هل تفضي محاربة الدين إلى وأد أحلام الربيع؟
للدولة الحديثة دور مختلف عن مثيلتها القديمة في الاجتماع البشري، بخاصة في الحالة الإسلامية. ففي القديمة، كانت مهماتها تتعلق بالجوانب العسكرية والأمنية وجباية الضرائب، مع سيطرة محدودة على القضاء، بينما بقي المجتمع المدني -ومن ضمنه الدين- خارج سيطرتها نسبياً، وإن سعت إلى توجيه مساره بهذا القدر أو ذاك. في الدولة الحديثة، يخضع الإنسان من مولده وحتى مماته لنفوذ الدولة، ولا ينفك عنها بحال.
تلك مقدمة للحديث عن علاقة الأنظمة العربية بالدين، تحديداً بعد ربيع العرب. وهنا لا نقرّ بجريمة إذا قلنا إن جزءاً من الصحوة الإسلامية في العالم العربي والإسلامي -كما تبدت منذ نهاية السبعينيات ومطلع الثمانينيات- قد حظي بدعم من بعض الأنظمة العربية، وذلك في مواجهة المد القومي والشيوعي في ذلك الحين، وكان ذلك جزءاً لا يتجزأ من الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، كما كان جزءاً من مواجهة الأنظمة ذاتها مع القوى القومية والشيوعية، والأخيرة على وجه التحديد.
على أنّ جعل هذا البُعد هو العنصر الوحيد في تفسير الصحوة يبدو قاصراً بكل تأكيد؛ ليس فقط لأن اللقاء بين الأنظمة والقوى الإسلامية لم يدم طويلاً؛ إذ ما لبثت الشيوعية أن تراجعت، وبدأت الأنظمة عملية تحجيم تدريجي لما سيُعرف لاحقاً باسم «الإسلام السياسي»، بل أيضاً لأن الصحوة قد شملت دولاً لم يحدث فيها ذلك اللقاء، كما في سوريا مثلاً، والتي كان للإخوان المسلمين فيها قوة معتبرة أكثر من أي مكان آخر نهاية السبعينيات ومطلع الثمانينيات ، تعرّضت لضربة كبيرة إثر صدام مسلح معروف.
اللافت أن عملية التحجيم التدريجي التي بدأتها الأنظمة بحق القوى الإسلامية -وإن حققت بعض النجاح- لم تسفر عن تحجيم للصحوة الدينية، بل عززتها على نحو لافت، وتصاعدت تلك الصحوة وصولاً إلى مستويات لم تُعرف ربما منذ قرون خلال التسعينيات، ومن ثم الألفية الجديدة.
في هذه المرحلة، وفي ظل مقاربة سياسية تقول إن الصحوة الدينية هي التي تمنح الحاضنة الشعبية للإسلام السياسي، بات واضحاً أن قراراً قد اتُّخذ بتحجيمها بكل وسيلة ممكنة، وها نحن نرى أن دولاً كانت من بين الأكثر تشجيعاً للتدين -وإن بلون معين- قد بدأت في انتهاج سبيل آخر من خلال بناء منظومة اجتماعية جديدة تستهدف في جوهرها منظومة التدين. ما لا يدركه بعض هؤلاء، هو أنهم يواجهون حالة متجذرة في المجتمعات، ومن الصعب تحجيمها بسهولة، في الوقت ذاته الذي لا يمكن للهدف الأهم الذي يريدونه أن يتحقق؛ لأن الربيع العربي لم يكن انتفاضة لأجل الدين، وإنما من أجل الحياة؛ إذ لم تكن المجتمعات العربية تعاني من نقص في الدين أو التدين، بل في نقص في العدالة والحرية والحياة الكريمة.
صحيح أن القوى الإسلامية هي التي تصدرت الربيع العربي، لكن ذلك لم يكن قدراً؛ فلو حدث أن كانت قوى من لون آخر هي الأقوى في الشارع لتصدرت الاحتجاجات وما تلاها كما تصدرتها القوى الإسلامية؛ لأن الأخيرة لم يكن أمامها غير التعبير عن ضمير الناس ومطالبهم، وهي التي تندمج معهم بشكل طبيعي في الشارع، إن كان في مطالبهم الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية.
من هنا، يبدو من العبث الاعتقاد أن ضرب التدين سيغيّر من مسار غضب الجماهير أو من مطالبها التي عبّرت عنها في الربيع العربي. صحيح أن القوى المنظمة كانت ضرورة لتصعيد الاحتجاج، لكن غيابها قد يفضي لاحقاً في ظل استمرار التدهور إلى انفجار أكبر وبلا ضابط، في الوقت ذاته الذي لن تفضي الحرب على القوى الإسلامية إلى سحقها كما يعتقد كثيرون، وإن خفت صوتها بسبب شدة الملاحقة.
لا خيار أمام الأنظمة -والحالة هذه- إلا أن تراهن على إرضاء الشارع، وتحقيق مطالبه في الحرية والتعددية والعدالة الاجتماعية، وإلا فالانفجار قادم، مهما تأخر بفعل السطوة الأمنية، وهي سطوة قد تجعل الانفجار أكثر عنفاً من المرة السابقة، وهو مسار يمكن تجنّبه بالعقل والحكمة.
(المصدر: صحيفة الأمة الالكترونية)