مقالاتمقالات مختارة

هل جائحة كورونا هي مَعْلَمٌ لنهاية الليبراليَّة الأوروبيَّة؟

بقلم أحمد سالم

هذا المقال هو ترجمة بتصرف، كاتب المقال الأصلي هو جايمي مارتن وهو المستشار الخاص لحكومة المملكة المتَّحدة. الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن توجهات تبيان. 

 من الممكن تفهُّم الطَّريقة التي غطَّى فيها الإعلام جائحة كورونا بالتَّركيز على الآثار قريبة المدى سواءً على الصَّعيد الصِّحي أو على الحياة الاقتصاديِّة؛ لما أبدته الجائحة من قدرةٍ على التّسبُّب بفقدان الكثير من الأرواح واضطرابٍ اقتصاديّ. مع ذلك ففي النّهاية، علينا أنَّ نبدأ التَّفكير في الانعكاسات بعيدة المدى للوقاية من الفيروس، وخاصةً على الصَّعيد السِّياسي. فوفقًا لإحدى الأوراق في علم الاجتماعيَّات، فإنَّ هناك علاقةً طرديَّةً بين انتشار الأمراض وازدياد تبني الرُّؤى السِّياسيَّة القوميَّة- الاستبداديَّة (الحكم المطلق). ولهذا الأمر تداعياتٌ مهمَّةٌ في القارَّة الأوروبيَّة، حيث أنَّ العديد من الدُّول التي أصبحت بؤرة الوباء، كانت أصلًا تعاني من صعود أحزاب المعارضة القوميَّة الاستبداديَّة وستشهد انتخاباتٍ قادمة. إنَّ احتماليَّة تحوِّل الاقتصادات الثَّلاثة الكبرى الأوروبيَّة (ألمانيا وفرنسا وإيطاليا) نحو السِّياسات القوميَّة-الاستبداديَّة، والانقلاب على الاتِّفاقات الليبراليَّة لأكبر كتلة اقتصاديَّة في العالم؛ يعني أنَّ التَّداعيَّات السِّياسيَّة لجائحة كورونا قد تؤثِّر على الأحداث حول العالم لعقودٍ قادمة.

وهذا التَّوقُّع يقوم على أساسين؛ الأول هو الدَّليل بأنَّ تفشي الأمراض يزيد من تبنِّي السِّياسات القوميَّة-الاستبداديَّة من قبل الأفراد والدُّول، والثَّاني هو تفسير كيفيَّة حدوث هذا الأمر، فتفشِّي المرض يؤدِّي إلى زيادة ظاهرة “حساسيَّة الاشمئزاز”، وهو الاصطلاح النَّفسيُّ للميل المتزايد للشُّعور بالاشمئزاز، وهي نتيجة سلبيَّة معتدلة عن السِّمات الشخصيَّة التي تتنبأ بالرُّؤى السِّياسيَّة الليبرالية. وإذا كان هذا التَّحليل دقيقًا؛ فإنَّ هذا يعني أنَّ الجائحة ستؤدِّي إلى صعود القوميَّة-الاستبداديَّة.

إنَّ الدَّليل الرَّابط بين خطورة الإِمْرَاض (وهو الاصطلاح النَّفسيُّ لازدياد احتماليَّة حدوث مرضٍ خطير) والرُّؤى القوميَّة-الاستبداديَّة يشمل الفروقات في الأيديولوجيَّات عبر البلدان والثَّقافات على المدى البعيد والقريب. فقد كشفت دراسة عام 2013 لمراجعة تلك الورقة، كشفت بأنَّ البيانات “تتيح لنا إثباتًا تجريبيًّا للفرضيَّة القائلة بأنَّ الفروقات المجتمعيَّة في ظلِّ الحكم الاستبداديِّ قد تُنتَج جزئيًّا من الفروقات البيئيَّة في تفشَّي الأمراض الطُّفيليَّة”. وثَبَتَ هذا الارتباط في الأفراد عبر 30 دولة، وتَحْدُث في الدُّول الحديثة كما تحدث في مجتمعات الصَّيد وجمع الثِّمار البدائيَّة المنعزلة على حدٍّ سواء. وأهمُّ ما في الأمر، هو أنَّ النَّاس المهيَّئين (نفسيًّا) بتهديد الإِمْرَاضِيَّة زاد من ميولهم القوميَّة الاستبداديَّة فورًا.

مِثْلَ جميع عمليَّات المراقبة لسلوك البشر، فإنَّ الرَّابط بين مخاطر المرض المتزايد والقوميَّة الاستبداديَّة تبدو أكثر منطقيَّة إذا ما وضعت في سياق نظريَّة التَّطور. فعبر الألفية كان هناك تأثير تطوُّريّ على طبيعة الإنسان قد حدث، فهناك ما سمَّاه العلماء “المفاضلة بين الفُرَصِيَّة/التَّطفيلية” لتغيُّيرات الأنماط الاجتماعيَّة والتَّفاعل مع المجموعات الخارجيَّة. فالممارسات الجديدة أو التَّفاعل مع الغرباء تعني ظهور الابتكارات والتِّجارة. لكنَّها قد تعني كذلك إنهاء ممارسة التَّقاليد التي ساعدت على الحفاظ على الطَّهارة والصَّفاء، وهو ما يعرضهم لأمراض جديدة. فمن المنطقيِّ أن نكون قد طورنا استجابة لازدياد خطر المرض متضمِّنة جنوحنًا أكثر للفكر المحافظ سياسيًّا.

ويبدو أنَّ زيادة خطر المرض له تأثيرٌ على السِّمات الشخصيِّة سواءً على مستوى المجتمعات أو الأفراد (بالاستناد على نموذج عناصر الشَّخصيَّة البشريَّة الخمسة) والتي تؤثِّر على رؤانا السِّياسيَّة.   ففي أوقات ارتفاع مؤشِّرات الاشمئزاز، تنخفض مؤشِّرات سمة “الانفتاح على التَّجارب”، والأخيرة تتناسب طرديًّا مع الليبرالية السِّياسيَّة وعكسيًّا مع القوميَّة الاستبداديَّة (هذه العلاقة صحيحة فيما يخص الأيديولوجية الشََّاملة، والسُّلوكيَّات تجاه القضايا السِّياسيَّة الفرديَّة، والتَّفضيلات الحزبيَّة). إنَّ خطر الإِمْرَاض التَّاريخيّ يتنبَّأ بالاستبداديَّة السِّياسيَّة للدُّول والامتثال (الإمَّعيَّة) الاجتماعيّ. وحتَّى على المدى القصير، فإنَّ الزِّيادة الفجائيَّة لخطر المرض غالبًا ما يدفع بالتَّوجُّهات السِّياسيَّة بعيدًا عن الليبراليَّة نحو القوميَّة الاستبداديَّة.

تأثير الوباء ومستقبل الليبرالية

إنَّ موازنة خطر المرض/الليبراليَّة تفيد في تفسير الانتصارات المتَّسقة للسِّياسات الليبراليَّة تحديدًا في أوروبا. فأوروبا الأكثر صحَّة وغنىً اعتنقت سياسات أكثر انفتاحيَّةً (مثل سوق أوروبا الموحَّدة، ومنطقة شنغن للحدود المفتوحة، والدِّيمقراطية التَّعدُّديَّة، والليبراليَّة الفرديَّة). واتَّبعت سائر دول العالم نفس المنوال، على الأقل الدُّول الأغنى والتي تنخفض فيها خطر الإِمْرَاضِيَّة تاريخيًّا. إنَّ المزيج من تناقص التَّهديد وتزايد الليبراليَّة على المدى الطَّويل مع تعزيزها بتوجهُّات تكميليَّة (على سبيل المثال تزايد مستويات التحضُّر والتَّعليم) دفع بالكاتب المحافظ إد ويست مؤلِّف كتاب رَهْطٌ في الجانب الخاطئ من التَّاريخ “small men on the wrong side of history” إلى التَّحسُّر على الحقيقة بأنَّ “المستقبل يبدو تقدميًّا وأنَّ هزيمة المحافظين باتت حتميَّة، وهو جزءٌ من منعطف تاريخيٍّ لا رُجوعيٍّ والذي سيؤدي الى طُوبَاويَّة تقدميَّة قد ترمي بهم إلى المزبلة”.

صحيحٌ أنَّ البعض يجادل في التويتر بأنَّ جائحة كورونا قد تحدث هذا التَّحوُّل التَّاريخيَّ عكسيًّا بقتله للمصوِّتين القُدَامَى. ويُجَادِل البعض بأنَّ القادة المحافظين السِّياسيِّين (أمثال سكوت موريسون في أستراليا، ودونالد ترمب في أمريكا، وبوريس جونسون في بريطانيا) قد يعانون سياسيًّا من “تأثير المنصب”؛ حيث سيعاقبهم الشَّعب لكونهم في فترة الرِّئاسة بغض النَّظر عن جودة إدارتهم للأزمة (ويجدر الإشارة إلى أنَّ جميع من يصدر منه هذه التوقُّعات يَرَوْنَ بأنَّهم أساؤوا إدارة الأمور).

لكنَّ عِلمَ الاجتماع يشير إلى العكس، على الأقلِّ في المدى المتوسِّط حتَّى البعيد؛ فالعاقبة السِّياسيَّة للجائحة هو تزايد انتشار القوميَّة الاستبداديَّة. وهذا ما حدث بشكل واسع بعد الأنفلونزا الإسبانيَّة ما بين عامي 1918 و1920.

فتلك الجائحة كانت الأسوأ في التَّاريخ، فقد قتلت ما يقدَّرُ ب 50 مليون شخص، وقد جاءت في نهاية الحرب العالميَّة الأولى، وتصادفت مع سلسلةٍ من الأحداث العاصفة؛ من الثَّورة الرُّوسيَّة إلى التَّضخُّم في جمهوريَّة فايمر الألمانيَّة، وكان من الصعب عَزْلُ وَقْعِهَا السِّياسيّ. ولكن في السِّنين التي تلت، تبنَّت أمريكا (التي عانت من 675000 ألف وفيَّة من الوباء) سياسة الانعزال الدُّوليَّة وزيادة التَّعريفات الجُمرُكيَّة، وبدأ اليمين في أوروبا بالصُّعود، وبَزَغَت الفاشيَّة في اليابان بعد أن مزَّقها المرض. وعلى الرُّغم من أنَّ بريطانيا انتخبت أول حكومة عُمَّاليَّة عام 1924، فإنَّ الحزب الليبراليّ وأيديولوجيَّته تلاشت بسرعة. حتَّى أنَّه عام 1935، تجرَّأ جورج دانجرفيلد وألَّفَ كتاب الموت الغريب لإنجلترا الليبراليَّة “The Strange Death of Liberal England”. وتزامنت جائحة الأنفلونزا الإسبانيَّة مع ابتعادٍ سريع عن النِّظام العالميّ الليبراليّ نحو القوميَّة الاستبداديَّة.

كورونا وصعود القومية في أوروبا

ومن المرجَّح بأنَّ إيطاليا هي أفضل مكان لدراسة كيفيَّة تأثير الجائحة في تغيير السِّياسات العالميَّة والأوروبيَّة. لقد شَهِدَت إيطاليا أصلًا كَامِلَ ثِقَل الاضطرابات السِّياسيَّة في السَّنوات الأخيرة، مع شهود انتخاباتها العامَّة عام 2018 لفوز اليمين الشَّعبويّ بمعظم المقاعد وفوز اليسار الشَّعبويّ لمعظم الأصوات. إنَّ شعور الإيطاليِّين بتردِّي علاقتهم مع الاتِّحاد الأوروبيّ بعد عقود من الرُّكُود الاقتصاديِّ وتحمُّل العبء الأكبر من أزمة الهجرة فَاقَمَهَا في الآونة الأخيرة شعورهم بتخلِّي حُلفائهم الأوربيِّين عنهم أثناء حاجتهم في ساعة الجائحة. واستغلَّ تلك الفرصة قائد اليمين الشَّعبويِّ ماتيو سالفيني لتعزيز خطابه القوميِّ الاستبداديِّ. فقد استغلَّ تفشِّي الفيروس في إطلاق ندائه لتقييد العبور عبر الحدود وغرَّد قائلًا: “عندما كانت أوروبا محتاجة، كانت إيطاليا تعطيهم على الدَّوام…والآن نحن نطلب منهم المساعدة، ولكنَّ جميع الدُّول الأخرى بدأت تغلق حدودها”. من الصَّعب الحكم على ردود أفعال عوام الإيطاليِّين، ولكن تستطيع رؤية القوَّة الجوِّيَّة الإيطاليَّة وهي ترسم العلم الإيطاليّ الثُّلاثيّ لا علم الاتِّحاد الأوروبيّ، ونشيدها الوطنيّ الخاص بإيطاليا هو ما يغنِّيه العوام من شُرَفِ بيوتهم لا نشيد الفرح الأوروبيّ. وهذا التَّيارُ الخفيُّ قد يُوَفِّر البيئة الخصبة لحملة سالفيني في أيّ انتخابات قد تحدث مستقبلًا.

