مقالاتمقالات مختارة

هل آيا صوفيا وقف شخصيّ أم سلطانيّ؟

هل آيا صوفيا وقف شخصيّ أم سلطانيّ؟

بقلم معتز الخطيب

في سياق قرار تركيا إعادة متحف “آيا صوفيا” مسجدًا، تم تداول نص الترجمة العربية لحجة وقف السلطان محمد الفاتح، وهي نسخة خطية قديمة مكونة من 168 صفحة مرقمة، وقد أُرفِق بها بعض الصور، وكان الرئيس أردوغان قد استند في تسويغ القرار إلى هذه الوقفية، وهو ما عُدَّ الوجهَ القانوني والفقهي للقرار الذي كان له أبعاد أخرى متعددة سياسية وتاريخية وثقافية ودينية.

حاججتُ في مقالي السابق لإثبات أن القرار ليس مجرد حدث سياسيّ عابر؛ لكن هذا لم يَعنِ استبعاد الوجه السياسي كليةً من المشهد، فإن التوقيت يحمل -دومًا- دلالات سياسية تحيل إلى حسابات السلطة الحاكمة لموازين المصالح الناجمة عن قرار محدد في لحظة محددة، فالفكرة ليست وليدةَ السياسة لكنّ تحويلها من فكرة إلى قرار يحتاج إلى اختيار التوقيت المناسب (وهذا يتصل بالتقدير السياسي)؛ فأيُّ قرار يحتاج إلى تسويغات داخلية وخارجية، ونظرًا لتعقيدات آيا صوفيا من الجهة القانونية فقد كان ثمة حاجة إلى تقديم مسوغات قانونية لإعادة المتحف إلى مسجد، ولنقض قرار تحويله إلى متحف، وقد نُفِّذت هذه الإجراءات في نطاق الإمبراطورية العثمانية أولًا ثم في نطاق الدولة التركية ثانيًا.

تقوم فكرة هذا المقال على أن الانشغال بالجانب السياسي يجب ألا يحجب عنا الوجه المركب من الفقهي والقانوني، وأن النظر في بعض الحجج القانونية والفقهية المستخدمة لتسويغ القرار الحالي هي ذات بُعد سياسي، ومن ثم فقد افتقرت إلى الدقة العلمية.

تتمثل الحجة القانونية والفقهية في ثلاثة أمور: أولها: أن “آيا صوفيا” ملكية شخصية للسلطان محمد الفاتح، وأنه جعلها وَقْفًا وسجل “سند ملكيتها للوقف الذي أنشأه بنفسه”، يربط أردوغان بين الوقف والمِلْك هنا، ويخلص إلى الاستنتاج الآتي: “إن لم تكن آيا صوفيا ملكًا له -أي السلطان- فلن يستطيع وقفها بشكل قانوني”، ومن ثم فهي ليست ملكًا للدولة أو لأي مؤسسة أخرى.

السلطان الفاتح كان يحمل صفتين: صفة شخصية وصفة سلطانية، فكيف نحدد الفارق بينهما وأثر كل منهما على الأوقاف التي رصدها هنا؟ وهل وقفها بصفته شخصًا أم بصفته إمامًا للمسلمين في حينه؟

ثانيها: أنه إذا ثبتت الملكية والوقف فلا يجوز تغييرها ولا تبديلها؛ لأن المسألة ستكون مرهونة بإرادة الواقف، ويستشهد أردوغان في خطابه بأن الفاتح توعّد في وقفيته “من يحاول تعديل أو تغيير صرحي ومؤسستي آيا صوفيا التي حولت إلى مسجد” بالإثم الكبير واللعنة إلى يوم الدين، وقال: إن تاريخ هذه الوقفية يرجع إلى سنة 1453م.

ثالثها: أن الفاتح عندما فتح إسطنبول حصل أيضًا على لقب الإمبراطور الروماني، وبالتالي حصل على جميع الأملاك المسجلة للأسرة البيزنطية؛ أي: إن الملكية إنما حصلت له من جهة الاستيلاء بوصفه سلطانًا حل محل الإمبراطور البيزنطي، ومن ثم فقد استولى على ممتلكاته.

