مقالاتمقالات مختارة

هل الديمقراطية من الإسلام؟

هل الديمقراطية من الإسلام؟

العلامة محمد الحسن الددو الشنقيطي

ورد على فضيلة العلامة محمد الحسن الددو الشنقيطي سؤال على هامش محاضرة ألقاها بتونس الخضراء بعد تحررها من الاستبداد.

سؤال هل الديمقراطية من الإسلام؟

وقد أجاد وأفاد فضيلته في الجواب تأصيلا وتفصيلا مجملا يسمح به الوقت، فكانت إجابة مفصلة ارتأينا أن ننقلها لكم لما فيها من الدرر أولا، ولما ستثيره من تساؤلات وإشكالات من قبل فريقين اثنين أولهما منكرو الديمقراطية جملة وتفصيلا بحجج شرعية تصل أحيانا إلى تكفير المسلمين، وثانيهما متهمو الإسلام بمعاداة الحرية والاستبداد، من العلمانيين والحداثيين.

وإليكم جواب فضيلته على هذا السؤال بتصرف بسيط:

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وبعد، بالنسبة للديمقراطية لفظ في الأصل يعبر عن إيديولوجيا ليست من الإسلام في شيء، إيديولوجيا فيها إحالة الحكم إلى آراء الناس فقط. لكنه يطلق أيضا إطلاقا آخر على غير هذا فهو وسيلتها وآلة تطبيقها.

فالإسلام أسلوب الحكم فيه هو الشورى لقول الله تعالى “وأمرهم شورى بينهم” وقوله جل شأنه “وشاورهم في الأمر” وليس فيه استبداد ولا إكراه ولا أذى لأحد.

وهذه الشورى لم يحدد الله آلة تطبيقها في كتابه ولم يحددها رسوله صلى الله عليه وسلم، ووسيلة تطبيقها اجتهادية، وقد اجتهد الصحابة رضوان الله عليهم في تطبيقها فنجحوا لكن ظروفهم ووسائلهم ليست لدينا، لأنه لما توفى الله رسوله صلى الله عليه وسلم لم يعهد من أمره إلى أحد، ليس له وصية لعلي ولا لأبي بكر ولا لأحد.. فالصحابة رضوان الله عليهم وفقهم لبيعة أبي بكر الصديق الذي رشح عند موته عمر بن الخطاب للناس فبايعوه واتفقوا عليه، وعمر رشح ستة توفي رسول الله وهو عنهم راض، فتنازل ثلاثة لثلاثة وواحد لاثنين بشرط أن يختار السابق منهما، فشاور الناس ولم يكن لديه دفاتر إحصاء ولا وسائل الاتصالات، ولكنه مكث ثلاث ليال لم ينم فكان يستشير أهل المدينة ومن حولها من الأجناد، فرأى أن جمهور الناس لم يعدلوا بعثمان، وكان الناس إذ ذاك فيهم طائفة قليلة زكاها الله في كتابه وأحل عليها رضوانه الأكبر الذي لا سخط بعده، وهم الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة بيعة الرضوان، والذين شهدوا بدرا، والذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتعيين بالجنة، لكن نحن اليوم ليس لدينا شيء من هذه الوسائل، ليس لدينا طائفة محصورة نشهد أن الله قد أحل عليها رضوانه الذي لا سخط بعده وأنها من أهل الجنة، ليس لدينا شخص واحد من أهل بدر ولا شخص واحد من أهل بيعة الرضوان، وليس لدينا واحد من  العشرة المبشرين بالجنة، ليس لدينا شخص مثل عبد الرحمن بن عوف الذي ترضى به الأمة جميعا حكما لأنه شهد له  رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتعيين بالجنة وشهد له بأنه من العشرة المبشرين بالجنة وشهد له أنه من أهل بدر وهم في الجنة، وشهد له بأنه من أهل بيعة الرضوان وهم في الجنة وقال: “ما كان لنبي أن يموت حتى يصلي خلف رجل صالح من أمتي فكان عبد الرحمن بن عوف“، ليس لدينا هذه الوسيلة.