فرنسا وقد صعدت من ثالث أكبر اقتصاد في منطقة اليورو إلى المرتبة الثَّانية، كانت في الأصل تواجه تصاعدًا في الشَّعبويَّة مَقْدَم الانتخابات الرِّئاسيَّة عام 2022. فقد بدأت مارين لوبان قائدة اليمين في الجمعيَّة الوطنيَّة تتصدَّر استطلاعات الرَّأي في دورتها الأولى بعد انهيار شعبية ماكرون بعد تظاهرات السُّتَر الصَّفراء.

وقد كانت أصلًا تروِّج على أنَّ حملتها (ضدَّ الوحدة الأوروبيَّة) هي لإنهاء العنف والفوضى والدَّعوة “للوطنيَّة”، حتَّى قبل وصول الوباء. ومنذ تفشِّي كورونا، استخدمتها – حالها كحال سالفيني – كفرصة للدَّعوة إلى إنهاء نظام الاتِّحاد الأوروبيّ للحدود المفتوحة بين الدُّول.

حتَّى يبدو أنَّ ألمانيا ذات الاقتصاد القوِّيّ والعضو المحوريّ في الاتِّحاد الاوروبيّ، على خطرٍ كبيرٍ من حدوث اضطرابٍ سياسيٍّ لما بعد كورونا. فقد تزايدت شعبيَّة حزب البديل من أجل ألمانيا (AFD) اليميِّنيّ، وخاصة في شرق ألمانيا الأكثر فقرًا. ومع موعد الانتخابات المقرَّرة في أُكتوبر عام 2021، فإنَّ حزب الوحدة الديمقراطيّ المسيحيّ الحاكم يشهد مُقدَّمًا حالةً من الفوضى في صفوفه على مستوى البلد، من جراء صعود الحزب البديل الألمانيّ، وهو ما سبب باستقالة رئيس الحزب ومرشَّحه المفترض لمنصب المستشار.

ومع بلوغ نسبة حزب البديل 15٪ من اختيار المقترعين، فقد جادل رئيس الكتلة البرلمانيَّة للحزب بأنَّ سبب جائحة كورونا هي عقيدة الحدود المفتوحة. وردَّد جولدن ساكس مقولة المستشارة ميركل بأنَّ 70٪ من الألمان معرَّضون للإصابة بالفيروس. ومن المرجَّح أن يكون أَثَرُ الإغلاق الوطنيّ والعالميّ شديدًا على ألمانيا، وخاصةً في ظلِّ اقتصاد يعتمد أساسًا على التَّصدير وعلى سلاسل توريد عالميَّة وعلى التِّجارة الأوروبيَّة.

مستقبل الوحدة الأوروبية

ويمكن للتَّأثيرات الاقتصاديَّة الأوَّليَّة والثَّانويَّة للفيروس أن تتيح بيئة خصبةً للقوميِّين الاستبداديّين الأوروبيّين. وكما في الماضي فالشعبويُّون سيستغلون الانكماشات الاقتصاديَّة وتحديدًا الانكماشات التي تحدث في الدُّول والقارات الأكثر تضررًا بالفيروس. وفي السُّويد، تصدَّر الديمقراطيُّون اليمينيُّون السويديُّون استطلاعات الرَّأي قبل انتخابات العامَّة عام 2022. وفي اليونان، حيث من المقرَّر أن تجري الانتخابات عام 2023، حقَّق الشعبويُّون نجاحًا انتخابيًا على خلفية توجُّههم المضاد للوحدة الأوروبيَّة منذ عقد من الزَّمن. وحتَّى في الدُّول التي لم يؤثِّر فيها الفيروس كتأثيرها في إيطاليا، فإنَّ زيادة خطر الإِمْرَاضِيَّة، والتَّأثير الاقتصاديّ المحتمل للجائحة يعني بأنَّ الأحزاب القوميَّة ستجد بيئةً انتخابيَّةً مواتيةً السَّنوات القادمة.

في دول مثل المملكة المتَّحدة والولايات المتَّحدة وأستراليا، لا تجد إلاَّ القليل من الشَّواهد بأنَّ النَّاخبين سيعاقبون من تولَّى المناصب من المحافظين، فعلى الرُّغم من النَّقد الواسع الذي نال من طريقة تعامل دونالد ترامب مع الأزمة، فإنَّ له نسبة تأييد ثابتة، ويستخدم أصلًا الدِّعاية بالفيروس لمكافحة الهجرة؛ ومعدَّلات تأييد بوريس جونسون بقيت صامدة ومعدَّلات استطلاعات حزبه هي أعلى ما يكون؛ بينما سكوت موريسون استعاد مكانته بين الأستراليِّين كأفضل رئيس للوزراء من بين جميع قادة الأحزاب الأخرى.

قد تنجرف الدُّول النَّاطقة باللُّغة الإنجليزيَّة والديمقراطيَّات الليبراليَّة الآسيويَّة – مثل اليابان وكوريا الجنوبيَّة – نحو الاستبداديَّة القوميَّة أكثر فأكثر، إلَاَّ إنَّ تلك الدُّول تفتقر إلى السِّياق التَّاريخيِّ المُلتهب مِثل القارَّة الأوروبيَّة. فهناك مزيج من خطر المرض المُتزايد مع آثاره الاقتصاديَّة السَّلبيَّة، بالإضافة لتزايد وجود أحزاب المعارضة الاستبداديَّة. ماذا يمكن أن تكون تداعيات ذلك على أوروبا والعالم؟

في الاتِّحاد الأوروبيّ، فإنَّ السيناريو الأقل دراماتيكيِّةً هو أنَّ القادة الليبراليِّين والوحدويِّين – مثل إيمانويل ماكرون وأنجيلا ميركل – سيضطرون إلى التَّخفيف من الاتِّجاه نحو الوحدة الأوروبيَّة وحتَّى رفض المزيد من مستوياتها. وفي وقت الانتخابات، ستُجْبِرُ الشعبيَّة المتزايدة للأحزاب القوميَّة المزيد من الأحزاب التقليديَّة على الدُّخول في تحالفات غير متجانسة وهشَّة، وهو ما سيخلق فرصةً أكبر للقوميِّين في الانتخابات المقبلة من أواسط العشرينيَّات من هذا القرن حتى آخره.

قد تكون الخطوة القادمة هي إنهاء منطقة شنغن للحدود المفتوحة بين دول الاتحاد الأوروبيّ، وتقليص التنسيق الاقتصاديِّ والالتزام بقواعد الميزانيَّة في منطقة اليورو. ومن بعد خروج بريطانيا من الاتِّحاد الأوروبيّ، فإنَّ هذه الأمور ستشكِّل تحدِّيات كبيرة لمستقبل الاتِّحاد الأوروبيّ.

والتَّحدِّي الأكبر من ذلك، سيكون مغادرة إيطاليا أو فرنسا للاتِّحاد أو المطالبة بإعادة هيكلة شاملة لمنطقة اليورو أو السُّوق الأوروبيَّة المشتركة. يمكن للاتِّحاد الأوروبيّ النَّجاة من خروجٍ يونانيٍّ من الاتِّحاد، ومن غير المحتمل أن تطلب ألمانيا مغادرتها، لكن الاتِّحاد سيواجه تهديدًا وجوديًّا في حال اختار ثان أو ثالثُ أكبر اقتصاد هذا الأمر، أو اختار ترتيبات تكامل مختلفة. وفي حين تراجعت مارين لوبان عن المطالبة بخروج فرنسا من الاتِّحاد فإنَّها بقيت تطالب بـ “السَّيطرة على الهجرة، واقتصاد قوميّ وسياسة حمائيَّة عقلانيَّة ومنطقيَّة” وقامت رابطة سالفيني الأكثر تشكُّكًا في الوحدة الأوروبيَّة، بتجديد حملتها في إيطاليا للتَّخلي عن اليورو في ديسمبر 2019 عكس موقفها الأكثر اعتدالًا أثناء وجودها في الحكومة.

في الوقت الحالي، يُركِّز السياسيُّون والناخبون على تقليل الوفيات الرهيبة لجائحة كورونا، ولكن فَهْمَ هذه الأوراق في عِلم الاجتماع، والتي تخبرنا بأنَّ زيادة خطر الإِمْرَاضِيَّة يدفع النَّاخبين نحو القوميَّة الاستبداديَّة، ومع الأخذ بالحسبان الحالة الهشَّة للاقتصادات الكبرى في أوروبا، فكلُّ هذه العوامل تُشير إلى أنَّ العواقب السياسيَّة من الجائحة لن تكون بعيدة عن موت الليبراليَّة الأوروبيَّة، وسنشعر بهذا الأثر في العقود القادمة.

(المصدر: موقع تبيان)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى