مقالاتمقالات المنتدى

هل تآمر المسلمين على قطع أعشاب الأفاوية عن الكنائس البيزنطية؟

هل تآمر المسلمين على قطع أعشاب الأفاوية عن الكنائس البيزنطية؟

بقلم د. عبد الوهاب القرش (خاص بمنتدى العلماء)

بعد أن تمكنت الدولة الإسلامية من السيطرة على الأقاليم المفتوحة في المشرق وحوض وجزر البحر المتوسط، باءت بالفشل كل محاولات الدولة البيزنطية لاسترجاع ممتلكاتها، علل عدد من رجال الدين البيزنطيين من  أمثال ثيوفانيس Theophanes نيكتاس خونياتسNicetas choniates، وحنا زوناراس Zonaras John هذا الفشل الذريع يعود إلى مؤامرة دبرها المسلمون بأن منعوا تصدير الأفاوية، (أي أصناف التوابل والنباتات العطرية التي تدخل في طبخ زيت الميرون المقدس بواسطة البابا البطريرك وبمشاركة الآباء الأساقفة) إلى بيزنطة وأوروبا؛ فلم يكن باستطاعة رجال الدين تصنيع زيت الميرون الذي هو في اعتقاد القوم سر المسحة المقدسة التي حلت محل وضع يد الرسل والأساقفة على المؤمنين من المسيحيين لنيل موهبة الروح القدس.. وبالتالي لم يتمكن أبناء بيزنطة وأوروبا من أخذ المسحة المقدسة التي تحميهم من كيد الشيطان، مما كان سببًا مباشرًا في ضعف إيمانهم وبالتالي هزيمتهم نفسيًا وعسكريًا أمام الجيوش الإسلامية في شرق و غرب أوروبا، فكان ذلك السبب المباشر في انتشار الإسلام في الأناضول وحوض البحر الأبيض المتوسط.

فما حقيقة ذلك الإدعاء وتلك المؤامرة؟

الحقائق التاريخية تقول بأن «نظرية المؤامرة»، مصطلح دائمًا ما يستخدمه الجانب الأضعف في أي معادلة إنسانية لوصف المحاولات المستمرة للجانب الأقوى لإقصائه من المعادلة.. وفي الحقيقة فإن الدولة البيزنطية كانت تمر بأشد فترات ضعفها.. ولم يكن باستطاعتها بأي شكل من الأشكال استرجاع أقاليمها التي فتحها المسلمون، ووقع الضغط على رجال الدين من قبل العامة ورجال الدولة لعلهم يجدوا عندهم الحل والصبر والسلوان عن فقدان أبنائهم ورجالهم الذين قتلوا في الحروب مع المسلمين ومحاولاتهم البائسة في استرجاع الأقاليم الشرقية البيزنطية و التي كانت تدر عليهم المن والسلوى والعسل المصفى، ولكي يدافع رجال الدين -الذين تخموا وفاضت خزائنهم بذهب النذور والتبرعات- عن مكانتهم في نفوس العامة ضمانًا لاستمرار تدفق النذور والعطايا لجأوا إلى فكرة المؤامرة، مدعين بأن إيمان المسيحيين يشكل خطرًا على المسلمين فلجأ المسلمون إلى قطع الأفاوية فتزعزع الإيمان المسيحي. وهذا بالطبع خيال كبير على وزن «عندي أعداء، عندي ما يُرعبهم»!

في الحقيقة لم تنقطع التجارة بين المسلمين والبيزنطيين رغم الصراع العسكري الدائر بين الدولتين، فتحدثنا المصادر اليونانية عن رحلة قام بها الأسقف أركولفوس Arculfus من بلاد الغال (فرنسا) زار خلالها بعض مناطق فلسطين في عام (50 هـ/670 م)، وأبحر بعدها من ميناء يافا على الساحل الشامي في سفينة كانت متجهة إلى ميناء الإسكندرية، التي مكث بها أربعين يوماً، ومنها اتجه إلى جزيرة كريت ثم القسطنطينية، وفى طريق عودته إلى بلاده زار جزيرة صقلية ثم انتقل منها إلى روما وكانت سفينته محملة بالأفاوية.

ومن الواضح أن الأسقف أركولفوس قام برحلته تلك عن طريق البحر، وهذا دليل على أن تجارة الأفاوية عبر الطرق البحرية لم تنقطع في الحوض الشرقي للبحر المتوسط، بل كانت تصل باستمرار من الشرق الأقصى عبر الدولة الإسلامية إلى الإمبراطورية البيزنطية والغرب الأوروبي.

