هل تستطيع الأمة أن تستفيد من كورونا؟!
بقلم أ. محمد إلهامي
قال الله تعالى: (إن مع العسر يسرا * إن مع العسر يسرا)، ومن هذه الآية فهم عمر وابن عباس رضي الله عنهما أن العسر الواحد لن يغلب يسريْن، وهذا الوباء الذي اجتاح العالم وأصاب من أمتنا يجب أن يحملنا التفكير فيه على أن نبحث عن مواضع اليسر التي جاءت معه.
وأكثر من رأيتهم من الباحثين، بمن في ذلك من لا يُتَّهَمون في دينهم وإخلاصهم للأمة، إنما بحثوا وفكروا فيما يقدمونه من التوصيات والمقترحات التي ينبغي أن تقوم بها الحكومات والأنظمة، ولئن كان هذا محموداً من البعض في حال بعض الأنظمة، فإنه لا يكفي بحال أن يُقْتَصَر عليه، ذلك أن مجال الأمة أرحب وأوسع من مجال الأنظمة الحاكمة، كما أن بعض هذه الحكومات كالتي لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً.
ومن ثَمَّ فهذه السطور مجرد تفكير فيما يمكن أن نستثمره في هذه النازلة.
يجب أن ينطلق التفكير أصلاً من قاعدة أننا أمة واحدة، وإنما هذه الفرقة التي بيننا مجرد عارضٍ طارئ علينا لم نصنعه بأنفسنا وإنما صُنِع لنا في أزمنة هزيمتنا. وعليهِ، فكل فرصة تقربنا وتردم هذه الحدود المصطنعة بيننا فهي نعمة كبيرة، وكل انعتاق من القيود الثقافية والسياسية والاقتصادية التي اصطُنِعت لنا فهو باب نهضة مأمولة، ومن ثَمَّ فيجب على الذي يفكر أن يضع في حسبانه عموم الأمة طولاً وعرضاً، فهذا فوق كونه واجباً دينياً فإنه ضرورة، إذ إن الذي سيتحدد بهذه القيود فإنما يُضَيِّق على نفسه.
العلم والتعليم
تحت وقع هذه الجائحة، اضطرت المدارس والجامعات إلى الاعتماد على التعليم عن بعد عبر شبكة الانترنت، ومع ما رافق هذا من الاضطراب والارتباك إلا أن الأمر تمَّ إلى حد أقل ما يُقال عنه إنه مقبول، وسيتحسن مع الممارسة والخبرة وازدياد العقول التي ستدخل إلى المجال وتعمل على تحسين التطبيقات والإمكانيات. وأقيمت بالفعل مؤتمرات علمية متخصصة افتراضية، فضلاً عن الندوات والاجتماعات الحكومية والسياسية. فيما قبل هذه الجائحة كان الأمر عسيراً، بل إن تنظيم سفر يستهلك الوقت والأموال كان أيسر لدى الأكثرين من محاولة تعلم برنامج تواصلي، وكانت فكرة المؤتمر الافتراضي فكرة ممجوجة عموماً.
هذه الوسيلة ستتيح لنا كأمة الاستفادة من طاقات مغمورة ومطمورة ومهجورة لا تُعد ولا تحصى، ففي أمتنا جموع غفيرة من العلماء والدعاة الذين اضطرتهم ظروفهم الاقتصادية والسياسية والأمنية أن يسكنوا أقاصي الأرض أو يسكنوا زوايا القرى والنجوع والحارات والأدغال، هذه الطاقات كلها يمكن أن يُعاد تفعليها من جديد وتستثمر من جديد في التعليم والدعوة والتثقيف، وذلك أن الجميع صار الآن مضطراً للتواصل عن بعد حتى استعمله وأجاده.
ولا يقتصر الأمر هنا على العلم الشرعي أو العمل الدعوي، وإن كان هذا هو أشرف الأعمال لما فيه من تعريف الناس بالله وبالدين وبمعنى الحياة ودورهم فيها، بل يمتد هذا ليشمل كثيراً من العلماء والباحثين المتخصصين في الفروع العلمية المختلفة، والذين اضطرتهم ظروف متعددة لأن يكونوا بعيداً عن مجالهم الطبيعي.. وساعتها سننقذ مواهب عظيمة في تبسيط العلوم وتقديمها بطرق مشوقة ومبدعة مثل: الفيزياء والكيمياء والرياضيات والهندسة وتعليم اللغات وكذلك العلوم الإنسانية والاجتماعية. إننا كثيراً ما نعاني من أن المواد المهمة لا يجد الطالب في مدرسته أو جامعته من يحسن شرحها وتوضيحها، فالقدرة على التعليم موهبة.
