هل تستطيع المادية تفسير العقل؟
- فراز خان*
- ترجمة: أحمد عبد العزيز
- تحرير: محمد صلاح إدريس
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء 85]
كانت الطبيعة البشرية موضوعًا رئيسًا للتأمل الفكري والروحي من العصور القديمة وعبر الحضارات. بحكم السمات المميزة مثل العقلانية والمعرفة والكلام والفاعلية الأخلاقية، كان الإنسان يُعتبر عالمًا بعيدًا عن بقية الطبيعة، وكان يُنظر إلى روح الإنسان على أنها شيء فريد ورائع. إنّ معرفة النفس في الإسلام هي نقطة الانطلاق لتطهيرها ونيل الحب الإلهي، حيث تنبع الحياة الأصيلة من التقوى والإيثار من روح طاهرة مستغرقة في ذكر الله.
مع ظهور الحداثة، جلبت الالتزامات الفلسفية الجديدة مصطلحات ونظريات جديدة. غالبًا ما تطلق على ما تسميه معظم الحضارات تقليديًا النفس أو الروح اسم “العقل” اليوم، بسبب المضامين اللاهوتية للمصطلحات الكلاسيكية.(1) إنّ فرع الفلسفة الحديثة الذي يتعامل مع ما تسميه القرون الوسطى بالروح هو فلسفة العقل، وهو مجال بحث يتعلق بالعديد من القضايا الحاسمة في الخطاب الأكاديمي والعام. على سبيل المثال، هل ما بعد الإنسانية -النظرية القائلة بأنه من خلال العلم والتكنولوجيا، يمكن للبشر أن يتطوروا إلى ما وراء القيود المادية الحالية ويهربون من الشيخوخة أو حتى الموت- احتمال حقيقي إذا كان هناك شيء مثل الروح البشرية؟ هل الإلحاد الذي يحاول تفسير الواقع كله من خلال المادية، يصبح غير متماسك إذا كان للإنسان عقل غير مادي؟ هل الوعي البشري والفكر والعقلانية تدل على وجود الروح؟. مع المنهج العلمي كنهج تحكمه المعرفة، حاولت الحداثة فك اللغز الداخلي للإنسان من خلال مجموعة متنوعة من النماذج المتناقضة إلى حد ما، مثل علم الأعصاب، والتحليل النفسي الفرويدي، وعلم الوراثة السلوكية، وعلم النفس التطوري.(2) كثير من الثقافة البشرية والاجتماعية، وحتى السياسة تتوقف على وعينا بأنفسنا كبشر وعلاقتنا بالعالم الذي نعيش فيه. كيف نفهم العقل؟ أمر أساسي لهذا الوعي.
تاريخيًا، تبنَّى علماء الدين -المسلمين عمومًا- ثنائية تكاملية بين الجسد والروح. كما يعرّف سيد نقيب العطاس، “للإنسان طبيعة مزدوجة، فهو جسد ونفس في نفس الوقت، فهو كائن جسدي وكائن روحاني في آن واحد”.(3) بينما اعتبر العلماء المسلمون جوهر الروح سرًا إلهيًا غامضًا –ويسميها ابن عجيبة (ت1224هـ/1809م) نورانية عالمة(4)–
من الواضح أن الروح (أ) متميزة عن الجسد، على الرغم من اندماجها العميق به، و(ب) موضع الوعي الإنساني- ومع ذلك، بصفتها جوهرًا روحيًا، لا يمكن الوصول إلى الروح بالتحقيق التجريبي. فالوعي يقع في عالم يتجاوز العالم المادي -عالم الملكوت أو العالم الروحاني. إن مسألة تكرار التجربة الروحية بشكل اصطناعي بالنسبة لمعظم المؤمنين مسألة غير فعالة؛ لأن التلاعب البشري يقتصر على المجال المادي. تنبثق إمكانية تكرار الوعي (أو بشكل عام، أي سمة للعقل) إلى حد كبير مما يسمى بالمذهب الطبيعي- وجهة النظر القائلة بأن كل الأشياء والأحداث في الطبيعة يمكن تفسيرها ماديًا، حتى لو لم تكتشف العلوم التجريبية تفسيراتها بعد؛ لأن العمليات الطبيعية تحدث من تلقاء نفسها. كفكرة تفسيرية، غالبًا ما يرتبط المذهب الطبيعي بالمادية -أو الفيزيائية- وهو الموقف الوجودي الذي يرى أن “المادة الفيزيائية” هي الحقيقة الوحيدة في الوجود.(5)
في كتاب “موت الروح من ديكارت إلى الكمبيوتر”، تتبع ويليام باريت الاستبعاد التدريجي للعقل من المداولات الفكرية في الواقع.(6) افتتح القرن السابع عشر علمًا جديدًا ينظر إلى العالم كآلة، بناءً على نظرية المادة التي ترى أن الأشياء المادية هي مركبات من جزيئات موجودة في فضاء فارغ. تقترن آلية هذا العلم النيوتوني مع تمييز جون لوك الشهير بين الصفات الأولية والثانوية. وفقًا لما قاله لوك، نظرًا لأن الأشياء المادية هي مجرد تجمعات من الجزيئات القابلة للقياس الكمي، فإن لها “صفات أولية” فقط مثل الامتداد والشكل، في حين أن “الصفات الثانوية” مثل اللون أو الذوق أو الصوت غائبة عن الأشياء في ذاتها، ولا توجد إلا كأحاسيس لدى الناس.(7) ما هو “هناك” هو فقط الكمي والقابل للقياس. مما لا يثير الدهشة، إذا تمت إزالة الصفة بشكل عام من حساب الفرد لما هو موجود بالفعل، فإن العقل بكل ميزاته النوعية يكون أيضًا عرضة للاختزال إلى الدماغ/الجسم القابل للقياس بشكل كمي.
