّة الصَّخرة؛ وقد عبَّر الحاخام “مائير كاهانا”، رئيس حزب كاخ المتطرّف وعضو الكنيست سابقًا، عن ذلك بقوله، كما يذكر بيان رابطة علماء فلسطين (2 أبريل 2007، صـ15):
إنَّ إزالة الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وقبَّة الصَّخرة واجبٌ يقتضيه الدّين اليهودي، وإنَّ المعركة دينيَّة ولكلّ شعب إله يحميه، وإذا استطاع الله أن يحمي مساجده، فليفعل في مواجهة التَّصميم اليهودي على إعادة بناء الهيكل محلّ المساجد الإسلاميَّة.
ويسرد البيان ذاته لرابطة علماء فلسطين (2 أبريل، 2007) واقعة تاريخيَّة ترجع إلى 15 أغسطس من عام 1967م، حينما دخل الحاخام الإسرائيلي الأكبر، “شلومو غورين”، إلى ساحة الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، برفقة عشرين من ضبَّاط الجيش، وهو يرتدي الزَّيَّ العسكري ويمسك برشَّاش، وأخذ يجري قياسات، ثمَّ وقف لأداء الصَّلاة اليهوديَّة الَّتي شاركه فيها مرافقوه. وتعدُّ أشهر واقعة اعتداء يهودي على الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى هي محاولة حرْقه في 21 أغسطس 1969م على يد سائح أسترالي يُدعى دينيس “مايكل موهان”، مكث في أحد فنادق القُدس بضعة أشهر قبل تنفيذ الحرق. المفارقة ليست فقط في الإفراج عنه بحجَّة أنَّه مصاب بمرض نفسي، إنَّما كذلك في ادّعاء إنَّ الحريق نشب نتيجة لخلل كهربي، قبل أن تعترف الحكومة الإسرائيليَّة بالجريمة الَّتي ارتكبها متطرّف ينتمي إلى جماعة الكنيسة الإلهيَّة، تحت إشراف معهد تورات كوهانيم الدّيني، الَّذي تأسَّس عام 1969م لتخريب المقدَّسات الإسلاميَّة. ومنذ 30 يناير 1976م، أصبح لليهود الحقُّ في الصَّلاة في ساحات الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى بمقتضى حُكم إحدى المحاكم الإسرائيليَّة، وإن اقتصر ذلك على الفترة ما بين صلاتيّ الفجر والظُّهر.
ومن الفواجع الَّتي مرَّ بها المسجد المبارك محاولة لنسْفه في 1 مايو 1980م، حيث اكتُشفت حينها كميَّة كبيرة من مادَّة شديدة الانفجار فوق سطح معبد يهودي قريب من الأقصى، وتبيَّن أنَّ الحاخام “مائير كاهانا” كان يدبّر لتفجير المسجد. ويبدو أنَّ “كاهانا” لم ييأس، حتَّى هلاكه عام 1990م، من محاولة إزالة المسجد لتأسيس الهيكل؛ حيث اقتحم الأقصى في أبريل 1982م مع مجموعة من المتطرّفين وحملوا جميعًا صورًا لهضبة موريا دون وجود الأقصى عليها. وقع ذلك بعد اكتشاف نفق يمتدُّ من حائط البراق إلى ساحة الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وقيل حينها أنَّه ضمن مخطَّط تأسيس الهيكل الثَّالث، الَّذي وضع مجموعة من متطرّفي اليهود حجر الأساس له في 17 أكتوبر 1989م، وقد صرَّح “جرشون سلمون”، رئيس منظَّمة أمناء الهيكل، بأنَّ عهدًا جديدًا قد بدأ بعد انتهاء ما أطلق عليه “الاحتلال الإسلامي”. وينقل “بركو” (2010) عن الصُّهيوني “أوري زاموش” قوله إنَّ من أهداف الحفريَّات أسفل الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى “أن تؤدّي إلى انهيار أساسته في حال ضرَب زلزال المنطقة” (صـ82). وقد نشر الموقع الرَّسمي لحركة فتح بلبنان عن وجود تنسيق بين الحاخاميَّة الكبرى والمؤسَّسة العسكريَّة في إسرائيل لافتعال زلزال اصطناعي ينهار على إثره الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى (فليسطيننا، 6 مارس 2012).
ما سبقت الإشارة إليه من محاولات لهدْم الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى المبارك ليست إلَّا نماذج معبّرة عن جديَّة الاحتلال الإسرائيلي في إزالة المسجد من الوجود، خاصَّة إذا ما وضعنا في الاعتبار أنَّ القضاء على كافَّة المِلل والشَّرائع غير اليهوديَّة من أهمّ مخطَّطات حكماء اليهود. فالبروتوكول التَّاسع من بروتوكولات حكماء صهيون يقول، نقلًا عن “صابر ” (1972)، “إنَّ مطامعنا غير محدودة، وجشعنا نهم، وتعصُّبنا شديد، وحقدنا عنيف؛ ولذلك نتوق إلى انتقام لا رحمة فيه”؛ ويقول البروتوكول الرَّابع عشر (صـ45):
عندما نصبح أسياد الأرض، لن نسمح بقيام دين غير ديننا…من أجل ذلك، يجب علينا إزالة العقائد، وإذا كانت النتيجة التي وصلنا إليها مؤقتًا قد أسفرت عن خلق الملحدين، فإن هدفنا لن يتأثر بذلك…بل يكون ذلك مثلًا للأجيال القادمة الَّتي ستستمع إلى دين موسى، هذا الدّين الذي فرض علينا مبدؤه الثَّابت النَّابه وضع جميع الأمم تحت أقدامنا.
يُذكر في هذا السّياق دعوة أطلقتها جماعات من المستوطنين اليهود مطلع عام 2021م، اقترحت “تفكيك” مُصلَّى قبَّة الصَّخرة وإعادة بناءه في موقع آخر؛ بغية تأسيس الهيكل الثَّالث في موقعه، أي حول الصَّخرة المعلَّقة. تتزامن تلك الدَّعوة مع ازدياد وتيرة الاقتحامات اليوميَّة للمستوطنين اليهود للمسجد الْأَقْصَى، في حماية قوَّات أمن الاحتلال، وعلى حساب الارتياد اليومي المعتاد للمصلّين المقدسيين؛ وقد استجابت سُلطة الاحتلال إلى تلك الدَّعوة بإجراء مسْح لصحن المُصلَّى. وقد صرَّح الشَّيخ “عمر الكسواني”، مدير الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، بأنَّ سُلطة الاحتلال الغاشم تتعمَّد إعاقة وصول المصلّين المسلمين إلى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى بحجَّة تفشّي فيروس كوفيد-19 المعدي، مسجّلًا اعتراض دائرة الأوقاف الإسلاميَّة بالقُدس على إجراء المسح والقياس، ومحمّلًا سُلطة الاحتلال “كامل المسؤوليَّة عن هذا الانتهاك بحق الْمَسْجِد الْأَقْصَى” (القُدس العربي، 13 يناير 2021).
المصدر رسالة بوست