هذا؛ وقد عُثِر على ستة وعشرون ختماً خاصاً بوظيفة مراقب التجارة الخارجية  kommerkiarioi للسنوات (34 –100هـ/654 – 720م) ، وبين أيدينا أحد هذه الأختام وهو خاص بأحد المراقبين للتجارة والتابعين لإقليم الأناضول، وهذا الموظف يقوم بمراقبة التجارة الخارجية التي تقام في مواسم معينة سنوياً مثل الأسواق التي تعقد أثناء الاحتفالات بأعياد ميلاد القديسين، ومن أمثلة ذلك سوق القديس ديمتري في سالونيكا، وسوق القديس أرتيموس في القسطنطينية، وفي هذه المناسبات الدينية يتم تعميد المسيحيين بزيت الميرون الذي ترد مكوناته إلى الكنائس عبر موانئ سالونيكا أو القسطنطينية المفتوحة على البحر المتوسط وتصل إليها جميع أنواع التجارة ومن بينها الأفاوية.

ونأتي للدليل الدامغ على استمرار تدفق الأفاوية أي الأعشاب المكونة لزيت الميرون، وأن المسلمين لم يقطعوها عن كنائس بيزنطة والغرب الأوروبي، حيث عثر على مرسوم ملكي أصدره شيليريك الثاني  Chilperic IIمن الملوك الميروفنجيين إلى كنيسة كوربي  Corbie المؤرخ بـ (29 أبريل 716م/99ه)، يعفيها من دفع الرسوم المقررة عليها على أصناف البضائع التالية: « حصا لبان – جاروم (نوع من الطعام) – فلفل – كمون – قشور ورد عراقي –  قرنفل- سنبل الطيب –  قصب الذريرة – عرق الطيب – السليخة – دار شيشعان – تين الفيل – لافندر – صندل مقاصيري  – قرفة – قرنفل – بسباسة – بلح – مر – تين – قسط هندي – لوز – فستق جوزة الطيب – زرنباد – سنبل – عود قاقلي – زعفران – لادن ولامي – دارسين – صبر قسطري – الميعة السائلة – حبهان – مسك سائل – عنبر – بلسم – حمص الشام – أرز – فلفل أحمر – زيت زيتون فلسطيني – بردى».

وبعقد مقارنة بسيطة بين الأصناف الموجودة في المرسوم الملكي وبين مكونات زيت الميرون الذي يتكون من (28 الأفاوية) هي: «قصب الذريرة – عرق الطيب – السليخة – دار شيشعان – تين الفيل – لافندر – قسط هندي – صندل مقاصيري  – قرفة – قرنفل – قشور ورد عراقي – حصا لبان – بسباسة – جوزة الطيب – زرنباد – سنبل – عود قاقلي – مر – زعفران – لادن ولامي – دارسين – صبر قسطري – الميعة السائلة – حبهان – مسك سائل – عنبر – بلسم – زيت زيتون فلسطيني» ، وبذلك يتضح لنا أن قائمة الأصناف في المرسوم الملكي تشمل كل مكونات زيت الميرون ، وكلها أصناف تأتي من شرق آسيا والشام ومصر وشمال إفريقيا ، مما يؤكد استمرار تصدير المسلمين لهذه الأصناف إلى بيزنطة والغرب الأوروبي.

وبناء على ما سبق فإن نظرية المؤامرة التي تحاول أن تثبت أن المسلمين قطعوا تجارة الأفاوية المكونة لزيت الميرون غير معقولة وغير مقبولة، فهي نوع من ممارسة الخيال التاريخي الذي لا يعتمد على أدلة اقتصادية صحيحة.

_________________________________________________________________________

المصادر والمراجع:

  • الطبري : تاريخ الرسل والملوك، 10 أجزاء، تحقيق محمد ابو الفضل إبراهيم، سلسلة ذخائر العرب، العدد (30)، الطبعة الرابعة، دار المعارف، القاهرة، 1979م.
  • المسعودي: التبنيه والإشراف ، مكتبة الشروق ومطبعتها ، القاهرة :1375هـ /1938م.
  • Gibb:” Arab-Byzantine Relations” in . D.O.P., 1958.
  • S. Demtrii., lemerle, edl, les plus Anciens Recueils des Miracles de S. Demtrii., lemerle, ed., Les plus Anciens Recueils des Miracles de S. Demetrius i. Le texte, paris, 1979.
  • Nicetas choniates., Historia., P.M.G. paris, 1865.
  • Pirenne, H., Mohamet et charlemagne, 20 ed. Paris, 1937.
  • Welson:Pilgrimage of Arculfus in the holy land Palestine. Pilgrimage text society., London. 1895.
  • , Chronographia., P.G.M tome Cix., paris. 1963.
  • J., Annalium., P.G.M., tome Cxxxlv-cxxxv. Paris 1864.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى