هل احتج آدم عليه السلام على الذنب بالقدر؟
بقلم د. علي الصلابي
إن كل شيء في هذه الحياة هو بقدر الله تعالى وقضائه، وإنه ليس لأحد أن يعير أحداً بذنب كان منه؛ لأن الخلق كلهم تحت العبودية سواء، وإنما يتجه اللوم من قبل الله سبحانه وتعالى إذ كان قد نهاه فباشر ما نهاه عنه، وللإجابة عن سؤالنا (هل احتج آدم عليه السلام على الذنب بالقدر؟)، نقول إن سيدنا آدم -عليه السلام- لم يحتج بالقدر على الذنب وإنما احتج به على المصيبة، وهذا هو اعتقاد أهل السنة، فإن القدر يحتج به في المصائب ولا يحتج به في الذنوب والمعايب. ونذكر حديث احتجاج آدم وموسى -عليهما الصلاة والسلام- الذي يعدُّ من أشهر الأدلة التي يستدل بها المحتجون بالقدر على توسيع تفريطهم وعصيانهم، وهو ما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: “احتج آدم وموسى فقال له موسى: يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة. فقال له آدم: يا موسى اصطفاك الله بكلامه، وخط لك بيده، أتلومني على أمر قدره الله عليّ قبل أن يخلقني بأربعين سنة، فجح آدم موسى ثلاثاً؟
لقد تسرع بعض الناس فأنكروا هذا الحديث حين ظنوه سنداً للاحتجاج على الذنوب بالقدر، وتمحل آخرون تأويلات غير مقبولة، واتخذه آخرون تكأة يتوكؤون عليها، ويستندون إليها إذا وقعوا في الذنوب والآثام والديث لا مطعن في صحته، فقد رواه الشيخان عن حديث أبي هريرة وروي في السنن بإسناد جيد من حديث عمر رضي الله عنه والحديث يشير إلى أمور في غاية الوضوح منها:
– أن الحديث ليس فيه أن موسى لام آدم على المعصية، وإنما فيه أنه قاله: “يا آدم أنت أبونا، خيبتنا وأخرجتنا من الجنة”، وظاهر هذا القول أنه لامه على الإخراج من الجنة لا على الأكل من الشجرة، فيكون اللوم على المصيبة التي حصلت بسبب المعصية، لا المعصية نفسها، والمؤمن مأمور على نزول المصائب أن يرجع إلى القدر ويحتمي به، فإن سعادة العبد أن يفعل المأمور ويترك المحظور، ويسلم للمقدور، ولهذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقول عند حلول ما نكره: قدر الله وما شاء فعل.
– أن موسى عليه السلام أعرف بالله سبحانه وبأمره ودينه من أن يلوم على ذنب قد أخبره الله أنه تاب على صاحبه، واجتباه بعده وهداه “ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى” (طه : 122)، وموسى عليه السلام ومن هو دون موسى منزلة يعلم أنه بعد التوبة والمغفرة، لا يبقى وجه الملامة على الذنب، فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له، وآدم أعلم بالله جل شأنه من أن يحتج بالقدر على الذنب، كيف وقد اعترف به واستغفر منه بقوله: “رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ” (الأعراف : 23).
– إن الاحتجاج بالقدر على المصائب جائز، وكذلك الاحتجاج بالقدر على المعصية بعد التوبة منها جائز، وأما الاحتجاج بالقدر على المعصية تبريراً لموقف الإنسان واستمراراً فيها فغير جائز.
– من مسائل القدر في هذا الحديث، سبق الكتاب، أي كتابة كل شئ قبل وجوده، وفيه مقارنة بين حجة آدم وحجة موسى عليهما السلام، ثم تعقيب الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: “فجحّ آدم موسى، ويكررها ثلاثاً”، ولا يقول الرسول الكريم أن كلام موسى خطأ، بل يلفت النظر إلى شمول و حجة آدم عليه السلام.
إن الاحتجاج بالقدر في فعل المعاصي حجة داحضة وباطلة باتفاق كل ذي عقل ودين من جميع العالمين، ويوضح هذا أن الواحد من هؤلاء إما أن يرى القدر حجة للعبد، وإما أن لا يراه حجة للعبد، فإن كان القدر حجة للعبد فهو حجة لجميع الناس؛ فإنهم كلهم مشتركون في القدر، وإن الله سبحانه خلق الإنسان وهو متمكن من الإيمان قادر عليه؛ وكما هو معلوم فإن القدرة التي هي شرط في الأمر تكون موجودة قبل الفعل لكل مكلف؛ ومن ثم فالإنسان قادر متمكن، وقد خلق الله فيه القدرة على الإيمان، وعليه الإيمان بالقدر، ولذلك نجد حكمة من وجود المعاصي والكفر، وهي في النقاط التالية:
1- إتمام كلمة الله تعالى حيث وعد النار أن يملأها قال الله تعالى: “وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ”(هود : 118 ـ 119).
2- ظهور حكمة الله تعالى وقدرته حيث قسم العباد إلى قسمين طائع وعاصي، فإن هذا التقسيم يتبين به حكمة الله عز وجل فإن الطاعة لها أهل هم أهلها، والمعصية لها أهل هم أهلها قال تعالى: “اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ“ (الأنعام : 124) . وقال تعالى: “وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ” (محمد : 17) فهؤلاء أهل الطاعة. وقال تعالى: “وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ” (التوبة : 125). وقال تعالى: “فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ” (الصف : 5)، وهؤلاء أهل المعصية، ويتبين بذلك قدرته بهذا التقسيم الذي لا يقدر عليه إلا الله كما قال تعالى: “لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء” (البقرة : 2729). وقال تعالى “إِنَّكَ لَاتَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ” (القصص: 26).
3- لجوء العبد إلى ربه بالدعاء أن يباعد بينه وبين المعصية والدعاء عبادة لله تعالى.
4- ومنها أن العبد إذا وقع في المعصية ومنَّ الله عليه بالتوبة إزداد إنابة إلى الله وانكسر قلبه وربما يكون بعد التوبة أكمل حالاً منه قبل المعصية حيث يزول عنه الغرور والعجب ويعرف شدة افتقاره إلى ربه.
5- ومنها أن يتبين للمطيع قدر نعمة الله عليه بالطاعة إذا رأى حال أهل المعصية قال تعالى: “لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ” (آل عمران : 164).
6- ومنها إقامة الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه لولا المعاصي والكفر لم يكن جهاد ولا أمر بمعروف ولا نهي عن منكر إلى غير ذلك من الحكم والمصالح الكثيرة ولله في خلقه شؤون.
————————————————————————————————————————————
مراجع:
- البخاري، صحيح البخاري، دار ابن كثير، دمشق بيروت، الطبعة الأولى، 1423 – 2002، ك القدر، 7/ 214.
- علي محمد الصّلابيّ، الإيمان بالقدر، دار ابن كثير، بيروت، ص. 92 -97.
- محمد فتح الله كولن، القدر في ضوء الكتاب والسنة، دار النيل للطباعة والنشر، 2006م، ص 48.
- محمد كندو، منهج الحافظ ابن حجر العسقلاني في العقيدة، مكتبة الرشد، الرياض، (1/ 425).
- مسلم، صحيح مسلم، تحقيق محمَّد فؤاد عبد الباقي، دار إِحياء التراث العربي، بيروت ـ لبنان، الطَّبعة الثانية 1972م، ك القدر رقم (13)، رقم (2664).
- يوسف القرضاوي، الإيمان بالقدر، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1 2000، ص. ص 66 -67.
(المصدر: مدونات الجزيرة)