جلب القرن الثامن عشر لحظة فاصلة أخرى مع شكوك ديفيد هيوم، الذي حوَّل التجربة الإنسانية إلى سلسلة من الانطباعات الحسية، علاوة على ذلك اعتبر أن “الذات” ليست أكثر من حزمة من التصورات الحسية.(8) باريت يأسف بالقول: “الذات، أو الأنا، عانت هنا من ضربة”. نحن نعيش في عالم يمكن أن يحول المواطن العادي تقريبًا إلى كومة من التصورات الحسية”. يلاحظ باريت أن خطأ هيوم القاطع، على الرغم من ذلك، كان البحث عن الذات بطريقة موضوعية بدلًا من التعرف على “شخصية الذات” في هذا البحث. ومع ذلك، انبهر المفكرون اللاحقون بأفكار هيوم. ومع تقدم التكنولوجيا والعلوم التجريبية بسرعة، ستظهر المادية كنموذج سائد للعلم الحديث. ومع ذلك، في نظر العديد من فلاسفة العقل، وصلت المادية الآن إلى مأزق لا يمكن التغلب عليه في مسألة الوعي.
نظريات العقل المادية:
تشمل النظريات الفيزيائية التي تحاول تفسير الحالات العقلية -المادية الإقصائية، والسلوكية، ونظرية الهوية، والوظيفية-.(9)
في ضوء النجاح المستمر والقوة التفسيرية للفيزياء الحديثة وعلم وظائف الأعضاء وعلم الأعصاب، تنكر المادية الإقصائية وجود حالات نفسية (الأحاسيس والأفكار والمشاعر وما إلى ذلك)، مفاهيم مثل “جون يتألم” و”فريد يستمتع بوجبته” يتم التخلص منها واستبدالها بـ “دماغ جون في الحالة العصبية X” و”دماغ فريد في الحالة العصبية Y”. بالنسبة إلى الماديين الإقصائيين مثل بول تشرشلاند، فإن وجهة النظر المنطقية القائلة بأن الحالات العقلية حقيقية -ما يسميه “علم النفس الشعبي”- هي مجرد نظرية، وتخلو من القوة التفسيرية. لذلك يجادل بأنها نظرية خاطئة، يؤدي تاريخ فشلها في تقديم تفسيرات مفيدة علميًا إلى استنتاج مفاده أن الحالات العقلية لعلم النفس الشعبي هي مجرد أوهام. ومع ذلك، يجادل معارضو هذا الرأي بأن (أ) حالاتنا النفسية لا تشكل بنفسها نظرية ولكنها تتطلب نظرية أو (نظرة ميتافيزيقية للعالم) لشرحها؛ و(ب) المادية الإقصائية نظرية غير متماسكة وتدحض ذاتها، فهي تكشف عن ”القصدية“ (توجه العقل أو الفكر نحو موضوع ما) عندما تدعي أن ادعاءاتها صحيحة وأن علم النفس الشعبي خاطئ، والقصدية هي نفسها حالة بارزة من حالات العقل.(10) ادعاءات امتلاك الحقيقة هي توجهات افتراضية تنفيها المادية الإقصائية. إن ”قبول“ المادية الإقصائية كتفسير للعقل يفترض بشكل مسبق أن علم النفس الشعبي صحيح؛ لأن المادية الإقصائية ترفض مفاهيم مثل “القبول”.