وفي مرحلة لاحقة قد يتطور هذا إلى إنشاء مدارس افتراضية وجامعات افتراضية وأكاديميات افتراضية، وتتاح الفرصة لاستضافة خبراء كبار في مجالاتهم لم يكن ممكناً فيما قبل الاستفادة منهم، وهذا كله سيعرفنا على صفوة جديدة من أهل العلوم والخبرات المتميزين الذين سيتعرفون بدورهم على تلاميذ نوابغ في عرض الأمة الإسلامية كلها، وإذا ما التقت الطاقات المحجوزة عن بعضها فإنما نتوقع أن تخرج عنهما الكنوز العجيبة كما قال تعالى عن التقاء البحرين: (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان).
هذا فضلاً عما سيوفره هذا من فرص العمل المختلفة، وما سيسفر عنه من الصعود الطبيعي للطاقات المتميزة وما سيزيحه هذا من المنتفشين الأدعياء الذين لا يُستفاد منهم والذين ما وصلوا لمواقعهم هذه إلا بالرشاوى أو الوسائط أو أسباب الفساد.. فإذا حضر الماء بطل التيمم، وحيث وُجِد مالكٌ فلا يفتي غيره.
ولا أشك أننا سنجد في هذه الحالة فرصة عظيمة في تعلم علوم ممنوعة على أمتنا، وهي كثيرة ليس أولها ما في التقنية والهندسة الوراثية وليس آخرها العلوم الأمنية والعسكرية والفضائية، تلك العلوم التي يحتفظ بها العالم المتقدم (!) لنفسه ويحجزها عن الضعفاء لكي يحافظ على فجوة التخلف بيننا وبينه، بل إن التعارف الذي قد يحدث بين عالِمَيْن أو مجموعة علماء قد ينشأ عنه علومٌ جديدة فضلاً عما قد ينشأ عنه من المخترعات والمبتكرات والأفكار المبدعة التي تستطيع أن تنقل أمتنا من حال إلى حال! فنكسر بهذا حاجز التخلف المفروض علينا والذي حُبِسْنا فيه.
وأقل القليل أنه يمكن تحصيل ثقافات ممنوعة في واقعنا، إما بقرارٍ مقصود أو لظروف غير مقصودة، كثقافة التسلح والعيش في الجبال والغابات والصحاري والاهتداء بالنجوم ومعرفة الوقت وغيرها من الثقافات التي ضربتها المدنية الحديثة المعاصرة.. وهو ما ستحتاجه الأمة قطعاً في ظل حالة الحروب والاضطرابات التي تسودها والتي تجعل المستقر الآمن طريداً في البر والبحر بين عشية وضحاها.. نسأل الله السلامة لنا وللمسلمين أجمعين.
الاقتصاد والأموال
هذا مجال أصعب من مجال العلم والتعليم، وذلك أن المال والاقتصاد من أركان السيطرة العالمية والتحكم في الشعوب، ومع ذلك فإن ثمة ما يمكن فعله وكلٌّ بحسب ما يستطيع.
إن أبسط الأمور أن يتبادل الناس الخدمات والحاجات بمجرد الوعد المبني على الثقة بين طرفين، فإذا أردت –مثلاً- درساً على يد الشيخ الفلاني وكان المقابل أن أقوم له بخدمة أخرى أستطيعها أو أن أدفع ثمن هذا الدرس إلى قريب له في بلدي، فهذه عملية بسيطة، تحققت بها المنفعة المتبادلة دون أن نحتاج إلى المرور على التحويلات البنكية وتحويلات العملة وكافة العمليات التي تزيد من كوننا تحت هيمنة الدولار العالمي وتحت تحكم الرقابة المصرفية.
إلا أن نشأة النقود ارتبطت بتوسع العالم وتعدد الأشخاص والخدمات والاحتياج إلى وسيط سهل للتبادل، فهل يا ترى يكون ممكناً التفكير في إنشاء بنك افتراضي يستند إلى تخزين الأرصدة الافتراضية من الخدمات، والتي يمكن من خلاله تحصيل منافع في مقابلها؟!
