هل الملحد ذكي والمؤمن بالأديان غبي؟
بقلم سلمى نبيل
كثيرًا ما يُحاول النّاس ربطَ مكانة الأشخاص بمعتقداتهم، فحين يسمعون أنّ فُلانًا هو صاحب أكبر شركة تقنية في العالَم أو أهمّ رجل أعمال في العالَم أو حاصل على جائزة نوبل، فغالبًا ما يتبادر إلى أذهانهم بادئ الأمر التحقّق من ديانة الشخص أو معتقداته الدينية التي يتبنّاها. وليس بعيدًا عن هذا تعجّب النّاس واستغرابهم وتساؤلاتهم المستمرّة، مثل: كيف يعتنق هذا العالِم الفيزيائي الكبير ديانة تقدّس الحيوانات والأشياء؟
أو لعلّك تسمع كثيرًا عبارات تقول: فُلان بدأ يقرأ في الفلسفة والأديان، وهو حتمًا في طريقه نحو الإلحاد. أو لعلّك سمعت ادّعاءات كثيرة تَصِف المُتديّنين بأنّهم أقلّ ذكاءً لأنّهم يقبلون بتفسيرات أوّلية، أو أنهم لا يُحبّون إجهاد عقولهم أو التفكير بطريقة حرّة. ولا شكّ أنّ مساحة النقاشات حول المعتقدات والإلحاد مساحة شائكة يشوبها كثير من الحدّة والحسّاسية بين أنصارها ومُعارضيها.
لا يبحث هذا المقال في صحّة الدّين أو في حجج الإلحاد، لكنه يُراجع الدراسات العلمية التي حاولت تتبّع علاقة مستوى الذكاء بالمُعتَقَد الدّيني أو بعدم وجود معتقد ديني لدى الفرد. ومن ثَم فالهدف من هذا المقال عرض الدراسات العلمية في حقل علم النفس المعرفي والإدراكي حول علاقة الذكاء بالمعتقدات التي يتبنّاها الأفراد. فهل تحدّد معتقداتك الدّينية مدى نبوغك أو أن ذلك قد تقرره محددات أخرى؟
ليس صحيحًا
ليس صحيحًا أنّ هناك صلة سببية واضحة علميًّا أو دالّة إحصائيًّا بين الإيمان أو الإلحاد ومستوى الذكاء، أو أنّ الملحدين أكثر ذكاء من المؤمنين بالضرورة؛ فقد نجد من بين مَن يعتنقون الإلحاد مَن يُسجّلون نسب ذكاء مُتوسّطة أو مُتدنّية والعكس، وقد نجد بين مَن يعتنقون المعتقدات الدينية مَن يُسجّلون نسب ذكاء مرتفعة والعكس.
قد يرجع سبب هذا الادّعاء الشهير حول ارتباط الذكاء بالإلحاد وارتباط التديّن بعدم الذكاء إلى ادّعاءات متحيّزة فرضها رُوّاد التنوير والعلمنة بسبب الصراع مع الكنيسة في العصور الوسطى في أوروبا، فالمُدقّق في لفظ “التنوير” بحدّ ذاته يرى أنّ هذه العبارة تستبطن ظلامية الآخر، فأنا مُتنوِّر وأؤمن بالعلم والبشرية والتقدّم، وهذا يعني أنّ غيري ظلامي ورَجعي ومتخلّف وهو في الغالب مُتديّن(3).
وقد يعود مردّ هذه المزاعم التي تربط الإلحاد بالذكاء إلى أفكار عالم النفس التطوري “ساتوشي كانازاوا”(1). إذ تشير المبادئ التي وضعها “كانازاوا” إلى أن السلوك البشري يستمدّ نفسه دائمًا من البيئة التي تطور فيها أسلاف البشر. ما يعني أنّ الباحثين في نظريات علم النفس التطوّري، ينظرون إلى الدّين بوصفه مرحلة بدائية في الإدراك البشري، حيث استدعى فيها الأسلاف مَقولات الأديان لتفسير الوجود من حولهم.
