هل تحول الدين إلى تقاليد؟
بقلم مصطفى بن خجو
إنه لمن الظواهر الخطيرة التي لها حضور مكثف في عالمنا الإسلامي انصهار الدين في بوتقة الأعراف والتقاليد، مما يفقده روحه المنعشة التي تضفي على المسلم الإحساس بالنشوة التعبدية واستشعاره العبدية لله في كل آن وحين، ثم من جهة أخرى تضاربه مع هذه التقاليد بأن يكون الأمر لا بأس به من الناحية الدينية لكن العادة لا تسيغه كما في تعدد الزوجات، وقد يكون سائغا فيها بينما الشريعة تمقته وتمنعه، كما في تبرج النساء، والارتباط بين الجنسين خارج النطاق الشرعي.
وقد تعطى العادة الصبغة الدينية حتى يضحى الناس لا يفرقون بينها وبين الدين، فيكون إقبالهم عليها وتمسكهم بزمامها أشد وأكثر من تشبثهم بدينهم، بل هناك من يدعوا إليها ويناضل من أجلها ظنا منه أنه يدعوا إلى دين الله، فغالب هذه الطائفة التي تحسب التقاليد دينا يمثلها الشيب وكبار السن لما لهم من جذور ضاربة في الزمان الغابر الذي محت آثاره رياح التقدم العصري العاتية، ولما يلفونه من صعوبة في تخليهم عن أشياء ألفوها وعايشوها منذ نعومة أظفارهم وشاركوها آباءهم وأجدادهم، فلحصولهم على صلاحية هذه الأشياء وضمان استمراريتها يلجؤون إلى الدين، فتلفي أحدهم يقصر اللباس الإسلامي على القميص أو الجلباب أو العباءة، وربما أوجب ذلك على نفسه وعلى من هو تحت سطوته، مع العلم أن كل لباس يقوم بوظيفة الستر -التي لأجلها كان اللباس- على أكمل وجه فهو لباس إسلامي، سواء كان على شكل هذه الألبسة المذكورة أم غيرها من الأشكال الأخرى.
وفي المقابل أن من يريد التحرر من عاداته وتقاليده يتحرر من دينه أيضا لأنه لا يفرق بينهما؛ فمن ينادي بالثورة على التقاليد والتحرر من مخالبها إنما هو في الحقيقة يثور على كثير من تعاليمه الدينية، فهذه الطائفة التي لا تعد الدين بشتى مظاهره إلا تقاليد قد بات التخلي عنها من أوليات مشروعها غالبيتها الشباب، لانبهارهم بالحياة الرغيدة التي جاد بها ازدهار العلم والتقنية، فطفقوا يقبلون على كل جديد دخيل بنهم بارز، في حين يتخلصون من كل قديم أصيل، بغض النظر عن جودة ورداءة الطرفين، فالمعيار الحاكم لديهم هو القدم والحدوث، فكل جديد صالح، كما أن كل قديم فاسد. ولله در من قال:
شباب يحسبون الدين جهلا وشيب يحسبون الجهل دينا
في كل هذه الأحوال السالفة أجد الدين قد ظلم كثيرا، مما يدفع بقريحتي -بعد طلب المعونة من الله والسداد- أن تجود بشيء يكون لهذا المظلوم نصرا، ولذاك الظالم تنبيها وذكرى.
قديما تحدث علماء الإسلام عن علاقة الدين بالعرف، وأولوا هذا الأخير اهتماما بليغا لما له من الأهمية في تنزيل الحكم الشرعي على الواقعة، بل هناك مادة “فقه الواقع” تعني خصوصا بدراسة العرف دراسة تامة، وتسبر أغواره سبرا، مبرزة كل أوجهه المتفقة مع الشرع والمفترقة معه، بعد ذلك تمنح الأولى الترحيب في دار الشريعة، وربما يتم تحكيمها في بعض القضايا فيكون الحكم الشرعي هو عين الحكم الذي جرت به العادة، لذلك يقولون: “العادة محكمة”، بينما تحرم الثانية من كل ذلك. ومن المعلوم أن الجهل بعوائد الناس قد يؤدي بالمجتهد إلى الخطأ في الحكم كما أن العلم بها منج له من ذلك، فخير ما وقفت عليه في هذا المضمار بيتان لطيفان لأحد العلماء لخص فيهما فحوى ما سبق:
العرف ما يعرف عند الناس ومثله العادة دون باس
ومقتضاهما معا مشروع في غير ما خالفه المشروع
إن الخلط بين الدين والعادة خطأ ناجم عن الجهل بالمكانة الحقة لكل الطرفين؛ فالدين شيء مقدس لا يتغير بتغير الزمكان والظروف والأحوال مصدره الباري سبحانه، والعادة غير مقدسة تختلف من مجتمع لآخر ومن بيئة إلى أخرى مصدرها العقل الجمعي، فشتانا إذن بين المقدس الذي يكتسي بحلل العالم الغيبي الروحي وبين المدنس الذي يكتسي من الفلسفة الشعبية، فعلى كل ذي عقل أن يفرق بين الأمرين، وأن يعزو لكل الطرفين ما ينتمي إليه، فإذا ثبتت نسبته للدين بادر المسلم بالتسليم والانقياد، وإذا ثبتت نسبته للعادة أمكنه التحرر منها، والخروج من ظلامها الدامس إلى نور التجديد والعصرنة.
حاصل المقام أن أمتنا الإسلامية اليوم قد يئست من المتدينين التقليديين الذين أخذوا دينهم عن طريق الوراثة فحسب، يعيشون زمانا غير زمانهم، يخلطون بين العادة والعبادة، يتشبثون بتقاليدهم أكثر مما يتشبثون بدينهم، وربما لم ينل دينهم حظه من ذلك التشبث إلا من جهة هذه التقاليد التي انصهر فيها وصار جزءا منها، فهؤلاء لا تحتاج إليهم هذه الأمة، بل إنما تحتاج إلى متدينين متقدمين ومتطورين، ركبوا قطار الحضارة المعاصرة مصحوبين بتعاليم دينهم ومبادئه الرفيعة، منتشرين في كل القطاعات الاجتماعية، مندمجين في واقعهم بشتى ميادينه ومغيرين له قدر الإمكان، مجسدين لشمولية دينهم لشتى مناح الحياة وصلاحيته لكل زمان ومكان، مبرهنين على أنه لم يقتصر على عصر من العصور الغابرة، متحررين من كل سطوة للتقاليد والأعراف الجامدة، هدفهم الأسمى في حياتهم إرضاء بارئهم جل في علاه.
وإلى أن نصل لهذا المستوى الراقي نحتاج بادئ ذي بدء إلى استشعار مسؤوليتنا جميعا فردا وجماعة تجاه هذا الدين الذي جاء رحمة للعالمين، كل حسب الوظيفة والمكانة التي يشغلها، بدءا من الأمير إلى الوزير إلى آخر أجير، ما عبر عنه القرآن الكريم بالأمانة: “إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ” ثم نعكس هذا الاستشعار بالمسؤولية قولا وعملا وسلوكا.
(المصدر: مدونات الجزيرة)