هذه الحجة يكتنفها إشكالات، فقد حاول الرئيس أردوغان أن يُخرج المسألة من إطار “الدولة” إلى إطار “شخص” السلطان الفاتح، بأن يجعل الوقف وقفًا لمِلْك شخصيّ، وذلك لإبطال صحة قرار حكومة أتاتورك بتحويلها إلى متحف؛ لكن الواقع أن وقفية الفاتح ليست خاصة بآيا صوفيا وحدها فقط، كما سأبين قريبًا، والسلطان الفاتح كان يحمل صفتين: صفة شخصية وصفة سلطانية، فكيف نحدد الفارق بينهما وأثر كل منهما على الأوقاف التي رصدها هنا؟ وهل وقفها بصفته شخصًا أم بصفته إمامًا للمسلمين في حينه؟

ويتمثل الإشكال الثاني في تحويل السلطان الفاتح إلى وريث للإمبراطور البيزنطي وأملاكه بصفته حلّ محله، وهذا يتنافى مع فكرة الوقف الشخصي السابقة؛ لأن هذه الوراثة المفتَرضة ستقع بصفته لا بشخصه، كما أن هذا لا يستقيم مع الفقه الإسلامي وتشريعاته المتعلقة بالتصرف في الأراضي المفتوحة صلحًا وعنوة ولكل نوع أحكامه الخاصة، وقد كان برفقة السلطان فقهاء كبار كما سيأتي.

ومن اللافت أن مولود جاويش أوغلو وزير الخارجية التركي صرح في هذا السياق بما يخالف كلام أردوغان إذ قال: إن آيا صوفيا أصبحت ملكًا للدولة العثمانية بموجب الفتح وفرض السيادة عام 1453م؛ أي: إنه أثبت الملكية للدولة لا لشخص الفاتح، لكن يبقى مفهوم الدولة هنا غامض أيضًا؛ لأنه لم يكن موجودًا في ذلك الوقت، ولا بد أن نحدد هنا صاحب الملكية فيما سمي الدولة: هل هم المسلمون والسلطان وكيلٌ عنهم وممثل لهم؟ أم شخص السلطان؟ فإن حددناها بالمسلمين انتقلنا من النقاش حول الوقف إلى النقاش حول وقف الحاكم في الفقه الإسلامي الذي يجيزه عامة الفقهاء، لكنهم يختلفون في كيفية تعليله؛ لأن السلطان لا يملك حقيقةً ما يقِفه في هذه الحالة، ومن ثم سمي (إرصادًا)، وقال بعض المالكية: إن الوقف يصح بصفته وكيلًا عن المسلمين.

وقد شاع بين المتحمسين للقرار أن السلطان الفاتح اشترى آيا صوفيا بماله الخاص، وهي إحدى الأفكار المغلوطة التي بُنيت على تصور “الوقف الشخصي” السابق، وهذا كلام لم يَرد له ذكر قبل صدور هذا القرار، وهو غير صحيح؛ فليس ثمة دليلٌ يؤيده لا في المصادر التاريخية ولا في الوثائق المقدّمة اليوم (قُدِّم صورة طابو صادر في عهد أتاتورك فقط)؛ بل إن الكلام السابق لأردوغان حول انتقال الملكية من الأسرة البيزنطية إلى الفاتح بصفته حل محله ينفي فكرة الشراء من أساسها.

فضلاً عن ذلك، فإن الناظر في أسباب ملكية الأراضي المفتوحة عنوةً التي سادت في العالم القديم، وسطرها الفقهاء في كتبهم، لا يجد ثمة حاجة إلى اختراع واقعة الشراء، فقد اختلف الفقهاء حول كيفية تقسيم الأراضي المفتوحة حربًا، وكيفية انتقال ملكيتها، وإلى من تنتقل، وفي الجملة ثمة رأي ينزع ملكيتها عن أهلها بمجرد فتح المسلمين لها (المالكية)، وثمة رأي يَكِل الأمر إلى اختيار السلطان نفسه: إما أن يمنّ عليهم بإبقاء أملاكهم أو ينزعها عنهم (الحنفية)، وإذا انتفت المِلْكية فلا يوجد أساس للبيع هنا، ومن ثم ذهب الإمام مالك -مثلًا- إلى منع بيع وشراء الأراضي والمباني المفتوحة عنوة؛ لأنها صارت وقفًا للمسلمين بمجرد الفتح.

يرتبط الإشكال الثالث في كلام الرئيس أردوغان في أنه أَفهمَ أن الوقفية خاصة بآيا صوفيا تحديدًا، وأن تاريخها يرجع إلى سنة الفتح؛ لكن إذا عدنا إلى النسخة الخطية العربية المتداولة سنجد غياب الصفحة الأخيرة التي تبين التاريخ، ويتضح من قراءة النص أن الوقفية متأخرة عن التاريخ المعلن؛ لسبب بسيط وهو أن التفاصيل الدقيقة التي تقدمها تحدد أماكن الأوقاف، وفيها نجد تارة المنزل الفلاني بجانب ملك فلان النصراني، وأخرى بجانب ملك فلان اليهودي، وثالثة بجانب ملك فلان الأرمني، ورابعة بجانب ملك العالم الفاضل فلان؛ أي: إن نص الوقف الذي بين أيدينا إنما حصل بعد مدة من الفتح، وبعد استقرار الأملاك فيها، وليس عند الفتح كما أشار أردوغان.