فإذا افترضنا مثلاً أنني كتبتُ بحثاً يحتاجه مركز بحثي ما، مقابل مبلغ ما، فإن هذا البنك يحتوي على رصيدي من أجوري التي هي أموال افتراضية مقابل الخدمات التي قدَّمتها، وأستطيع بدوري أن استعمل هذا الرصيد الافتراضي في شراء سلع أو بضائع من متجر ما هو نفسه ضمن شبكة البنك من العملاء.
سيرتبط هذا بقدرة البنك على توسيع عدد العملاء الجهات التي تتعامل معه، وبالثقة التي يُكَوِّنها لعملائه، وسيرتبط أيضاً بقوة سياسية أو ربما اجتماعية تمثل سندًا له! والتفكير في هذه الأمور سيحتاج جهداً ولكنه ليس صعباً ولا مستحيلاً، لا سيما إذا تجرأت دولة من بين الدول الناهضة لتبني هذه التجربة. بل أزعم أن تجربة كهذه يمكن أن تتبناها جماعات متوسطة أو كبيرة، أو مجموعة من الشركات المتحدة أو المتعاونة أو حتى مجموعة من البشر المستوعبين لهذه الفائدة بشرط تحقق الثقة وإحكام النظام الذي يُسَيِّر هذه العملية.
إن نجاح مثل هذه التجربة قد يخرج أمتنا من سلطة الدولار، ويعصم اقتصاديات بلادنا وأموال شعوبنا من عمليات التحكم والهيمنة فضلاً عن المضاربات التي تشهدها البورصات العالمية، وأقله أن يحمي أموالنا ومجهودنا أن يكون هباء ومرهونا بقرار يعبث به أحد في عاصمة غربية (إن من يعرفون النظام المالي العالمي يعرفون أن العالم كله يعمل خادماً لأمريكا، وأن الشعوب هي التي تدفع ثمن رفاهية القلة المترفة من عرقها ودمائها، وأن أمريكا تصدر أزماتها لدول العالم لتحلها نيابة عنها، فتأخذ المغانم وتُحَمِّلهم المغارم.. وهذا موضوع شرحه يطول).
سيكون وجود نظام مالي على هذه الشاكلة دعماً قوياً لسائر الأنشطة الاقتصادية والتجارية التي تجري في أمتنا، وإذا نما نجاح مثل هذه التجربة فستكون بيئة في غاية الخصوبة لإنتاج رجال أعمال مخلصين لأمتهم ومنتجين ومبدعين، مما يحفظ طاقتنا المالية من أن يعبث بها الأجانب أصحاب الاستثمارات الساخنة الذين تخصصوا في خراب اقتصادياتنا الناهضة.
مفهومٌ بالقطع أن النجاح المرجو لن يبلغ الكمال إلا بأن تتبناه دولةٌ ما سياسياً، وتقف وراءه بقوتها وثقلها الأمني والعسكري، ولكن يمكن فعل الكثير والمهم حتى فيما قبلَ تَبَنِّي دولة ما لهذه التجربة.
التواصل
معظم الناس تعرف لأول مرة على برنامج “زووم” تحت ضغط هذه الجائحة، وقد أظهرت بعض الإحصائيات تضاعف عدد مستخدميه آلاف المرات، وظهرت العديد من الدراسات والمقالات التي تتحدث عن مدى الثقة التي يمكن لمستخدم البرنامج أن يعتمد عليها في انتهاك خصوصية واستعمال بياناته. وبدأ صعود برامج الاجتماعات من هذا النوع، سواءٌ بإحياء برامج وطرائق كانت قد نُسِيَت أو حتى اختفت، أو بدخول برامج جديدة على الخط ضمن شركات كبرى (مثل جوجل) أو متوسطة.
ولا شك عندي أن هذا القطاع من برامج التواصل سيواصل النمو والازدهار والتوسع، ويتنافس أهله في المزايا، ثم يتنافس الكبار على احتكاره، ثم يأتينا بقيوده وقوانينه، فتُلغى الحسابات وتُغلق الغرف وتوضع القيود على الاجتماعات، وتحتوي وثائق الاستعمال التي توافق عليها قبل البدء بالبرنامج على بنود جديدة تنتهك حقوق المستخدم وخصوصيته وتجعله تحت رحمة الشركة المنتجة للبرنامج، وربما فرضت عليه الاحتكام لقوانين بعينها في بلد بعينه.
يجب أن يحملنا هذا كله، بعد تجربتنا في مواقع التواصل الاجتماعي الأخرى، على أن تسهم الشركات الإسلامية في هذا الباب بإنتاج برامج التواصل الاجتماعي، ومن الآن.. من قبل أن يحتشد عالمنا في مكان واحد، مثلما احتشد في الفيسبوك وتويتر ويوتيوب وانستجرام، حتى صار إنتاج مواقع تواصل أخرى يكاد يكون عديم القيمة والفائدة.
إذا وُجِد البرنامج الإسلامي للتواصل في مرحلة مبكرة، فإنه سيحقق الكثير من المزايا لأصحابه، ليس أولها الأموال الوفيرة ولا آخرها أنه يمكن أن يكون قوة ناعمة في عالم الانترنت، كما أنه سيوفر مكاناً آمناً للمسلمين وبيئة حاضنة غير خاضعة لاشتراطات غير المسلمين. ولا يعني هذا بطبيعة الحال أنه لن يتعرض لتحديات ومشكلات، فعالم مواقع التواصل وبرامج التواصل هو عالم خلفي للسياسة والقوى الدولية، ولئن أسعف الحظُّ بأن تتبنى دولة ما –أو مجموعة دول- إسلامية هذا البرنامج، فإنه سيكون خطوة قوية في عملية استقلالهم.. فإذا تصورنا أن تركيا وماليزيا وباكستان وإندونيسيا وإيران تبنوا مثل هذا البرنامج كخطوة للحفاظ على بيانات شعوبهم و/أو لاستثمارها داخلياً فإن هذا يسارع بتقوية اقتصادهم وتغمية جوانب اجتماعية كثيرة عن عدوهم ويزيد من التكتل السياسي والاقتصادي فيما بينهم أيضًا.
ومع هذا كله، وقبل أن تستغرقنا الأحلام، نستطيع القول إن مجرد وجود برنامج تواصل إسلامي حتى ولو لم يكن واسع الانتشار وحتى ولو لم تتبنه دولة ما، فإنه خطوة مهمة وكبيرة، وإن مجرد التواصل بين المسلمين في بيئة لا يسيطر الأجنبي على كل تفاصيلها، ولا يتحكم في غلقها وفتحها وطرد الناس منها، إن هذا كله أمرٌ مهم تنتفع به الأمة.
ويبدو إنتاج برنامج إسلامي للتواصل أسهل الأمور التي يمكن تنفيذها في بدايتها، إذ لا يحتاج سوى مجموعة مبرمجين مع رأس مال مع مهارة إدارية في تنفيذ وإنتاج البرنامج، وهذه أمور متوفرة بكثرة في عالمنا الإسلامي، وبقية التحديات ستأتي تباعاً وعند كل مرحلة سيبعث الله لها رجالها، ما دامت النية قد صحَّت، كما قال تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا، وإن الله لمع المحسنين).
العلاقات الاجتماعية
أحد الأركان التي بُنِي عليها الطغيان الحديث، الدولة الحديثة المركزية، كانت في تفكك العلاقات الاجتماعية، ومن أهم ما أسهم في هذا التفكك ظاهرة نشوء المصانع مع الثورة الصناعية، لقد عمل وجود المصنع على إفراغ القرى من السكان كما عمل على تضخم المدينة، ووقع ما يسمونه في التاريخ وعلوم الاجتماع “ظاهرة الهجرة من الريف إلى المدينة”، فحين صار العمل في المصنع يأتي بعائد أفضل من العمل في الزراعة أو في التجارة البسيطة تحول المصنع إلى بذرة مدينة تنشأ من حوله، ينهمر عليها شباب القرى، وتفرغ منهم قراهم.. ويستدعي هذا جهازاً إدارياً يتضخم بازدياد لإدارة هذه الأعداد، بما يجعل منهم تروساً ذات كفاءة لإدارة المصنع الضخم.. واستدعى هذا كله تضخم المدينة، وبالتالي تضخم السلطة المهيمنة على المدينة..
وبقدر ما فرغت القرى من أهلها بقدر ما ضعف ارتباط أهلها بها، وضعفت الروابط الاجتماعية فيما بينهم، وانحلت العصبيات القديمة التي كانت تمثل مركز قوة سياسي واقتصادي واجتماعي، وكانت هذه القوة تنافس وتحتك وتشتبك حتى بقوة السلطة الحاكمة.
