هل رعى الفقهاء الاستبداد؟ .. حول الخروج على الحاكم
بقلم محمد رفعت زنجير وزهير سالم
كثيرا ما يظلم بعض الكتاب والصحفيين وأحلاس المقاهي فقهاءنا العظام وأئمتنا الكرام بأنهم شرعنوا الاستبداد وتحالفوا معه، ممَّا أدى إلى واقعنا الكئيب وتخلفنا الرهيب، فهل اتهام الفقهاء بذلك صحيح ؟
نقول في الإجابة:
أولا : إنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بقول الحق، واعتبر من مات في سبيل كلمة الحق مع سيد الشهداء حمزة، فهو يريد أمة شجاعة لا تفرط بحقوقها، ولكن بالمقابل فإن الرسول نفسه صلى الله عليه وسلم نهى عن الخروج بسبب الظلم ، والأحاديث في هذا كثيرة، وذلك لما قد يترتب على الخروج من مفاسد، فهو صلى الله عليه وسلم لا يريد أن تغرق الأمة في بحار الدم. ناهيك أن العرب لم يكونوا يخضعون لسلطة مركزية، فجاء الإسلام وأخضعهم، ولم يرد أن يعودوا لحالة الجاهلية الأولى من فوضى وتفكك وسفك دماء تحت أية ذريعة كانت، كذلك يمكن أن نضيف هنا بأن الظلم من الأمور التي ابتلي بها البشر، فقد قال المتنبي:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد=ذا عفة فلعلة لا يظلم
وإذا تم إباحة الخروج بالسيف على كل ظالم ربما لم تقم دولة في التاريخ!.
ثانيا: الظلم أمر معنوي لا يمكن تحديده وقياسه بشكل مادي، فهل يمكن مثلا تحديد مقدار معين من الظلم يبيح للناس الخروج، وما هو أقل منه بقليل لا يبيح لهم ذلك، وكيف؟
ثالثا: علاقة الفقهاء العظام بالسلطة لم تكن جيدة فقد تم ضرب مالك، ومات أبو حنيفة في السجن، وتم سجن أحمد بن حنبل سنوات من عهد المأمون لعهد المتوكل، واضطر الشافعي لترك العراق إلى مصر فرارابنفسه وهذا مكتوب في أزمة العقل المسلم للدكتور عبد الحميد أبو سليمان.
رابعا: في كتاب مواقف حاسمة للعلماء في الإسلام، لعلي شحاتة وأحمد رجب عبد الحميد، تفصيل لما تعرض له فقهاء الأمة من الأذى.
خامسا: لو أراد الفقهاء الانتصار لأنفسهم لأباحوا الخروج، ولكنهم صبروا واحتسبوا، فالالتزام بالنص مقدم على حظوظ النفس بالثأر والانتقام.
سادسا: أهل السنة ابتداء من ابن عمر مرورا بالنووي وابن حجر كلهم ضد الخروج بالسيف على الحاكم عند الظلم دفعا للفوضى، ورخص بعضهم بذلك في حالة الظلم والفساد الذي لا يحتمل، ضمن شروط معينة… وللعلم فإن العالم القديم شرقه وغربه كله كان قائما على الاستبداد إلى أن جاءت الثورة الفرنسية، فلماذا نطلب من عالمنا الإسلامي أن يكون خارج إطار ثقافة وظروف تلك الحقبة.
سابعا: لم تكن الدول قديما مهيأة للديمقراطية كما هي اليوم، فهي دول لا تكنولوجيا لها ولا أجهزة مخابرات متطورة عندها ولا جيوش قوية كما هو الحال اليوم، فلا يمكن عمل انتخابات في الدول القديمة لصعوبة ذلك ومن الخطأ أن نحاسب تلك الدول بمقاييس عصرنا عصر العلم و المعرفة والتكنولوجيا الحديثة.
ثامنا: كان الخلفاء في مأزق حقيقي، إذا اعتمدوا على ولاة ضعفاء انتفض الناس ضد الولاة، وانفلتت الأمور، وإذا اعتمدوا على ولاة أقوياء انشقوا على الخلفاء، وهذا ما سبب تمزق دولهم، ولذلك قال سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (اللهم إليك أشكو ضعف الأمين، وخيانة القوي).