من اللافت أيضًا أن وقفية الفاتح في نسختها العربية ليست خاصة بآيا صوفيا وحدها (وإن بدأت بها وسمّتها: “الكنيسة النفيسة”)، فهي تجمع أوقافًا هائلة ومتنوعة تتضمن كنائس ومساجد ومدارس وأسواقًا ومحالّ ومنازل ومراتع ومزارع ومطاحن ومستشفى (دار الشفاء) وغيرها، وهي مفصلة تفصيلًا لجهة مواقعها وأوصافها، ولجهة من يُعَيَّن لها وصفاتهم، والأجور التي تُخصص لها، ومصارف ريعها، ومن يقوم عليها في حياة الفاتح وبعد وفاته، ومن يقوم عليها إن انقطعت ذريته وتَغَلَّب عليها بعض الحكام، وغير ذلك من التفاصيل الدقيقة.

بالنظر إلى هذا الحجم الهائل من وقفيات السلطان الفاتح، فإننا نستبعد جدًّا أن يكون قد تَملّكه بشكل شخصي أو بماله الخاص أو نحو ذلك من القصص المستحدثة، والظاهر أنه تملكه بصفته لا بشخصه.

فآيا صوفيا ليست هي الموضوع بل الأوقاف الشاسعة هي موضوع الوقفية وآيا صوفيا مفردة من مفرداتها، فلعل أردوغان يحيل إلى وقف آخر خاص بآيا صوفيا مستقلة، رغم أن النسخة العربية المتداولة كُتب في أعلاها بخط حديث: “وقفية السلطان محمد الفاتح لآية صوفيا”، وجرى تداولها على هذا الأساس، كما أن خاتمة نص الوقفية العربي هي هي نفسها التي تتضمن الوعيد على تغيير كل بنود الأوقاف الشاسعة التي صرّح بها أردوغان لا “آيا صوفيا” فقط، ومن ثم فإن كان هناك حرص على استعادة الوقف فيجب أن يشمل كل ما هو منصوص في هذه الوقفية، ويغطي عقارات وأسواقًا لا أعلم شخصيًّا عنها شيئًا، وربما تكون موقوفة بالفعل.

ولعل وقفية الفاتح أشهر وأكبر وقفيات السلاطين العثمانيين، فقد بلغت نحو 1828 وقفية، منها 1345 عقارًا من الأراضي والمباني، فضلًا عن أوقاف أخرى تشمل مؤسسات ومنشآت تعليمية وطبية وثقافية واجتماعية، وفي نص الوقفية الجامع هذا ما يبلغ رقمًا كبيرًا لم أُحصه، ويوضح “كشاف أدبيات الأوقاف في الجمهورية التركية” أن وقفيات الفاتح وُثّقت في حجة جامعة تقع في 370 صفحة باللغة العثمانية، وأظن أن النسخة العربية التي بين أيدينا هي ترجمة لتلك الحجة الجامعة. ويبدأ تاريخ هذه الوقفية من 867 للهجرة؛ أي: ما يوافق (1462/1463)، وينتهي بتاريخ 875 للهجرة؛ أي: ما يوافق (1470)، وهذا يعني أن كتابة وقف آيا صوفيا قد وقعت في هذه المدة، وليس قبل 1462م، أي بعد نحو تسع سنين من الفتح.

بالنظر إلى هذا الحجم الهائل من وقفيات السلطان الفاتح، فإننا نستبعد جدًّا أن يكون قد تَملّكه بشكل شخصي أو بماله الخاص أو نحو ذلك من القصص المستحدثة، والظاهر أنه تملكه بصفته لا بشخصه.

يتكرر في نص الوقفية الجامعة ثلاث أو أربع مرات عبارة “وقفًا صحيحًا شرعيًّا صريحًا دينيًّا جازمًا حاويًا لجميع المصححات، خاليًا عن النواقض والمُخِلات”، وفي مرة يقول: “مرعيًّا فيه ما اعتبره الأئمة المجتهدون رضوان الله عليهم أجمعين، مخلدًا مؤبدًا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها”، وأنه قد “حكم القاضي على صحة ذلك الوقف ولزومه بعد رعاية ما يجب في الشرع الشريف والدين الحنيف”، وأنه وقع أيضًا بشهادة العدول، وأنه “لا يباع ولا يوهب ولا يرهن ولا يُتلف بوجه من الوجوه… ولا يُغير ولا يُتصرف فيه… إلا تغييرًا يتضمن مصلحة جلية ترجع إلى الوقف”، وكل هذه الأوقاف إنما وقعت “حسبة لله وطلبًا للفوز بالنعيم المقيم”.