وهذا هو الأساس الذي بنى عليه الباحثان “إدوارد داتون” و”ديميتري فان دير ليندن” بحثهما عن الارتباط بين الذكاء والدين(2)(3)، وعليه، قرّرَا أنّ أحد جوانب الذكاء هو القدرة على الارتقاء فوق التحيزات المعرفية المتطورة لدينا حتى يتاح لنا حل المشكلات المعرفية الجديدة بشكل أفضل من خلال الانفتاح أكثر على الحلول المحتملة غير العادية. حجة “داتون” و”فان دير ليندن” هي ببساطة أن البشر لديهم تحيزات معرفية معينة، والذكاء هو ما يعينهم على تجاوزها بمرونة(4).
إحدى الدراسات المهمة التي راجعت الدراسات التي بحثت علاقة الذكاء بالمُعتقدات الدينية أو التديّن، هي دراسة أجراها عالمَا النفس “زوكرمان” و”سيلبرمان هال”، حيث قاما بعمل مدقق بالنظر في العمليات التي قد تسبب الارتباط بين الذكاء والتدين(5)(6)، فوجدا بالفعل أنّه قد يرتبط الإلحاد أو عدم وجود معتقد ديني بالذكاء، لكنّه ليس ارتباطًا مباشرًا، إنّما سببه عوامل وسيطة هي التي تقود إلى مثل هذه الارتباطات الإحصائية. وبحسب الباحثين فإنّ الأمر يتعلق بالخصائص الإدراكية والسلوكية التي يتمتّع بها الأشخاص الأذكياء، وفق الديناميات التالية:
- الأشخاص الأذكياء أكثر عرضة من أقرانهم لتحدي التقاليد وعدم الامتثال لقيم الجماعة.
- الأشخاص الذين يسجّلون علامة مرتفعة على مقياس g للذكاء يتبنَّون أساليب التفكير التحليلي.
- الأشخاص الذين يُسجّلون علامة متدنّية على مقياس g للذكاء يميلون إلى أنماط التفكير البَدهي.
إذًا، فالعلاقة ليست مباشرة بين الدّين والذكاء أو بين الإلحاد والذكاء، بقدر ما يرتبط الذكاء بأنماط سلوكية وتفكيرية تجعلهم أكثر ميلًا إلى اتّجاه أو معتقدات محدّدة بعينها. فبحسب الدراسة، ينجذب البشر إلى طرق مختلفة لفهم العالم بناءً على قدرتهم على التعامل مع التعقيد. فالعلم معقد للغاية بالنسبة إلى أولئك الذين يتمتعون بذكاء أقل، فيلجؤون -من ثَمّ- إلى التفسيرات الأبسط والقواعد الإرشادية للحياة التي توفرها الأديان عادةً.
ما الصواب؟
تنسف جميع تلك الفرضيات؛ الفرضية القائلة بأن المعتقدات الدينية غير عقلانية، أو غير علمية، وغير قابلة للاختبار، ومن ثم فهي غير جذابة للأشخاص الأذكياء. كما أنّ تلك الاستنتاجات قد بُنيت بناءً على تعريف الذكاء التحليلي دون النظر في الأشكال المحددة حديثًا للذكاء الإبداعي والعاطفي. والذكاء التحليلي هو المعروف أيضًا باسم عامل g، والذي يلتقط القدرة على التفكير والتخطيط وحل المشكلات والتفكير المجرد وفهم الأفكار المعقدة والتعلم سريعا والتلقين من التجربة.