تاسعا: السلطان عبد الحميد من أواخر السلاطين العثمانيين كان قد اتهم بالاستبداد، ومع هذا عزله البرلمان آنذاك، انظر كيف يعزل البرلمان سلطانا قبل مئة سنة! وهذا يجعل أسطورة الاستبداد في تاريخنا دعاية مبالغ فيها.
عاشراً: رأينا ماذا عمل الخروج بالأمة من المفاسد والفوضى والفتن في كثير من البلاد، حتى ذكرنا قول الشاعر:
رب يوم بكيت منه فلما=صرت في غيره بكيت عليه
فمن يتحمل مسئولية تثوير الناس ودفعهم للمهالك أمام الله تعالى؟. وقد جاءت الشريعة لحفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال … وقد انتهكت حرمات هذه الأشياء كلها بسبب الخروج، فهل الخروج مطلوب لمجرد الخروج ولو أدى إلى تدمير كل شيء؟!
حادي عاشرا: من أباح الخروج بسبب الظلم هم الخوارج وبعض الشيعة ومن أباح الخروج وهاجم الفقهاء والعلماء في زماننا؛ فإنما هو يحاكي مذهبهم، ومذهب الجمهور لا يجوز لمسلم أن يخرج على ولي الأمر إلا في حالة الكفر البواح كما جاء في الحديث.
ثاني عشر: الديمقراطية الغربية نجحت لأنها مشروع حياة دنيوي، أما المشاريع الدينية فإنها ليست مشاريع دنيوية صرفة، بل هي قد تكون رابحة أخرويا خاسرة دنيويا، ابتداء من مشروع سيدنا الحسين رضي الله عنه، فقد قام ليصحح المسار لا ليطلب سلطة وجاها… بيد أن ذلك لم يتحقق لأمر أراده الله تعالى، قال عبدالملك بن عمير:
“رأيت رأس الحسين رضي الله عنه بين يدي ابن زياد في قصر الكوفة، ثم رأيت رأس ابن زياد بين يدي المختار، ثم رأيت رأس المختار بين يدي معصب بن الزبير، ثم رأيت رأس مصعب بين يدي عبدالملك بن مروان، ولم يكن بين أول الرؤوس وآخرها إلا اثنتا عشرة سنة”!
كذلك يشارك في هذه المشاريع الدينية فئة دون أخرى، فهي ليست مشاريع يشارك فيها جميع فئات المجتمع وأفراده، لذلك كانت فتاوى الفقهاء بعدم الخروج سديدة، إذ سيقتتل الناس فيما بينهم، والنتيجة هي الفوضى.
ثالثة عشر: عندما ينادي بعض الإسلاميين بالديمقراطية يكفرهم الغلاة بدعوى أنهم قبلوا بتحكيم أهواء البشر، وينكرون عليهم إبقاء المنكرات وعدم محاربتها، وهذا يعني أننا بحاجة إلى مزيد من الحوار حول هذا الموضوع.
أربعة عشر: إن الخروج بالسيف ممنوع في العالم كله، سواء الدول الديمقراطية أو الاستبدادية، لأنه يفكك الدول ويدمرها، وإنما المباح المعارضة السياسية بالوسائل القانونية، وهذا ما أمر به الفقهاء، قل كلمة الحق، وإذا أصابك مكروه فلك الأجر، ولكن لا ترفع سيفا.
خمسة عشر : الفقهاء لم يحرموا المعارضة بالكلام، وفي إحياء الغزالي في قسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قصص كثيرة تحكي معارضة خشنة للخلفاء كموعظة الفضيل بن عياض للرشيد …
والخلاصة: يمكن أن تعارض سلميا ولكن لا تخرج بالسيف، فوجود سلطان ظالم خير من عدم وجود سلطان، وهذا كلام منطقي، تصوروا أن بلدا مثل الصين بلا سلطان! ماذا سيحدث في العالم إذا انفلتت الأمور؟
ستة عشر: هذا الذي قاله الفقهاء بعدم الخروج بالسيف مع ضرورة النصح هو المعمول به في أرقى ديمقراطيات العالم .