من يقرأ هذه العبارات لا يشك في مدى التزام السلطان الفاتح بالفقه الإسلامي؛ بل إن هذه الصيغة التي تتكرر تجري على مذهب الحنفية الذين لا يرون الوقف مُلْزِمًا إلا في حالتين: إذا حكم به الحاكم، أو كان الوقف مسجدًا، وهذا يفسر ذلك الإلحاح على صفة الإلزام والجزم والصحة ومطابقة الشروط، وأنه حكم الحاكم به وشهد عليه الشهود.

في نص وقفية الفاتح تحذير من تصرف المتغلبة الذين قد يأتون فيما بعد فيغيرون هذا الوقف، والتأكيد الشديد على عدم تبديل هذا الوقف ولا تغييره إلا لمصلحة ظاهرة تعود على الوقف نفسه

أشرتُ قبلُ إلى أن الراجح أن هذا الوقف جرى بصفته وقفًا سلطانيًّا لا شخصيًّا؛ إذا لا يمكن أن تكون كل هذه الأملاك حصة السلطان من الغنائم (آثار الفتح)، والظاهر أنه جرى تنظيم الغنائم بعد فتح القسطنطينية، فقد أعلن السلطان بعد بضعة أيام من الفتح أن “كل المباني يجب أن تصان لتكون غنيمة ينظمها السلطان”، وهو ما يتوافق مع المذهب الحنفي الذي يرى –على خلاف غيره– أن السلطان له سلطة الاختيار في الأراضي المفتوحة عنوة: فإما أن يقسمها بين الغانمين، وفي هذه الحالة تكون مِلكًا لهم، أو أن يُقر أهلها عليها وفي هذه الحالة تبقى الأراضي مِلكًا لأهلها؛ لكن يدفعون الجزية عن أنفسهم، والخراج عن أراضيهم الزراعية، ما يعني أن الغانمين لا يثبت لهم حق بمجرد الفتح عنوة، فللإمام إسقاط حقهم عن رقبة الأرض بتعبير الإمام الطحاوي الحنفي (ت 370). ويكرر المعنى نفسه الشيخ ملا خسرو (ت 885) الفقيه الحنفي الذي كان إلى جانب المفسر والعالم الشافعي الشيخ أحمد الكوراني (ت 893) وعلماء آخرين اصطحبهم السلطان محمد الفاتح أثناء فتح القسطنطينية، وكان الفاتح معجبًا جدًّا بملا خسرو الذي صار شيخ الإسلامي ما بين 1460-1480.

سواء وقع الوقف بعد الفتح مباشرة “من الغنائم” أم بعده “من بيت المال” فمذهب الحنفية أنه يجوز أن يوقف السلطان بعض الغنيمة وأن تُصرف غَلتها في مصالح المسلمين، ومذهبهم أيضًا أن السلطان لو اقتطع شيئًا من بيت مال المسلمين (الخزينة العامة) ووقفه لمصلحة عامة (كالمسجد والفقراء) فإنه يجوز؛ لأن بيت المال هو لمصالح المسلمين، فإذا أبّده على مصرفه الشرعي يُثاب على ذلك، ولا سيما إذا كان يخاف عليه أمراء الجور الذين قد يصرفونه في غير مصرفه الشرعي كما أفاد الفقيه الحنفي ابن عابدين الذي نص في موضع آخر على أنه لا يجوز تغيير شروط الوقف حتى لو كان إرصادًا (تخصيصًا من بيت المال من قبل السلطان)، فيكون بهذا قد منع مَن يجيء منهم بعده فيسيء استخدام المال الموقوف.

نجد في نص وقفية الفاتح التحذير من تصرف المتغلبة الذين قد يأتون فيما بعد فيغيرون هذا الوقف، والتأكيد الشديد على عدم تبديل هذا الوقف ولا تغييره إلا لمصلحة ظاهرة تعود على الوقف نفسه الذي إنما وُضع للمصلحة العامة؛ بحسب كل نوع من العقارات الموقوفة كما توضحه الوقفية، وكل هذا يجري على أنه تصرفٌ بالإمامة (أي مسائل مصلحية)، ما يعني أن الوقفية كانت بصفة الفاتح لا بشخصه.

(المصدر: الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى