بقلم د. محمود عبدالعزيز يوسف
تحرير محل النزاع:
محل الاتفاق:
قال القرطبي: “اتفقت الأمة على أن التوبة فرض على المؤمنين؛ لقوله تعالى: ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [النور: 31]”.[1]
محل الخلاف:
اختلف العلماء في التوبة من ذنب مع الإصرار على غيره؛ وذلك على ثلاثة أقوال كالأتي:
القول الأول: تجوز التوبة من ذنب مع الإصرار على غيره؛ وإلى هذا ذهب جمهور الفقهاء[2]؛ وعزى النووي هذا القول إلى أهل السنة. [3]
القول الثاني: لا تجوز التوبة من ذنب مع الإصرار على غيره؛ ولا تصح توبته، وإلى هذا ذهب الإمام أحمد رحمه الله في رواية عنه [4]؛ والمعتزلة. [5]
القول الثالث: أن التوبة لا تصح من ذنب مع الإصرار على غيره من نوعه، كمن تاب من ربا الفضل مع الإصرار على ربا النسيئة أو تاب من الزنا بامرأة معينة مع الإصرار على الزنا بغيرها، أما التوبة من ذنب مع الإصرار على غيره ليس من نوعه، كمن تاب من الربا ولم يتب من شرب الخمر، أو تاب من ترك الصلاة أو التهاون فيها ولم يتب عن الربا، فتوبته في الذي تاب عنه صحيحة؛ وإلى هذا ذهب ابن القيم رحمه الله. [6]
استدل أصحاب القول الأول القائلون بجواز التوبة من ذنب مع الإصرار على غيره بالآتي:
1- إن التوبة فرض واجب من كل ذنب، فإذا تاب من ذنب فقد أدى واجباً وبقي عليه التوبة من الذنب الآخر، كمن صام أياماً من رمضان وأفطر بعضاً منها فإن ما أفطره لا يفسد ولا يبطل ما صامه، أو كمن ترك الحج وأتى بالصلاة والصيام والزكاة.
2- إن التوبة من ذنب مع الإقامة على غيره تصح على الراجح من أقوال أهل العلم، وإن كانت توبة قاصرة غير كاملة.
3- إن التّوبة تتبعّض كالمعصية وتتفاضل في كمّيّتها كما تتفاضل في كيفيّتها، فكلّ ذنب له توبة تخصّه، ولا تتوقّف التّوبة من ذنب على التّوبة من بقيّة الذّنوب، كما لا يتعلّق أحد الذّنبين بالآخر، وكما يصحّ إيمان الكافر مع إدامته شرب الخمر والزّنا تصحّ التّوبة عن ذنب مع الإصرار على آخر.[7]
قال النووي رحمه الله: “وتصح التوبة من ذنب وان كان مصراً على ذنب آخر وإذا تاب توبة صحيحة بشروطها ثم عاود ذلك الذنب كتب عليه ذلك الذنب الثاني ولم تبطل توبته هذا مذهب أهل السنة في المسألتين”. [8]
واستدل أصحاب القول الثاني القائلون بعدم جواز التوبة من ذنب مع الإصرار على غيره بالآتي:
إن التوبة رجوع إلى الله تعالى عن معصيته، فمن تاب من ذنب مع إصراره على غيره لم يرجع عن معصية الله.
ونوقش:
قال ابن تيمية: “عند أهل السنة والجماعة يتقبل العمل ممن اتقى الله فيه فعمله خالصاً لله موافقاً لأمر الله، فمن اتقاه في عمل تقبله منه وإن كان عاصياً في غيره، ومن لم يتقه فيه لم يتقبله منه وإن كان مطيعاً في غيره، والتوبة من بعض الذنوب دون بعض كفعل بعض الحسنات المأمور بها دون بعض إذا لم يكن المتروك شرطاً في صحة المفعول كالإيمان المشروط في غيره من الأعمال “. [9]
واستدل أصحاب القول الثالث القائلون بجواز التوبة من ذنب مع الإصرار على غيره من غير نوعه بالآتي:
قال ابن القيم رحمه الله: “هل تصح التوبة من ذنب مع الإصرار على غيره؟ فيه قولان لأهل العلم، وهما روايتان عن الإمام أحمد رضي الله عنه. والذي عندي في هذه المسألة: أن التوبة لا تصح من ذنب مع الإصرار على آخر من نوعه. وأما التوبة من ذنب مع مباشرة آخر لا تعلق له به ولا هو من نوعه فتصح، كما إذا تاب من الربا ولم يتب من شرب الخمر مثلا فإن توبته من الربا صحيحة، وأما إذا تاب من ربا الفضل ولم يتب من ربا النسيئة وأصر عليه أو بالعكس، أو تاب من تناول الحشيشة وأصر على شرب الخمر أو بالعكس: فهذا لا تصح توبته، وهو كمن يتوب عن الزنا بامرأة وهو مصر على الزنا بغيرها غير تائب منها، أو تاب من شرب عصير العنب المسكر وهو مصر على شرب غيره من الأشربة المسكرة. فهذا في الحقيقة لم يتب من الذنب، وإنما عدل عن نوع منه إلى نوع آخر، بخلاف من عدل عن معصية إلى معصية أخرى غيرها في الجنس “. [10]
وقال القرطبي: ” وتصح – التوبة – من ذنب مع الإقامة على غيره من غير نوعه، خلافاً للمعتزلة في قولهم: لا يكون تائباً من أقام على ذنب. ولا فرق بين معصية ومعصية هذا مذهب أهل السنة”.[11]
وقال في غذاء الألباب: ” وتصح من بعض ذنوبه في الأصح خلافاً للمعتزلة؛ نعم لا تصح التوبة من ذنب أصر على مثله مثل أن يتوب من زناه يوم كذا أو في فلانة وهو مُصر على الزنا بغيرها أو بها؛ وإنما تاب من الزنا الذي صدر منه أولاً دون ما يفعله في المستقبل؛ فهو مُصر على أصل فعل الزنا فلا تقبل توبته منه حينئذ والله أعلم”. [12]
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: “وهل تصح التوبة من ذنب مع الإصرار على غيره؟ للعلماء في هذا ثلاثة أقوال: الأول: أنها تصح، والثاني: أنها تصح إن كان الذنب من غير الجنس، والثالث: لا تصح. والصحيح: أنها تصح من ذنب مع الإصرار على غيره، لكن لا يستحق اسم التائبين على سبيل الإطلاق؛ فلا يستحق وصف التائب، ولا يدخل في مدح التائبين؛ لأن توبته مقيدة من هذا الذنب المعين. ومثال ذلك: إذا تاب رجل من الزنا لكنه يتتبع النساء بالنظر المحرم فإن توبته من الزنا تصح على القول الراجح؛ لكن لا يستحق وصف التائب على سبيل الإطلاق؛ وعلى القول بأنها تصح إذا كانت من غير الجنس: فإنها لا تصح؛ وإذا تاب من الزنا مع الإصرار على الربا فإنها تصح؛ لأن الربا ليس من جنسه”.[13]
فهذا من حيث صحة التوبة من ذنب مع الإصرار على غيره، والواجب على المسلم أن يتوب من جميع ذنوبه، وأن يستقيم على أمر الله، لينجو من عذاب الله.
أما التوبة من ذنب مع الإصرار على غيره فهي وإن كانت توبة صحيحة من ذلك الذنب، لكنها توبة ناقصة، وقاصرة، وليست هي التوبة النصوح التي وعد الله تعالى أهلها بالمغفرة والجنة، قال الله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾ [التحريم: 8]. [14]
القول الراجح:
الذي يظهر لي هو رجحان القول الثالث، وهو ما ذهب إليه ابن القيم رحمه الله، وذلك أن الذنوب أنواع، وقد يجد الإنسان قوة في ترك بعضها، وتغلبه نفسه وشيطانه على بعضها الآخر، فلو اشترط لذلك التوبة من جميع الذنوب، لتعسرت التوبة على كثير من الناس؛ فأما إن تاب من ذنب، مع الإصرار على ذنب آخر من نوعه، فحقيقته لم يتب من الذنب، وإنما هو مصر عليه ولكن بطريقة أخرى. [15]
قال ابن القيم رحمه الله: “النصح في التوبة يتضمن ثلاثة أشياء:
الأول: تعميم جميع الذنوب بحيث لا تدع ذنباً إلا تناولته.
والثاني: إجماع العزم والصدق بكليته عليها بحيث لا يبقى عنده تردد ولا تلوم ولا انتظار، بل يجمع عليها كل إرادته وعزيمته مبادرا بها.
الثالث: تخليصها من الشوائب والعلل القادحة في إخلاصها، ووقوعها لمحض الخوف من الله وخشيته والرغبة فيما لديه والرهبة مما عنده، لا كمن يتوب لحفظ جاهه وحرمته ومنصبه ورياسته ولحفظ حاله أو لحفظ قوته وماله أو استدعاء حمد الناس أو الهرب من ذمهم أو لئلا يتسلط عليه السفهاء أو لقضاء نهمته من الدنيا أو لإفلاسه وعجزه ونحو ذلك من العلل التي تقدح في صحتها وخلوصها لله عز و جل”.[16]
فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا». [17]
وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: « إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ». [18]
——————————————————
[1] راجع: الجامع لأحكام القرآن (5/ 90).
[2] راجع: تفسير الألوسي 28 / 159، بلغة السالك 4 / 738، الفواكه الدواني 1 / 89، الروضة 11 / 249، مدارج السالكين 1/ 273، 274، الآداب الشرعية 1 / 65، 66.
[3] راجع: شرح النووي على مسلم (17/ 63)، وانظر التوبة من الذنوب للغزالي (ص:53)، ومختصر المعتمد للقاضي أبي يعلى (ص:203)، لوامع الأنوار البهية (1/ 383)
[4] راجع: مدارج السالكين (1/ 273-275).
[5] راجع: الجامع لأحكام القرآن (5/ 90)؛ غذاء الألباب (4/ 207).
[6] راجع: مدارج السالكين (1/ 298).
[7] راجع: أسباب رفع العقوبة عن العبد لشيخ الإسلام ابن تيمية؛ تحقيق علي بن نايف الشحود ص9.
[8] راجع: شرح مسلم للنووي (17/ 59-60).
[9] راجع: الفتاوى الكبرى لابن تيمية 10/ 323.
[10] راجع: مدارج السالكين مختصراً (1/ 273-275).
[11] راجع: الجامع لأحكام القرآن (5/ 90).
[12] راجع: غذاء الألباب (4/ 207).
[13] راجع: تفسير القرآن للشيخ ابن عثيمين (4/ 161).
[14] سورة التحريم الآية رقم 4.
[15] راجع: المباحث العقدية المتعلقة بالكبائر ومرتكبها في الدنيا لسعود بن عبد العزيز الخلف؛ نشر: الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ص85.
[16] راجع: مدارج السالكين (1/ 377).
[17] رواه مسلم.
[18] حسن: أخرجه الترمذي وحسنه وابن ماجه وأحمد، وحسنه الألباني.
المصدر: شبكة الألوكة.