سبعة عشر: ينبغي أن نشير إلى أن العالم اليوم ليس كله ديمقراطيا.. فهذه الصين من أعتى الدول وهي دولة ديكتاتورية… ولم تمنعها الديكتاتورية من التقدم العلمي والتكنولوجي والاقتصادي، ولا أحد يعيبها … بل يخافون منها، فلماذا نعيب فقهاءنا لو سلمنا جدلا بما بفترى عليهم. هل منعنا الفقهاء من التطور العلمي والتكنولوجي؟، لماذا نبحث عن شماعة نعلق عليها أخطاءنا وتقهقرنا الحضاري؟!
ثمانية عشر : في الوقت الحالي ربما لن يسمح المناخ العالمي بقيام ديمقراطيات في بعض بلداننا، ونحن أمام حلين هما:
قبول الواقع وإصلاحه بالتدريج، كما فعل فقهاؤنا.
أو التمرد والموت والخراب والسراب، نتيجة اتباع المجاهيل والانتهازيين الذين نصبوا أنفسهم مرشدين للعامة بدلا من العلماء والفقهاء.
تسعة عشر: تحميل ذنوبنا وأخطائنا على فقهاء الأمس منطق غير صحيح، وربما كان الشيطان أوعى من هؤلاء الذين يبحثون عن شماعة يعلقون عليها ذنوبهم حين قال: (فلا تلوموني ولوموا أنفسكم).
العشرون: رحم الله تعالى علماءنا وفقهاءنا الذين سهروا الليالي لتدوين العلوم، وأما أكلة لحومهم فنقول لهم: عندما وجد أولئك الفقهاء كانت أمتنا في عزها ومجدها، فإن لم يعجبكم فقههم، فماذا فعلتم من بديل له؟ هل النقد واللطم وشتم أهل العلم هو رسالتكم السامية؟
سامحكم الله وهداكم رب العالمين.
وكتب الأستاذ زهير سالم : حول الخروج على الحاكم بالسيف
يتقلد بعض الناس الفتوى بالتحريم المطلق وبعضهم بالتسرع المطلق .
والأمر ليس مع هذا ولا إلى ذاك .
بل الفتوى في مثل هذا تظل مقيدة بشروط وظروف .
وفد خرج ابن الأشعث بالسيف وفِي جيشه أساطين العلم من التابعين الشعبي وابن جبير ومئات غيرهم حتى سميت ثورة ابن الأشعث بثورة القرّاء.
ومدار الأمر في جواز الخروج في رأيي مرتبط ؛ في حجم المنكر الذي يخرج المسلم من أجله، ثم بالقدرة على التغيير . وبالأدوات التي يختارها .
المغامرة ممنوعة، ولكن لا بد من قدر منها..
وقد خرج في هذه الامة جبال علم وفقه…
ربما أخطؤوا في التقدير ولكنهم لم يخطئوا في الاجتهاد الفقهي.
فلا يقول بحرمة الخروج بالسيف إذا استوجب وتوفرت أسبابه مسلم فقيه أو متفقه .
ومن قال بحرمة ذلك من الفقهاء المتأخرين فقد كان يفتي بما يقدر به المصلحة وليس العلم الحق . كما قال ابن عباس حين سئل عن توبة القاتل : لا توبة له . كل الفقهاء على انه أفتى بالحكمة وليس بالفقه .
الحوار في مثل هذا يكون حول الإحكام وتقدير الكلفة والجدوى .
في الحالة السورية لم يكن الخروج بقرار أو بفتوى من أحد . وإنما كان انفجارا عاما وقع . فاختار قوم الوقوف مع المظلوم لأنه صاحب الحق الأصلي في الدفع عن نفسه .
واختار قوم الوقوف مع الظالم جبنا أو ممالأة .
والله أعلم.
(المصدر: رابطة العلماء السوريين)