فإذن ما وسيلتنا الآن لتحقيق الشورى؟

ليس لدينا غضاضة من أن نستورد أي وسيلة لم يرد النهي عنها فالوسائل تعرض على الشرع فإذا أذن الشرع فيها فلا جرم وإذا سكت عنها كذلك وإذا نهى عنها تركت، سواء كانت من حضارة العرب معروفة لديهم أو كانت مستوردة من حضارات أخرى فالنبي صلى الله عليه وسلم استورد من حضارة فارس فكرة الخندق وفكرة المنبر من حضارة الحبشة وفكرة الخاتم من حضارة الروم، فلذلك ليست لدينا غضاضة من أن نستورد من حضارات الأمم الأخرى، فصناعة الكهرباء من حضارة الغرب، فمنتجها الأول شاب إيطالي فاشل في الدراسة، وكذلك الصناعات مثل صناعة السيارات والطائرات وباقي التكنولوجيات من حضارة الغرب الذي سبقنا إلى التداول السلمي على السلطة ورقابة الحاكم واختيار الممثلين عن الشعب في التصرف في الملك العام على أسلوب مدني حضاري لم يرد فيه أي نهي شرعي ولا يصادم أي حكم شرعي، فليس لدينا أية غضاضة في استيراده. إذا سميته ديمقراطية فلا حرج لأنه لا مشاحة في الاصطلاح وإذا سميته شورى فلا حرج فهذا الاسم الشرعي في الأصل، لكن لا بد أن ندرك أنه على مقامين ومستويين:

المستوى الأول: ما يتعلق بالنيابة عن الناس في التصرف في أملاكهم

فالله تعالى ملكنا ما في الأرض فقال “هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ استوى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ” فمن ذلك أملاك فردية يملكها كل إنسان منا وأملاك جماعية مشتركة بيننا. فالأملاك الفردية ليس للمسلم أن يتصرف في ملك الكافر ولا أن يجبره على التصرف على ما يريده بماله، وليس للملتزم أن يتصرف في مال الفاسق ولا أن يجبره على التصرف على ما يريده بماله، ولا للبر أن يتدخل ويتصرف في مال الفاجر، كل يتصرف في ملكه حسب إرادته، والمال العام مشترك بيننا جميعا، مشترك بين المسلم والكافر والبر والفاجر، فلا تحل مصادرة مال أحد من طرف أحد آخر. فلا يمكن أن يجتمع سكان بلد ما كلهم ليتفقوا على كيفية التصرف في المال العام، فكيف نصنع؟ لا بد أن نختار من يمثلنا في ذلك فيكون وكيلا عنا، وهذا الذي نختاره ليس بالضرورة أن يكون مسلما أو عدلا أو رجلا بل هو وكيل والوكيل يجوز أن يكون كافرا أو فاسقا أو صبيا حسب العمل الذي وكل عليه، فلذلك نختار من نوكله على التصرف في المال العام، وهؤلاء هم الذين يسمون في الشرع بالعرفاء، قال صلى الله عليه وسلم “لا يستقيم الناس إلا بعرفاء والعرافة حق”، وفي صحيح البخاري أن رسول صلى الله عليه وسلم من لما رجع سرية أوطاس أخّر الحسبة في غنائم هوازن حتى جاؤوه فخيرهم بين السبي والغنائم فاختاروا السبي فقال “ما كان لي ولبني هاشم فهو لكم وما كان للناس فذروني حتى أسألهم” فسأل الناس وعرض عليهم أن يردوا إلى إخوانهم السبي فمن صفا صفت نفسه بذلك ورضي به ومن لم يرض فإن  رسول الله صلى الله عليه وسلم سيقضيه… فكثر عليه اللغط ولم يعرف من رضي منهم ومن لم يرض فقال “أخرجوا إلي عرفاءكم” فعرفاء الناس هم الذي يعرفون من تنازل من الناس عن حقهم ومن لم يتنازل. والنواب عن الناس ليس لديهم الحق في تحريم الحلال ولا تحليل الحرام، إنما لهم الحق في موافقة الشعب على الصفقات أو العقوبات أو تحديد الرواتب أو على رقابة عمل الحكومة أو في الأنظمة الدنيوية التي يتعامل بها الناس، ولذلك يمكن أن تسمى هذه السلطة تشريعية لكن ليس معنى هذا تغيير شرع الله، هذا التشريع مختص بالله جل جلاله “أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ ۚ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ۗ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ” وقال عز من قائل “قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ ۖ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ” فالذي يحل ويحرم هو الله جل جلاله، لكن لهم الحق أن يحددوا العقوبات وسقف الرواتب والتوقيع على الاتفاقيات وتحديد الصلاحيات واختيار من يحكم ومراقبة سلوكه وحكمه.

المستوى الثاني فهو الحاكم فلا بد أن يختاره الناس،

يختارون الأصلح والأرشد، فإذا وجد حاكم صالح رشيد كاف قائم بالحق لم يعدلوا عنه وإذا لم يوجد من يجمع بين الأمرين كان لا بد من المناورة قال سيدنا عمر رضي الله عنه “اللهم إني أشكو إليك جَلَدَ الفاجر وعجز الثقة”، فكثير من الصالحين لديهم عجز في السياسة لا يتفنونها ولا يحسوننها ، وكثير من الساسة الماهرين المحنكين لديهم نقص في الالتزام، وقل من يجمعهما، فلذلك يختار الناس من يحكمهم من غير إكراه، ويحددون له مدة، لأنه الذي يختاره أهل مصر حاكما لهم، ليس خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هو وال على هذا المصر فقط، ولمدة محددة، على عقد محدد بينه وبين الشعب، فهو أجير لدى الشعب لمدة محددة، فإن خالف هذا العقد فقد نقض ذلك، وليس له بيعة بالمعنى الشرعي أي حق لله تعالى أخذه على عباده مقابل الجنة قال تعالى ” إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنْجِيلِ وَٱلْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ ٱللَّهِ فَٱسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ٱلَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ” وقال تعالى “إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ۚ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا” لكن ولاة الأمصار لهم السمع والطاعة في المعروف، وينصح لهم ويدعا لهم بالخير ويسددون وينصحون، لكن إذا تعدى أحدهم صلاحيته فلا سمع ولا طاعة له في ذلك، كما إذا انتهت مدته المحددة فلا سمع ولا طاعة، ووصية أمير المؤمنين سيدنا عمر رضي الله عنه “لا يبقى وال على مصر من الأمصار أكثر من أربع سنين إن كان عدلاً ملّه الناس، وإن كان جائراً كفاهم من جوره أربع سنين” وقد أخرج أحمد بن حنبل رحمه الله عن عامر الشعبي رضي الله عنه، أن سيدنا عمر بن الخطاب كتب في وصيته “ألا تبقوا لي وال على مصر أكثر من سنة واحدة، وأمهلوا الأشعري أربع سنين” فمدد للأشعري فقط دون باقي ولاته، فالوالي الكبير” أي رئيس الدولة” إذا تغير لا بد أن يتغير من دونه، لكي لا نجمد على أسلوب واحد مكرر يجتره الناس، فهذه مصالح شرعية لابد أن تراعى، والذي يستنكر كل هذا ويقول هذا هو الديمقراطية وهذا هو عمل الكفار، قلنا له نعم هذا هو الشورى التي أمرنا الله بها، وليس لنا من وسيلة لتحقيقها غير هذا، ولا يمكن حين ذاك لأحد أن ينكر الشورى فقد ثبتت بالقرآن الكريم والسنة النبوية، وذكر لها سيدنا علي كرم الله وجهه عشر فوائد.

المصدر: موقع منار الإسلام

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى