ما يُؤمل من مساعي التجديد في نهاية المطاف هو تقديم تأويلات وتوضيحات وتوجيهات وفتاوى يُفترض بها أن تقوم على الرشد وتعين على تنوير الأفهام وإصلاح الأعمال. لكنها في أفضل الأحوال ستكون إضافة لما هو متاح من تأويلات وتوضيحات وتوجيهات وفتاوى، وقد لا تتأتّى لها إزاحة ما كان من قبل. وسيكون على الأفراد وقطاعات الجمهور تخيُّر التأويل والفتوى من بين “الخيارات” المتعددة المتاحة. وبهذا؛ فإنّ جانباً من المعضلة يتعلّق بخيارات التلقي والانتقاء في مجتمعات يغلب عليها التشنج والانشداد إلى تفضيلات مسبقة.
لم تَعُد مجتمعات اليوم مسوّرة أو مغلقة على قراءة مركزية، فالجمهور بات يطلب الخطبة والدرس والتوجيه والفتوى بصفة مستقلة عن الجغرافيا أو عن المركزيات المحلية التقليدية. وقد يبدو أحياناً أنّ كلاً يبحث عن فتواه المفضلة والقراءة التي تلائم توجهاته واختياراته المسبقة.
بعد الاعتداءات التي يرفع فيها نفر من الغلاة المتوحشين رايات إسلامية زائفة؛ يسوق بعض المنادين بتجديد الخطاب الديني فرضية تؤكد أهمية مسعاهم لدرء ما يقع في الميدان. والحال أنّ تجديد الخطاب لا يتعهد بقطع دابر هذه الاستعمالات المسيئة، وإن كان يتصدى لمسؤولية نزع الشرعية الدينية عن المسلك الذي يحاول تبرير ذاته بما يقدِّسه القوم ويعظمونه. فالمجتمعات المتوترة والأوساط المتشنجة تميل إلى استعمال النصوص والقيم والشعارات والمقولات المنبثقة عن مرجعيات أممها ومجتمعاتها بطريقة انتقائية ووظيفية. ولا يخفى في هذا المقام أنّ للمتطرفين والمتشددين سلوكهم النمطي مع النص، الذي يقوم على الاستدعاء الساذج والتوظيف التلفيقي وفق أحكام مسبقة.
لن يُعدَم خطاب التطرف أقوالاً في القديم والحديث يجري التنقيب عنها وانتزاعها انتقائياً من سياقاتها لشرعنة المسلك المتطرف. سيتواصل هذا المنحى حتى مع تقديم معالجات الخطاب الديني الرشيد. ثم إنّ المعالجات الرشيدة القائمة في الواقع لم تقطع دابر القراءات المتشددة، وإن حاصرتها في بعض الأوساط. فصحيح أنّ بعض القراءات المتاحة للنص تحض على التطرف بشكل مباشر أو غير مباشر؛ لكن من الإنصاف القول إنّ القراءات الرشيدة والمعتدلة وحتى المائعة والهلامية لم تكن غائبة أيضاً، وإن لم يقع الاكتراث بها أحياناً أو تسليط الأضواء عليها.
تمنح مقولة إصلاح “الخطاب” انطباعاً بانتفاء غيره من الخطابات التي تتذرع بالمرجعية الدينية و/أو الثقافية ذاتها، مع ملاحظة أنّ المسألة قد تتعلق بضعف في إدراك خطابات قائمة أو منزوية أو كامنة. ومن التعسف الزعم بأنّ إصلاح خطاب ما سيقضي بطمس سابقه أو تقويضه بالكامل، فالحصيلة المتوقعة هي إضافة خطاب جديد إلى فضاء الخطابات أو استحداث نسخة معدّلة مما هو قائم، وسيواصل بعضهم ميلهم إلى نسخ سابقة بدل الجديدة، وستبقى لكل من هذه الخطابات أدبيات تستفيض بها ورموز تعبِّر عنها.
من المهم، بالتالي، عدم تجاهل واقع بيئات التلقي التي تتفاعل بدورها مع الخطابات وتميل لاختيارات معيّنة منها. سنجد على سبيل المثال أنّ الحمّى الطائفية التي تؤججها الاستراتيجيات والسياسات والحروب والدعاية، كفيلة بأن تطمس من الوعي خطاب “التقريب” لصالح خطاب “المفاصلة”، لكنّ الخطابيْن قائمان وإن نفخت بيئات التلقي وما يتفاعل فيها الروح في أحدهما على حساب الآخر.
هل تُفلح المراهنة على تجديد الخطاب الديني إن غاب الإنسان وبقيت أظفاره وأنيابه وآلته الحادة؟ وأي تجديد يُرجَى ممن يجترئون على الخطاب الديني وحده بينما ترتعد فرائصهم من مناقشة الواقع الضالع في إنتاج حالة التطرف، ربما خشية فقدان امتيازات يحظون بها أو تحاشياً لدفع أثمان لا يحتملون تبعاتها؟
لا غنى عن إصلاح الخطابات وتطويرها، وهي حاجة مستمرة في الأحوال جميعاً، لكن دون مبالغة في التوقعات المترتبة على هذه العملية، فالواقع يُلقي بأثره على تفاعل المجتمعات مع هذه الخطابات “التجديدية”.
يراهن بعضهم على تجديد الخطاب دون الالتفات إلى ضرورة إصلاح الواقع الذي استدعى خطاباً دون غيره. ما ينبغي التشديد عليه أنّ البشر إن لم يسترجعوا إنسانيتهم وكرامتهم، ولم يتحرروا في واقعهم ومستقبلهم، ولم تُرفَع الضغوظ المركبة عنهم، قد يعجزون عن قراءة النص في استقامته وفهم المعنى في مقاصده.