النظرية المادية الأخرى للعقل هي السلوكية الفلسفية، والتي وفقًا لها تكون الحالات النفسية مكافئة منطقيًا لـ”نزعات” السلوك: الألم ليس حقيقة شخصية، ولكنه مجرد ميل للجفل أو البكاء…إلخ. لتبرير السلوكية الفلسفية يشير المؤيدون كدليل على العلاقة القوية بين الحالات العقلية والسلوك، والتي يمكن تفسيرها بسهولة على أنها صلة بين التصرفات السلوكية والسلوك. أن تكون “في حالة ألم” يعني “التصرف” بسلوكيات معينة (البكاء، الجفل،…)؛ أن تكون “سعيدًا” يعني “التصرف” ببعض السلوكيات الأخرى (الابتسام، الضحك،…)؛ وهكذا دواليك.
يتم دعم السلوكية الفلسفية أيضًا من خلال نظرية التحقق لحلقة فيينا (مدرسة فيينا الوضعية، مدرسة تضم عددًا من العلماء والفلاسفة تسمى عادة حلقة أو تجريبية فيننا) في فلسفة اللغة، وهي نظرية كانت مركزية لفلسفة الحلقة الأوسع للوضعية المنطقية، وهي شكل من أشكال التجريبية التي أنكرت إمكانية وجود الميتافيزيقيات. جادلت مجموعة الفلاسفة والعلماء في أوائل القرن العشرين في فيينا، النمسا، بأن معنى أي عبارة متجذر في طريقة التحقق الخاصة بها، وأن التحقق كان مقصورًا على البيانات الحسية فقط، إذا لم يكن بالإمكان التحقق من العبارة تجريبيًا، فليس لها معنى عقلاني أو “معرفي”.
وهكذا جادل بعض مؤيدي مبدأ السلوكية الفلسفية بأنه إذا كانت الملاحظة الحسية هي السبيل الوحيد للتحقق من معنى افتراض ما، فيمكن عندئذٍ ترجمة الحالات العقلية الخاصة إلى سلوك يمكن ملاحظته دون فقدان المعنى. ومع ذلك، فإن معظم الفلاسفة لا يؤيدون نظرية التحقق، والتي تم تجاهلها بالإجماع تقريبًا في فلسفة اللغة لعدة أسباب، مثل عدم تناسق النظرية -التحقق بحد ذاته لا يمكن التحقق منه تجريبيًا-. علاوة على ذلك، يشير منتقدو السلوكية الفلسفية إلى أنها معيبة بشكل واضح، لأنه من الممكن تصور أن يكون لدى الشخص حالة عقلية غنية ومتغيرة مع الامتناع عن أي أداء سلوك على الإطلاق. لا يتم التعبير عن كل الألم من خلال البكاء أو الجفل، ولا يتم التعبير عن كل السعادة بالابتسام والضحك.(11) وفي كثير من الأحيان، يتأثر سلوك الشخص بحالات عقلية لا حصر لها (المعتقدات، والعواطف، والرغبات، والدوافع،…)(12) التي يكاد يكون من المستحيل اختزالها إلى خوارزميات السلوك الجسدي المقابل.
ثبت بشكل عام أن كلًا من المادية الإقصائية والفلسفية السلوكية لا يمكن الدفاع عنهما كنظريات فيزيائية للعقل، مما دفع معظم الماديين إلى تبني ما يسمى بنظرية الهوية.(13) تعتمد نظرية الهوية على فكرة أن الاختلافات المفاهيمية لا تستلزم بالضرورة تمييزًا فعليًا بين الكيانات المختلفة، وأن التحقيق التجريبي يمكن أن يؤكد هويتهم المشتركة.(14) لذلك، وفقًا لمؤيدي هذه النظرية مثل الفيلسوف جون سمارت، تمامًا كما أن “الماء” و”H2O” أو “البرق” و”التفريغ الكهربائي في الغلاف الجوي” مختلفان من الناحية المفاهيمية، ولكنهما متطابقان تجريبيًا، كذلك فإن الحالات العقلية متطابقة تجريبيًا مع حالات الدماغ المادية على الرغم من الاختلاف المفاهيمي بينهما. قد تبدو الحالات العقلية الشخصية -الأفكار والمشاعر والذكريات وما إلى ذلك ويطلق عليها في فلسفة العقل منظور الشخص الأول- مختلفة اختلافًا كبيرًا عن الحالات العصبية الموضوعية -النشاطات العصبية في الدماغ ويطلق عليها في فلسفة العقل منظور الشخص الثالث-، وتعتقد نظرية الهوية أن البحث التجريبي قد أظهر أن الحالات العقلية والدماغية متطابقة.
لا يقترح منظرو نظرية الهوية فقط أن الحالات العقلية مرتبطة أو تتفاعل مع حالات الدماغ -العديد من أشكال الثنائية سوف تدعي نفس الشيء- ولكنها نفس الشيء. لا ينكر منظرو نظرية الهوية أيضًا وجود الحالات العقلية كما يفعل منظرو المادية الإقصائية.(15) وفقًا لنظرية الهوية، فإن تجارب العقل حقيقية، لكنها قابلة للاختزال في عمليات الدماغ؛ لأن الاثنين متطابقان في الواقع، الحالات العقلية هي حالات الدماغ الجسدية. إن الشعور الخاص الذي أحصل عليه عندما يعلق إصبعي بالباب متطابق مع بعض الأنشطة المحددة في دماغي، مثل: “نشاطات الألياف C العصبية، أو تنشيط المسارات العصبية المرتبطة بالألم”.(16) على الرغم من اختلافهما في الجوهر، فإن “الألم” و”نشاطات الألياف C العصبية” يشيران إلى نفس الحقيقة، لذا فإن الألم ليس أكثر من نشاطات الألياف C العصبية.
أحد الاعتراضات المقنعة على نظرية الهوية هو ملاحظة القفزة الفلسفية من الترابط إلى التطابق الهوياتي. أثبتت الدراسة التجريبية بالتأكيد وجود علاقة بين -على سبيل المثال- الألم ونشاطات الألياف C العصبية. ومع ذلك، كما يشير روجر سكروتون، فإن التأكيد على “الهوية” يستلزم أنه إذا تمت إزالة الألياف C المرتبطة بالألم تمامًا من جسم شخص ما، ثم تم تحفيزها في المختبر، فإن شخصًا ما أو شيئًا ما سيتألم، وهذا أمر خاطئ تمامًا. يمكن أيضًا تأطير الاعتراض ضمن المبدأ القائل بأنه إذا كان A وB متطابقان، فسيكون لكل منهما جميع خصائص الآخر. ومع ذلك فإن من خصائص التجربة الواعية للألم هي أن تسبب الأذى، بينما نشاطات الألياف C العصبية لا تملك هذه الخاصية.
يرتبط الاعتراض بمناقشة شاول كريبك اللغوية حول وجود “محددات صارمة”، أو المصطلحات التي تشير إلى نفس الكائن في أي عالم ممكن.(17) لكي تكون نظرية الهوية صحيحة، يجب أن تكون عبارات مثل: “الألم مطابق لنشاطات الألياف C العصبية” صحيحة في كل عالم محتمل، مما يعني أن كلا جانبي الجملة يجب أن يكونا محددين بشكل صارم. ومع ذلك كما يوضح المثال أعلاه، يمكننا بسهولة تصور عالم يوجد فيه نشاطات الألياف C العصبية بدون وجود ألم، وعالم يوجد فيه ألم بدون نشاطات الألياف C العصبية، ومن ثم فإن نشاطات الألياف C ليست محددًا صارمًا للألم. بعبارة أخرى، التجارب العقلية ونشاط الدماغ هما ببساطة نوعان مختلفان من الأشياء، حتى لو تم اكتشاف وجود ترابطات قوية بينهما. اعتراض آخر ذو صلة هو أن نظرية الهوية تتجنب “التحقيقية المتعددة/الإدراك المتعدد”، أو وجود نفس الحالات العقلية في الحيوانات ذات الفسيولوجيا العصبية المختلفة: إذا كان الألم مطابقًا لنشاطات الألياف العصبية C، فإن الحيوانات التي وجد أن ألمها مرتبط بنشاطات الألياف العصبية D (أو الألياف E أو الألياف F وما إلى ذلك) لا يجب أن تعاني من الألم، لأن الألم مماثل لنشاطات الألياف C فقط.