أما “هيلموث نيبورج”، أحد من حاولوا إثبات أن الملحدين يفوقون المتدينين ذكاءً، فقد أسقط في اعتباره العوامل الاجتماعية و\أو الاقتصادية و\أو المالية، حيث إن معظم البلدان التي أشار إليها أنها ذات ذكاء متدنٍّ هي دول أفريقية أقل “تقدمًا”، وهو ما يضع باحثًا كهيلموت محل شك، فقد حاول سابقًا إثبات أن النساء أقل ذكاءً من الرجال، وأن السود أقل ذكاءً من البيض(7)، لتفقد نظرياته مصداقيتها في العلم الحديث.
يخلص الباحث في الذكاء الاصطناعي “راندي أولسون” في انتقاده للأبحاث المذكورة آنفًا أن كلًّا من المتدينين والملحدين في البلدان المتقدمة كانوا جميعًا ضمن حدود الذكاء المتوسط. ومن الناحية العملية، لا يمكن تمييز أي منهما بشكل جيد عن الآخر. لذا، فشلت جميع الأوراق في إثبات أن الملحدين كانوا أكثر ذكاءً فعلًا لمجرّد إلحادهم أو لمجرّد تجرّدهم من المعتقدات الدينية.
لكنّ الباحثين أيضًا يتساءلون: هل هناك حقًّا أي معنى إذا كان الملحدون أو المُتديّنون أكثر ذكاءً؟(3) الذكاء، بحسب معجم المُصطلحات النفسية الصادر عن الجمعية الأمريكية لعلماء النفس، هو القدرة على استنباط المعلومات والتكيّف المرن مع المشكلات الجديدة عن طريق توظيف الخبرات السابقة وتحليلها والتعلّم منها. هذا التعريف مهم؛ لأنّ الذكاء لا يُعبّر بالضرورة عن صحّة المُعتقدات أو خطئها، والذكاء المُرتفع للأشخاص لا يَدُلّنا على صحّة معتقداتهم أو خطئها، لكن الذكاء بحسب العديد من الدراسات يرتبط بالأداء الدراسي والمهني للفرد وبالحالة الاجتماعية والاقتصادية له وبعاداته الصحّية وعمره والتزامه بالقوانين(8)(9).
الذكاء لا يُخبرنا عن صحّة المُعتقدات أو بُطلانها، الذكاء لا يُخبرنا عن القيمة الموضوعية للأفكار والأديان والمدارس الفكرية، الذكاء يُعبّر عن الأفراد، عن أصحابه، عن قدراتهم على التحليل وتوظيف المعلومات والخبرات السابقة لديهم لحلّ مشكلة جديدة أو موقف مختلف. هناك أذكياء يعتنقون المعتقدات الدينية، وهناك من لا يعتنقون أي مُعتَنَق ديني، ويصفون أنفسهم بأنّهم مُلحدون، ومع ذلك يسجلّون درجات متدنية على سلم الذكاء.
مصادر للاستزادة
يعني توني جاك، الحاصل على دكتوراه في علم النفس التجريبي، في مقطعه المرئي المعنون بـ”دفاع علمي عن العقيدة الروحية والدينية” شرح إحدى الحجج التي وطّدت من خرافة ارتباط معدلات الذكاء بالإيمان أو الإلحاد، والتي تفيد بأن العلماء ذوي الذكاء المرتفع غالبا ما يكونون ملحدين.
________________________________________
المراجع:
- The Myth of the Stupid Believer – Edward Dutton and others (2019)
- Are religious people really less smart, on average, than atheists? – Emma Young (2018)
- Does it matter if atheists are smarter than believers? – Rob Brooks (2013)
- Why more intelligent people tend to be atheistic? (2017)
- Are Religious People Really, On Average, Less Smart than Atheists? (2018)
- Religious people are less intelligent than atheists, according to analysis of scores of scientific studies stretching back over decades (2013)
- Atheists are more intelligent? Refuting that old atheist myth (2016)
- IQ and Society: The deeply interconnected web of IQ and societal outcomes (2018)
- What Does IQ Really Measure? – Science (2011)