بقلم د. معتز الخطيب – مدونات الجزيرة
العلاقة بين التصوف والسياسة ليست وليدة مرحلة الثورات، كما أنها علاقة متنوعة تأخذ أشكالاً متعددة فلا يمكن اختزالها أو تنميطها، وقد مرت فكرةُ طرح الصوفية كبديل أو حلٍّ في اتجاهين:
الاتجاه الأول: مع الديكتاتوريات العربية التي استعانت بالطرق الصوفية لتقويض حركات الإسلام السياسي المعارضة والتي تهدد سلطانها، حدث ذلك قبل الثورات وبعدها، فقبل الثورات لدينا نموذجان بارزان هما مصر وسوريا، حيث شكلت فيهما الطرق الصوفية حليفًا مهمًّا للنظام السياسي تستعين به في إشاعة تدين منزوع السياسة ومعزول عن الشأن العام، يتسم بإخضاع المريد لسلطة الشيخ حيث يتحالف الاستبداد الديني مع الاستبداد السياسي.
ففي سوريا تحالف نظام حافظ الأسد مع بعض الطرق الصوفية (خصوصًا مفتي الجمهورية السابق الشيخ أحمد كفتارو النقشبندي) في حربه على الإخوان المسلمين في الثمانينيات ومكّن لشيوخ الصوفية فسيطروا على حركة التدين في سوريا حتى قيام الثورة، وكذلك الحال في مصر حيث شكلت الطرق الصوفية حليفًا لنظام مبارك تتبادل معه المنافع، فشيخ الأزهر أحمد الطيب كان عضوًا في الحزب الوطني الحاكم وهو شيخ طريقة، والطريقة الحامدية الشاذلية الواسعةُ الانتشار تضم بين أعضائها العديد من أفراد النخبة السياسية، ومنهم وزراء وضباط في الجيش المصري.
الاتجاه الثاني: تبلور مع السياسة الأمريكية بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 في سياق ما سمي “الحرب على الإرهاب”، فقُدمت الصوفية بديلاً أو حلاًّ يمكنه أن يمهد للعلمانية عبر التركيز على التدين الفردي واعتزال السياسة وتقويض العنف والتطرف، نجد هذا بوضوح في تقريرين لمؤسسة راند، وفي مؤتمرات عُقد بعضها في الولايات المتحدة الأمريكية ما بين 2003 و2008.
ولكن الجديد بعد الثورات العربية أن الثورة المضادة التي تتزعمها أبو ظبي الآن تستخدم التصوف السياسي بوصفه أداة من ضمن مجموعة أدوات أخرى مالية وسياسية وثقافية ودينية لتمكين الاستبداد وتقويض حركات الاحتجاج والمعارضة السياسية وعلى رأسها الإخوان المسلمون. وإذا كان الحديث من قبل عن علاقة بين التصوف والسياسة، فإن الحديث الآن بات عن “تصوف سياسي” بمعنى أن رموز التصوف هؤلاء يمارسون أدوارًا سياسية صريحة، بالرغم من القشرة الأخلاقية التي يُغلفون بها خطابهم كما يفعل مثلاً الشيخ عبد الله بن بيه وشيخ الأزهر وآخرون.
وقد بدا هذا الدور السياسي الناطق باسم الإمارات في بيانات حصار قطر على سبيل المثال، وفي خطاب بن بيه في الأمم المتحدة الذي مثّل فيه الإمارات حين أصر على أن يشير إلى مقر عمله، كما أعلن فيه انحيازه الواضح لسلطوية هوبز وإطلاق يد الدولة التِّنِّين، ويظهر هذا الدور أيضًا في المشاريع التي أقامتها الإمارات وتحديدًا مجلس حكماء المسلمين ومنتدى تعزيز السلم، وفي التحالفات الدينية والسياسية التي شكلتها بالمال والمصالح.
قبل الثورات كان رموز التصوف يتحالفون مع السلطة من أجل توسيع نشاطهم الديني والحصول على رضا الأنظمة، ولكن بعد الثورات تحولت رموزٌ صوفيةٌ إلى ممارسة دور سياسي وتحصيل الجاه على أرضية السياسة نفسها ووفق منطقها؛ رغم أن قيم التصوف الحقيقي تفرض الزهد بالمال والسلطة والحظوة، ولذلك اعتاد أئمة التصوف تاريخيًّا على إفراد مبحث باسم “الحرية”، ويَعنون بها التحرر من كل سلطان إلا الله؛ بما في ذلك شهوات السلطة والحظوة والاستعلاء، لأنهم أدركوا معنى العبودية الحقيقي وهو أنّ ما يَأسرك يَستعبدك!
تقلبت سياسة أبو ظبي التي هيمنت على كل الإمارات العربية المتحدة في مسارات عدة، ففي البداية سعت إلى دعم التصوف الطرقي عبر علي الجفري الذي يقيم فيها ويرأس مؤسسة طابة التي جمعت عددًا من رموز التصوف ومنهم بن بيه وعلي جمعة وذلك لمحاربة السلفية، في حين أنشأت دبي دار البحوث للدراسات الإسلامية وإحياء التراث التي اعتنت بنشر التراث المالكي للتأكيد على التمايز عن المدرسة الوهابية والمذهب الحنبلي السائد في السعودية وقطر (تم إغلاق المركز لاحقًا)، ثم استقطبت أبو ظبي محمد شحرور وأنشأت له مركز دراسات بهدف نشر أفكاره بين الشباب، ثم لم يستمر هذا المشروع وخلَفه مشروع مؤسسة مؤمنون بلا حدود الذي يقوم على معالجة الشأن الديني معالجة تتسم بطابع نقدي جذري ووفق منهج يتعامل مع الدين بوصفه ظاهرةً ثقافية، ويوجه نقده إلى مختلف أشكال التدين وخصوصًا الإسلام السياسي وأسسه الفكرية؛ رغم التنويعات التي يحرص على إبرازها أحيانًا خصوصًا وقد غلب عليه سمة “دار نشر” تستقطب المعارضين للإسلام السياسي.
تُحيل الوقائع السابقة وغيرُها إلى أن مشروع الإمارات متقلب ولا يقوم على رؤية واضحة، وفي هذا السياق جاء تعبير سفير الإمارات في الولايات المتحدة بأنه يريد دولاً علمانية في الشرق الأوسط، رغم أنه غير صادق في ذلك؛ لأن الدولة العلمانية لو قامت – بحق – فستهدد هذه الأنظمة الاستبدادية ومصالح الأفراد القائمين عليها، فلا يمكن أن تقوم العلمانية بمعزل عن الديمقراطية والليبرالية التي تركز على حقوق الأفراد وتمثيلهم والتعبير عن إرادتهم وهو ما يسير عكس سياسة الإمارات العربية. فسياسة الإمارات هي سياسة مناكفة وعداء وليست سياسة بنّاءة تملك مشروعًا متكاملاً أو متسقًا، وهذا ما يفسر هذا التقلب من جهة، ويفسر قدرتها الواسعة على الجمع بين المتنافرات والجمع بين نخب المصالح المتنوعة من الدائرين في فلك المال والسلطة والمعادين للإسلاميين عامة.
هل سيؤثر هذا الوضع على الحالة الفكرية والثقافية مستقبلاً؟
لا يمكن الحديث عن حالة ثقافية فعلية في الإمارات الدولة المضيفة والممولة لهذه المشاريع، بل عن سلطة تتوسل بالثقافة والسياسة لتحقيق أغراض ومآرب تتمركز أساسًا حول طموحات شخصية محكومة بدوافع وغرائز التسلط والقوة، وبرغبات التفرد والتميز والتحكم، وتصفية حسابات شخصية وتاريخية، وفي سبيل ذلك فإن الغاية تبرر الوسيلة. وهذه حالة عابرة هي نتيجة تأزم لدى أشخاص أولاً كما هو الحال في الأنظمة الفردية التي تصطبغ سياساتها بطبائع الأشخاص في الغضب والرضا، والحب والكره، والرغبة والنقمة، كما أن هذه الرغبات الفردية باتت عابرة لفكرة الحفاظ على السلطة الموروثة إلى توسيع مداها والاستثمار في حالة تأزم دول كبرى تَحَولت إلى دول فاشلة كحال مصر والعراق وسوريا، وهي الحالة التي تسهّل شراء المكانة والسيطرة على أدوار دول كبرى في الإقليم.
أما بخصوص الفكر الإسلامي فقد تعددت مراكزه تاريخيًّا، وفي ظل السيولة الحالية في المعرفة والانقسامات والصراعات السياسية والدينية تلاشت فكرة المرجعية الموحِّدة والجامعة، كما أنه لم يعد بالإمكان الحديث عن قضايا محل إجماع لا في الشأن الديني ولا في الشأن السياسي، ولذلك من الصعب الحديث عن ظهور مرجعية دينية غربية أو شرقية خصوصًا مع هذا الصراع المحموم للاستئثار بتمثيل المسلمين بين الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين برئاسة الشيخ يوسف القرضاوي ومجلس حكماء المسلمين الإماراتي وغيرهما من الهيئات والتشكيلات.
ولكن هناك اتجاهات مختلفة تستقطب جماعات من الناس لأهداف وغايات متعددة. وما تقوم به الإمارات هو عملية استقطاب و”استثمار” بالمال والجاه والنفوذ إما في منطقة فراغ أو في منطقة اضطراب، فهي لا تملك المؤهلات التي تجعلها قادرة على خلق توجه أو قيادة مشروع فكري أو ثقافي أو ديني، أقصى ما يمكنها فعله أو ما تقوم به بالفعل هو دعم توجهات بعينها والتشبيك بين جماعات وشخصيات؛ لأداء مهام ووظائف محددة تستثمرها سياسيًّا، ولكنْ هناك فاعلون آخرون بالمقابل، وهناك قوى معارضة لهذا، والجماعات التي تدور في فلك السياسة الإماراتية لا تحظى بالمصداقية كما لا تحظى بالمرجعية؛ لأنها تجمع بين شخصيات “رسمية” وبين جماعات مصالح ومنافع تحركها سياسة بعينها، والمصالح والسياسات متقلبة بطبيعتها في ظل ظل خطاب ثقافي وديني غير متماسك وشديد التناقض سواءٌ بالقياس إلى قيم الإسلام والمزاج العام أم بالقياس إلى الثقافة الحديثة وقيمها المركزية كالعلمانية والديمقراطية والمدنية.