استنادًا إلى اعتراض إمكانية الإدراك المتعدد وغيره، اعتنق معظم الماديين نظرية الوظيفية، التي تستند إلى فكرة أن الشيء يتم تعريفه من خلال وظيفته بدلًا من جوهره. وبالتالي، فإن ما يسمى تقليديا “الحالة العقلية” هو فقط بعض الوظائف في سلوك الكائن الحي على وجه التحديد، العلاقة بين المدخلات البيئية والمخرجات السلوكية. يمكن استيعاب قابلية الإدراك المتعدد في هذه النظرية، تؤدي “نشاطات الألياف C” في الإنسان نفس وظيفة “نشاطات الألياف D” في القطط، و”الشعور بالألم” ما هو إلا آلية داخلية تؤدي هذه الوظيفة المحددة. ويتم وصف “الوظيفة” من خلال شبكة العلاقات السببية بين المحفزات البيئية (المدخلات) والسلوك الجسدي (المخرجات). على سبيل المثال، يتم تفسير وظيفة الألم من خلال الارتباط بين إغلاق الباب علي إصبع إنسان أو مخلب قطة (الإدخال) والصراخ عند الإنسان أو إصدار صوت عالي النبرة في القطط (الإخراج).(18)
قد تتضمن الوظيفة أيضًا “حالات عقلية” أخرى، أي وظائف أخرى مرتبطة داخليًا. لذا في مثال الألم، فإن مدخلات إصبع الشخص الذي يضربه باب من شأنه أن يكون متصلًا بـ”الغضب”، وهو في حد ذاته مجرد وظيفة لها اتصالات خوارزمية خاصة بها. إن لغة “العقل” التي نستخدمها -نحن البشر- بشكل تقليدي هي ببساطة طريقة ملائمة للتعبير عن الوظائف. وبالتالي، كنظرية عقلية، تسمح الوظيفية بما أسماه الفيلسوف جون سيرل “الذكاء الاصطناعي القوي”، أو الفكرة القائلة بأن الكمبيوتر يمكن أن تكون له حالات عقلية حقيقية، لأنه من الناحية النظرية يمكن برمجته ليكون له نفس الوظائف التي أظهرها البشر، نفس الروابط الوظيفية بين المدخلات والمخرجات. يرتبط بهذا “اختبار تورينج” الشهير لآلان تورينج، والذي ينص على أن الآلة ستُعتبر ذكية وواعية: “إذا كانت تتصرف مثل شخص عادي في بعض النواحي التي لا يستطيع الناس العاديون أن يقولوا… إنها ليست كذلك”(19)
استعصاء الوعي:
ومع ذلك، فإن ما تستبعده الوظيفية من الوعي هو سمات أساسية، مثل: الكواليا (التجارب الشخصية الواعية) والقصدية الداخلية.
تتضمن الحالات العقلية ما يسميه الفلاسفة بالكواليا، أو الشعور بالألم، أو الاستمتاع بالآيس كريم، أو رؤية اللون الأحمر. والكواليا هي سمات كل وعي بشري أو حيواني. كما جادل الفيلسوف توماس ناجل، فإن العالم الذي يكتسب معرفة كاملة لكل ما يمكن معرفته عن تحديد الموقع بالصدى في الخفافيش، وعلم أعصاب الخفافيش، وجميع الروابط الوظيفية لسلوك الخفافيش، لا يزال لن يعرف “ما هو شعور أن تكون خفاشًا؟”(20) هناك شعور من منظور الشخص الأول لتلك الحقيقة لا يمكن أن يشرحه أي تفسير موضوعي من منظور الشخص الثالث. قدم الفيلسوف فرانك جاكسون حجة مماثلة (حجة المعرفة)(21) حول الكواليا باستخدام الألوان: إذا أُجبر عالم لم ير الألوان من قبل على استكشاف الطبيعة من داخل غرفة فيها لونين فقط أبيض وأسود، وتعلم كل شيء عن الأساس المادي لرؤية اللون -كل شيء في الفيزياء والكيمياء والفيسيولوجيا العصبية، وكل شيء يجب أن تتم معرفته عن الحقائق السببية والعلائقية المترتبة على كل هذا، بما في ذلك بالطبع الأدوار الوظيفية- فإن هذا العالم سيكتسب بلا شك معرفة جديدة بالعالم إذا خرج ورأى اللون الأحمر لأول مرة. على وجه التحديد، كما يشرح جاكسون،(22) “سيدرك مدى فقر مفهومه للحياة العقلية للآخرين طوال الوقت”. يرد بعض منظري الهوية، كما تؤكد نظرية الهوية، أن التمييز المفاهيمي بين الكواليا والمعرفة العلمية لعمليات الدماغ ذات الصلة. ليس دليلًا على تمييزهم الفعلي. ومع ذلك، يجيب مؤيدو حجج المعرفة بأن التجربة الذاتية للكواليا من منظور الشخص الأول لا تزال غير قابلة للنكران، والأوصاف الفيزيائية للنشاط العصبي الموضوعي تتجاهل ذلك. تثبت حجج المعرفة مثل هذه أن الكواليا حقيقية، بناءً على التمييز القاطع بين التجربة الذاتية من منظور الشخص الأول ووصف منظور الشخص الثالث لها. وبالتالي فإن الوظيفية خاطئة، والذكاء الاصطناعي القوي غير متماسك. من الواضح أن الكمبيوتر المبرمج لتقليد استجابة الإنسان للمحفزات يفتقر إلى الكواليا.
تمتلك الحالات العقلية أيضًا القصدية أو توجهًا تجاه شيء ما (أي أنها تدور حول شيء ما): يمكننا التفكير في الكون أو في التاريخ أو حتى في وعينا وما إلى ذلك. استنادًا إلى القصد، صاغ جون سيرل فكرة تجربة تسمى “الغرفة الصينية”،(23) التي تجادل ضد الوظيفية والذكاء الاصطناعي القوي. إذا تخيل المرء شخصًا لا يفهم اللغة الصينية، محبوسًا في غرفة بها كتاب قواعد (برنامج كمبيوتر) يسرد الإجابات الصحيحة للأسئلة بالصينية، من يتلقى هذه الأسئلة كمدخلات من شخص خارج الغرفة، والذي بناءً على كتاب القواعد، يقدم إجابات صحيحة تمامًا كإخراج يعود إلى الشخص في الخارج، يظل صحيحًا أن الرجل في الغرفة لا يزال لا يفهم اللغة الصينية، على الرغم من اجتياز اختبار تورينج بنجاح من وجهة نظر الشخص خارج الغرفة. الرجل الموجود في الغرفة يشبه الكمبيوتر الذي تمت برمجته لإعطاء إجابات صحيحة للأسئلة باللغة الصينية، فلا الرجل ولا الكمبيوتر يفهم اللغة الصينية، في حين أن هناك قصدًا خارجيًا في شكل “وظيفة”، أو إعطاء مخرجات صحيحة استجابةً للمدخلات، فإن القصدية الجوهرية الداخلية لفهم اللغة الصينية غائبة بشكل ملحوظ. والقصدية الجوهرية هي خاصية جوهرية وضرورية للفكر والوعي.
ثبت أن القصدية هي إحدى السمات الرائعة للوعي التي تكشف عن عنادها للاختزال المادي أو الاستبعاد. المعنى متأصل بشكل غامض في العقلية البحتة. كما يلاحظ إدوارد فيسر، فإن أي شيء مادي يُظهر معنى، مثل كلمة أو صورة، يفعل ذلك فقط بسبب العوامل العقلية التي تصنفها على أنها ذات مغزى -قصدها مشتق وليس جوهريًا- في حد ذاتها، الكلمات أو الصور أو بكسلات الكمبيوتر هي مجرد علامات على السطح، فقط العقل هو الذي يعطي هذه العلامات معنى. ومثل علامات الحبر على الورق، فإن عمليات الدماغ هي كيانات/عمليات مادية لا معنى لها بطبيعتها. ومع ذلك، فإن المفاهيم والافتراضات التي يتألف منها الفكر هي بلا شك غير مادية وتجريدية وعالمية. فيسر يعلق:
”لو لم يكن هناك بشر، لكان الافتراض بأنه لا يوجد بشر صحيحًا، على الرغم من عدم وجود كيان مادي لأي نوع من هذا الافتراض ليكون مطابقًا له. لو لم يكن هناك عالم مادي على الإطلاق، لكان الافتراض بأنه لا وجود لعالم مادي صحيحًا، على الرغم من أنه لم يكن هناك حينئذٍ كيان مادي من أي نوع ليكون هذا الافتراض مطابقًا لـه… عندما يستوعب العقل مفهومًا أو قضية، من الواضح أن هناك شعورًا يكون فيه هذا المفهوم أو الاقتراح في العقل؛ ولكن إذا كانت هذه الأشياء موجودة في العقل ومع ذلك… لا يمكن أن تكون في الدماغ، فيبدو أنه لا يمكن تحديد هوية العقل بالدماغ، أو مع أي شيء مادي“.(24)
في الواقع، على الرغم من الإنجازات الشهيرة للعلوم الفيزيائية، فإن المادية كوجهة نظر عالمية شاملة قد تلاشت تدريجيًا، إن لم تكن فشلت تمامًا، في ضوء تلك السمات للعالم التي لا يمكن اختزالها في مادة فيزيائية -الأخلاق والقيم والغرض والمعنى، والعقلانية، وعلم الجمال، والوعي- الذي يمكن القول إنه الأكثر تمردًا تجاه الاختزال الطبيعي. لا يمكن رفض السمات القوية للوعي البشري في المداولات الفلسفية، ولا يمكن إجبار المداولات الفلسفية على التوافق مع الافتراضات الضيقة للعلموية. تشمل هذه السمات القوية للوعي، أو الحالات الواعية:
- الإحساس أو الإدراك الواعي، سواء كان ذلك بالأشياء الخارجية (من خلال البيانات الحسية: البصر والشم والتذوق والسمع واللمس)، أو بالحالات الداخلية (مثل: الجوع والعطش والألم والمتعة). المشاعر أيضًا -الغضب والحزن والفرح والتعاطف وما شابه- يتم الشعور بها داخليًا. في الواقع، إن وجود المرء نفسه يُدركه الوعي مباشرة.
- الفكر، بما في ذلك الفهم المباشر غير الوسيط للمبادئ الأولية، أو الاستدلال الوسيط من خلال استنباط الاستنتاجات من المقدمات. وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أساس التفكير البشري: الفهم البسيط أو التفكير المجرد، وذلك لتشكيل المفاهيم وفهمها.
- الاعتقاد، أو الموافقة الداخلية على عرض ما والفعل المتعلق به باعتباره صحيحًا أو خاطئًا، محتملًا أو غير مرجح.
- الرغبة.
- الذاكرة.
- الإرادة أو الاختيار.
- الدافع، ويعني الزخم الذي يدفع الشخص نحو أو بعيدًا عن فعل ما.
العديد من الفلاسفة يضمون الحدس والبصيرة وما يسمى بـ”الفطرة السليمة”.(25)
يتم دمج كل هذه الخصائص في الذات وتحدد معًا اختيارات الفرد وأفعاله وخبراته الواعية. علاوة على ذلك، يتمتع الوعي البشري بخاصية فريدة تتمثل في “إدراك وعي المرء لذاته/الوعي بالذات” القدرة العميقة على التأمل الذاتي، حيث يواجه الوعي نفسه و”يرى” وعيه الخاص، وفهمه، وإدراكه. جميع سمات الوعي المذكورة أعلاه يتم اختبارها داخليًا وسريًا بواسطة الذات: فهي ذاتية من منظور الشخص الأول ولها طابع فوري لا يمكن إنكاره بالنسبة للفرد. لا يمكن وصفها بلغة منظور الشخص الثالث أو اللغة الموضوعية المستخدمة لما هو جسدي، حتى لو تم العثور على علاقة تجريبية بين الحالات العقلية والحالات/الأحداث الجسدية في الدماغ.
الاعتبار الأخير لتفرد “العقل” وتميزه عن المجال المادي هو وحدة وبساطة الوعي. هذه حجة عقلانية رئيسة لازدواجية الجوهر، طرحها عالم اللاهوت المسلم فخر الدين الرازي في رسالته عن الروح، وقد استخدم ديكارت ولايبنيز وكانط وآخرون نسخًا مختلفة، منها منذ ذلك الحين: الوعي العقلي واحد وغير قابل للتجزئة، يعبر عنه المفرد “أنا” الذي يمثل الفرد. ومع ذلك، فإن الدماغ مركب.(26) إنه مجموعة من الأجزاء المادية منظمة بطريقة معينة. وإذا كانت المادة المركبة هي موضع الوعي، فإن كل جزء من كتلة الدماغ سيكون له جزء من الوعي. ومع ذلك، فإن الوعي، كما يدل عليه الضمير “أنا”، لا ينقسم إلى أجزاء. إنه ما يسميه الفلاسفة “بسيط”. يعلق ويليام هاسكر قائلًا: “إن إدراك الشخص لحقيقة معقدة لا يمكن أن يتكون من أجزاء من الشخص الذي يدرك أجزاء من الحقيقة. إن اقتران الإدراك الجزئي لا يضيف إلى الإدراك الكلي”.(27) وبالمثل، كما يؤكد ديفيد بارنيت “لأي زوج من الكائنات الواعية، من المستحيل أن يكون الزوج نفسه واعيًا”؛ وهذا صحيح فقط لأن الوعي بسيط، في حين أن أي زوج (أو مجموعة أجزاء) مركب”.(28)
ومع ذلك، فإن الروح بسيطة بالفعل، وهي أساس الحياة الروحية للإنسان. إن دلالات إنكارها خطيرة للغاية؛ لأن الروح هي التي تدرك المعنى والهدف والفضيلة. اعتبر اللاهوتيون والروحانيون في الإسلام أنها سر من أسرار الإله، لأن الروح وحدها هي القادرة على المعرفة عن النفس، والمجتمع، والكون، وعن خالقه. والروح فقط هي القادرة على الحب، من بين خصائصها السعي والحنين والشوق إلى الخير والحقيقة والجمال والألفة والكمال. في نهاية المطاف، يفترض مشروع الاكتشاف العلمي نفسه هذا التوجه اللامادي لهذه الحقائق اللامادية المتجاوزة للعالم المادي: العالم مدفوع بشغف لاكتشاف ما هو حقيقي. تستوعب الميتافيزيقا هذه الحقائق اللامادية؛ لأنها تستوعب الوعي. في الأساس، يبدو أن الوعي يظل مستعصيًا على الاختزال الأنطولوجي أو الإزالة. بينما يمكن وصف جسم الإنسان إلى حد كبير بلغة الفيزياء والكيمياء الحيوية، فإن الروح البشرية ليست كذلك. يجب أن تكون شيئًا آخر.
الهوامش:
- See Roger Scruton، Modern Philosophy: An Introduction and Survey (New York: Penguin Books، 1994)، 209.
- For a compelling survey of how these and other contemporary scientific paradigms are insufficient to account for the mind، and often incoherent، see John Horgan، The Undiscovered Mind: How the Human Brain Defies Replication، Medication، and Explanation (New York: Touchstone، 2000).
- Syed Muhammad Naquib al-Attas، Prolegomena to the Metaphysics of Islam: An Exposition of the Fundamental Elements of the Worldview of Islam (Kuala Lumpur: ISTAC، 2001)، 143.
- Aḥmad b. ʿAjībah، Īqāẓ al-himam fī sharḥ al-ḥikam (Beirut: Al-Maktabah al-Thaqāfiyyah، 1988)، 112. In Arabic، laṭīfah rabbāniyyah nūrāniyyah.
- James D. Madden، Mind، Matter & Nature: A Thomistic Proposal for the Philosophy of Mind (Washington D.C.: The Catholic University of America Press، 2013)، 1–7.
- William Barrett، Death of the Soul: From Descartes to the Computer (Garden City، New York: Anchor Press/Doubleday، 1987).
- Edward Feser provides a nuanced explanation of Locke’s distinction as part of his broader theory of perception called “indirect realism.” See Feser، Locke: Oneworld Thinkers (Oxford: Oneworld Publications، 2007)، 46–56.
- Barrett، Death of the Soul، 46.
- The above discussion of physicalist theories is summarized from Madden، Mind، Matter & Nature، 88–131; Edward Feser، Philosophy of Mind: A Beginner’s Guide (London: Oneworld Publications، 2006)، 49–84; Ian Ravenscroft، Philosophy of Mind: A Beginner’s Guide (Oxford: Oxford University Press، 2005)، 25–77. Needless to say، there are other forms of physicalism، as well as materialist arguments against dualism، that are not discussed in this essay due to limitations of time and space. The three works cited in this note are excellent points of departure for further inquiry.
- Intentionality is discussed in more detail later in the essay.
- The scope of this essay does not permit a thorough discussion of verificationism and logical positivism.
- Hilary Putnam، “Brains and Behaviour،” in The Nature of Mind، ed. David M. Rosenthal (Oxford: Oxford University Press، 1991)، 151–159.
- J.J.C. Smart، “Sensations and Brain Processes،” in The Nature of Mind، 169–176.
- What is otherwise intuited as a “contingent identity،” meaning separable in some possible world yet identical in our actual world، is held in IT to be an “empirical identity،” revealed a posteriori to be one and the same in any possible world.
- Scruton، Modern Philosophy، 220.
- This principle is attributed to the 17th century German philosopher Gottfried Leibniz and is termed “the indiscernibility of identicals.”
- Saul Kripke، Naming and Necessity (Malden، MA: Blackwell Publishing، 1981)، 22–70.
- John R. Searle، Mind: A Brief Introduction (Oxford: Oxford University Press، 2004)، 45.
- Madden، Mind، Matter & Nature، 130.
- Thomas Nagel، “What Is It Like to Be a Bat?”، in The Nature of Mind، 422–428.
- These arguments are called “knowledge arguments” in the philosophy of mind literature.
- Frank Jackson، “What Mary Didn’t Know،” in The Nature of Mind، 392–394.
- John R. Searle، “Minds، Brains، and Programs: Plus commentary by J.A. Fodor، and Searle’s response،” in The Nature of Mind، 509–526; Searle، Mind، 62–64. The distinction between intrinsic and extrinsic intentionality is taken from Madden، Mind، Matter & Nature، 147-152.
- Edward Feser، Philosophy of Mind، 203.
- Hubert L. Dreyfus underscores “common sense” as a key feature of human thought that computers by necessity lack، based on the nature of programmed، algorithmic reasoning. See Hubert L. Dreyfus، What Computers Still Can’t Do: A Critique of Artificial Reason (Cambridge، MA: MIT Press، 1999).
- Fakhr al-Dīn al-Rāzī، Kitāb al-nafs wa al-rūḥ wa sharḥ quwāhumā (‘Book of the Soul، the Spirit، and an Exposition of Their Faculties’)، ed. Muḥammad Ṣaghīr Ḥasan al-Maʿsūmī، (Islamabad: Maṭbūʿāt Maʿhad al-Abḥāth al-Islāmiyyah، n.d.)، 27–43.
- William Hasker، The Emergent Self (Ithaca، NY: Cornell University Press، 1999)، 128.
- David Barnett، “You Are Simple،” in The Waning of Materialism، ed. Robert C. Koons and George Bealer (Oxford: Oxford University Press)، 161–174.
- فراز خان: محاضر في كلية الزيتونة، وهي أول كلية جامعية مسلمة معتمدة في الولايات المتحدة الأمريكية.
(المصدر: موقع أثارة)