هل تنتمي ظاهرة التكفير للفكر الحركي الإسلامي؟
بقلم عزة مختار
ظاهرة خطيرة أصابت المجتمعات الإسلامية عامة والعربية خاصة ولم تبرأ منها حتى اليوم، وذلك منذ أن اشتد عود الحركة الإسلامية وبدأ الصراع بينها وبين الحكام على إصلاح الحكم، مما نتج عنه ردة فعل عنيفة للأنظمة العربية تجاه الحركة الإسلامية خاصة بعد خروج الاستعمار والنزاع على السلطة، بين مجموعات ورثت مصالح المستعمر وعملت عليها، وبين مجموعات أخرى التحمت بالجماهير وحملت فكراً أيديولوجياً لعملية التغيير.
وظهرت عملية تكفير المجتمعات والجماعات بعد تعرض الحركة الإسلامية لعمليات من العنف البشع من الأنظمة في المعتقلات ، بالرغم من وجود أصوات حكيمة مثل الدعوة التي قدمها الشيخ حسن الهضيبي في كتابه “دعاة لا قضاة” في محاولة لتوضيح فكرة عدم مسئولية الدعاة عن تكفير المجتمعات بالجملة مهما تعرض الداعية للظلم الذي هو سمة أساسية في طريق الدعوة، ودليل صحة له على حد شروح وأدبيات جماعة الإخوان المسلمين، ثم كتاب علي جريشة “دعاة لا بغاة” الذي دعا للتسامح ونبذ فكرة الانتقام بعد التصفيات البشعة والمحنة الشديدة التي تعرضت لها الجماعة في عامي 1954، و1967.
غير أن تلك المحاولات لم تكن كافية لردع ميلاد ذلك الفكر الذي انفصل كلية عن عدد من المنتسبين لها، لتنقسم الحركة الإسلامية إلى تيارات شتى، منها: الفكر السلفي والجهادي والتكفيري والمعتدل، ولا يخفي على أحد ما تسببت فيه ظاهرة التكفير من كوارث حلت على الأمة العربية والإسلامية على السواء، فقد استغلت أسوأ استغلال في وقت يقع المسلمون تحت مقصلة الضعف والتبعية مما حرم الدين من فرصة الدفاع عن نفسه وسط الصراع الأممي الحضاري، علاوة على تفتيت القوة الإسلامية التي كانت من الممكن أن تغير المشهد التاريخي إن هي اتفقت على مبادئ وقيم وسطية صحيحة دون ترك مساحة لردود الأفعال الغاضبة نتاج المواقف السلبية للحكومات.
موقف الجماعة الأم من قضية التكفير
لم يتغير موقف جماعة الإخوان المسلمين -باعتبارها الجماعة الأم التي انبثقت عنها كثير من الجماعات والأفكار الأخرى منذ نشأتها وحتى يومنا هذا- من ظاهرة #العنف والتكفير، وبرغم إنشاء النظام الخاص بالجماعة والذي كان الغرض الأساسي منه مقاومة الاستعمار والذي ضرب أعظم آيات البطولة في الإسماعيلية والسويس، إلا أنه حُلَّ بعد اغتيال النقراشي وقد وصفهم المؤسس حسن البنا -رحمه الله- بأنهم ليسوا إخواناً وليسوا مسلمين لرفضه القاطع لمسألة العنف، وقد كتب البنا الأصل الأخير من الأصول العشرين والتي يبايع عليها الإخوان قائلاً: “ولا نكفر مسلماً -أقر بالشهادتين وعمل بمقتضاهما وأدى الفرائض- برأي أو بمعصية إلا إن أقر بكلمة الكفر، أو أنكر معلوماً من الدين بالضرورة، أو كذب صريح القرآن، أو فسره على وجه لا تحتمله أساليب اللغة العربية بحال، أو عمل عملاً لا يحتمل تأويلاً غير الكفر، فالتكفير عند الإخوان المسلمين ليس له سبيل إلا بشروط قاسية لا تحتمل معنى آخر غير الكفر والخروج من الملة، فلا سبيل لتكفير مسلم لرأي يعتنقه أو معصية يرتكبها”.
وبهذا فإن موقف الجماعة واضح من القضية برمتها، ونعني الجرأة على التكفير، وبالتالي أي عمل يقتضي التعامل مع المرتد، وأن ذلك ليس من وظيفة الفرد وإنما من وظيفة الدولة؛ حفاظاً على ثوابت الدين في حفظ المجتمعات من الوقوع في الفوضى والتشرذم، وما على المسلم إلا أن يعمل على تكوين هذه الدولة التي تمثل الدين وتقوم على حراسته، وعملت الجماعة في تاريخها ومنذ نشأتها على تلك المفاهيم التي تتسم بالسلمية والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، ودفعت في مقابل ذلك ثمناً باهظاً، بل وتعرضت هي ذاتها للتكفير من معظم تلك الجماعات والتي خرج بعضها من عباءتها لأسباب عديدة تتعلق بعدم القدرة على المواجهة وتفاوت درجات الفهم.
نشأة ظاهرة التكفير وأسبابها
#التكفير ليس من المشكلات الطارئة على المسلمين، وإنما تمتد جذوره لفجر الأمة مع ظهور الخوارج -الذين كفروا مرتكب الكبيرة وبعض الذنوب- وذلك لعدم فهم النصوص القرآنية والنبوية ووضعها في غير موضعها أو اجتزائها من بعض مواضعها فيلتبس الفهم وتحدث الواقعة، وقد وصفهم ابن عمر -رضي الله عنهما- قائلاً: “إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين”، وقال: “يكفرون المسلمين ويستحلون دماءهم وأموالهم وينكحون النساء في عدتهم، وتأتيهم المرأة فينكحها الرجل منهم ولها زوج، فلا أعلم أحداً أحق بالقتال منهم”، واستمر هذا الداء في الأمة منذ ظهورهم صعوداً وهبوطاً -حسب حالتها قوة وضعفاً، وظروفها السياسية حرية واستبداداً- ليرتبط قوتها بالجهل أولاً، ثم الاستبداد السياسي والعنف في التعامل معهم من الحكام في سنوات السقوط.
والتعنت في فهم النصوص -سواء كانت نصوصاً قرآنية أو من السنة النبوية- وتفسيرها حسب المواقف كانت السبب الأول في التكفير كما وقع في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- في أكثر من واقعة للصحابي الجليل أسامة بن زيد حين قتل خطأً من نطق بالشهادتين؛ ظناً منه أنما قالها طلبا للنجاة من القتل، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: “هلا شققت عن قلبه” لتكون قاعدة فقهية لتعامل المسلم مع الناس، والكثير من النصوص في هذا السياق تعصم دماء الناس في حالة الحروب بنطق الشهادتين، وتدخل من ينطق بهما في نطاق المؤمنين الذين يحرم قتلهم، ولا يحل دم مسلم إلا بثلاث، كما وضح النص صراحة في قول نبي الإسلام: “لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة”، ويقول كذلك: “أيما رجل قال لأخيه يا كافر، فقد باء أحدهما بها”، وهكذا في كثير من النصوص التي تكفر المسلم ويطوع تفسيرها بما يتناسب والعنف الكامن داخل نفوس هؤلاء لينسبوه إلى الدين وما هو منه.
وأما السبب الثاني تاريخياً فقد كان العنف الشديد في التعامل من الحكام المستبدين تجاه الدعاة الذين لم يتشربوا مقتضيات التصدي للدعوة بعد، فنجدهم -نظراً لشدة ما يلاقونه- يقعون في تكفير المجتمع الذي لم يقف للدفاع عنهم ككل، دون الاحتراز من أن يقع في الكفر هو نفسه حين يتهم به غيره، وقد نشأت جماعات التكفير المعاصر لهذين السببين مع وجود أسباب أخرى بالطبع، منها ما ذكره العلامة القرضاوي: “انتشار الكفر والردة في المجتمع المسلم جهرة تحت رعاية دولية وإعلامية ورسمية من علماء السلطان، أيضاً ممارسة الاضطهاد الديني لحاملي الفكر الإسلامي مما ولد رد فعل مغاير”، وذلك قد تسبب بوقوع الأمة في إشكالية كبرى قد تستهلك الكثير من الوقت لتخرج من ذلك الفهم والسمعة المشوهة عالمياً.
التخلص من ظاهرة التكفير
لن نستطيع الجزم بأنه يمكن الانتهاء تماماً من ظاهرة التكفير، فلم تخلُ مرحلة من المراحل التاريخية للأمة منها، وإنما تفاوتت النسب والقدرة على ترجمة الفكرة لعمل يعيث في الأرض الفساد، والتكفير ظاهرة مرضية وليست داءً في حد ذاتها، تنتهي أو تخف حدتها بالقضاء على الأسباب التي تؤدي إليها .
وحال الأمة اليوم بيئة خصبة لتلك الظاهرة، فالضعف والتشرذم و#الاستبداد والجهل والفقر كلها عوامل ليس لها إلا مآل واحد، وهو المزيد من السقوط في هاوية الغياب الحضاري، والحل الوحيد هو تحويل مؤسسات التنظير الفكري لمؤسسات عملية وإتاحة الفرصة لها للقيام بعملية تطهير علمي للفكر المطروح والمنتشر بقوة على شبكات التواصل الاجتماعي وأرفف المكتبات العامة ووسائل الإعلام الرسمي، وبما أن تلك المؤسسات لا يمكن لها العمل إلا في أجواء من الحرية لتتعامل بشكل مباشر مع الفرد المسلم في جميع مراحله التعليمية والتربوية، فقد وجب على الأمة أن تتحرر أولاً من براثن الاستبداد التي وقعت فيها منذ بداية ضعف الدولة العثمانية والتخلي عن هويتها الثقافية والحضارية الأصيلة.
إننا لا نسير في دائرة مفرغة كما يظن البعض، وإنما هو طريق واحد يجب السير فيه للخلاص من الأزمة الحالية وهو طريق التنوير والعلم والمعرفة والفهم في دولة الحرية والعدل والقيم، تلك الدولة التي نشأت في مدينة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وانطلقت فاتحة في ربوع العالم تدافع فقط عن حرية الإنسان في الاختيار، ثم توفر وسائل المعرفة لتعضد قدرته على ذلك الاختيار بفهم ووعي.
إن القضية الأساسية التي تعانيها الأمة اليوم والتكفير إحدي ظواهرها، هي الحرية، ثم المعرفة الواعية التي تنطلق من النصوص القرآنية والنبوية المستندة على أول لفظ نزل في كتاب الله “اقرأ”، لا خروج من مأزق الأمة إلا بتحريرها وعود على بدء لوضع أسس حضارة جديدة تجمع بين أصالة الماضي ووعي الحاضر والمستقبل.
(المصدر: موقع بصائر)