أما الآن، فقد انحلت العصبيات، وقدَّمت القرى أبناءها عبيداً في المصانع الجديدة، كما أن المدن الجديدة التي نشأت بعد الثورة الصناعية كانت شبيهة جداً بالعنابر التي يعمل فيها عمال المصانع، مجرد وحدات سكنية متشابهة ومكررة وتزداد توسعًا، لا يُراد منها إلا أن تكون كالزرائب لعمال المصانع يقضون فيها ساعات نومهم بعد أن ينتهك جسدهم طيلة العمل في الصباح، لذلك لم تكن المدن الحديثة تحمل الطابع الفني المعماري الذي حملته مدن العصور الوسطى وعصر النهضة والتنوير، بل كانت مجرد وحدات سكنية باردة وخالية من أي روح أو طابع ثقافي، بل ونُزِعت منها الأسماء لتُعرف بالأرقام، وحتى الشوارع صارت في مدن كثيرة تُعرف بالأرقام لا بالأسماء!.
ونشأ عن هذا التضخم تضخم الجهاز الإداري للدولة، التي صارت تسيطر على كل التفاصيل، كأنها إدارة مصنع كبير، وهؤلاء الأغراب الذين عملوا في المصانع ثم سكنوا المدن إنما كانوا أغراباً أفراداً قد تركوا موضع عصبيتهم وقوتهم وجذورهم، وليس بينهم وبين أمثالهم من الترابط الاجتماعي وعلاقات الرحم ما يجعلهم يفكرون في أن يكونوا قوة أمام إدارة المصنع، أو أمام قوة الدولة.. لذلك اتسع فارق القوة والسيطرة والتحكم والاستبداد بين سلطة تزداد قوة وتحكماً وبين مواطنين أشبه بالعمال والعبيد قد فرغوا من كل قوة.
هذا الكلام السابق، إنما هو مدخل للقول بأن الطغيان الحديث كان في أحد أركانه تطوراً لظاهرة الهجرة من المدينة إلى الريف تحت ضغط الواقع الاقتصادي الصناعي.. ولذلك فإن النظر إلى وباء كورونا من هذه الزاوية سيلفت نظرنا إلى أمر آخر، وهو احتمال أن تنقلب هذه الظاهرة بالعكس.
منذ ظهر الانترنت ظهرت معه وظائف كثيرة يمكن أن يؤديها المرء وهو جالس في بيته أو في قريته، وقد أسهم هذا كثيراً في التحرر من عبودية الواقع وعبودية السلطة لفئات كثيرة، والآن مع اضطرار كثير من الشركات والأعمال لإعطاء موظفيها إجازة اكتشفت كثيرٌ منها إمكانية أن تعتمد على موظفيها وهم في البيوت، وأنه لا حاجة ليكونوا دائما في مقر الشركة، وبعضهم يحتاج أن يكون في مقر الشركة يوما أو يومين خلال الشهر كله.
لو استمرت هذه الظاهرة التي يتزايد فيها الاعتماد على العمل عن بعد، وبرأيي فإنه يجب علينا نحن المسلمين كما يجب على كل الأمم المقهورة أن تسعى في هذا وتحرص عليه، فإنه قد يكون بداية لعودة الهجرة من المدن إلى الريف، واستعادة لما انحل من العصبيات القديمة بإعادة تكوين هذه الروابط.
(ونحن المسلمون مأمورون من خلال نصوص صلة الرحم وحقوق الجار بأن نحرص دائماً على زيادة التكتل الاجتماعي بين الناس، وكلما كان المجتمع متكتلاً كان أقرب للإسلام، بل نحن إذا نظرنا إلى عبادات الإسلام وشعائره لوجدنا أن لها آثاراً اجتماعية قوية.. للمزيد في هذا الأمر: راجع هذا الرابط: https://youtu.be/
ثمة آثار كثيرة وخطيرة سترتب على ظاهرة الهجرة العسكية من المدن إلى الريف، إذا حدثت، ويبدو مجملها في صالح الأمة وفي صالح الشعوب المقهورة ضد السلطات الحاكمة ورجال الرأسمالية الكبار الذين لطالما تضخموا اعتماداً على تضخم المدن، ولا يتسع المقام الآن لسرد تفاصيل.
لكن القاعدة السائرة أن كل قوة للأمة في مقابل قوة السلطة، هي في صالح الشعوب، وهي ضد الطغيان وكهنته وسدنته.
ونسأل الله تعالى أن يلطف بنا وبأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، وأن يجعل الموت راحة لنا من كل شر.
(المصدر: مجلة كلمة حق)