هلك المطبِّعُون “لا يهرول إلى التطبيع إلا كل وضيع” (1-2)
بقلم محمد عبد الرحمن صادق
إن كلمة “تطبيع” يُفهم من معناها (رأب الصدع، وترقيع الخِرق، ونبذ الخلاف، ونسيان أسباب القطيعة، وتجاهل عوامل الفرقة، وعودة العلاقات لطبيعتها وكأن شيئاً لم يكن، أو وكأن لم يكن هناك خلاف أو قطيعة من الأساس).
حقيقة إن هذا المفهوم إن جاز أو صح في أمور (اجتماعية كانت أو سياسية) فإن هناك أمور أخرى لا يجوز ولا يصح شرعاً ولا عُرفاً أن يكون فيها أي نوع من أنواع التطبيع ولا درجة من درجاته خاصة إذا كان من بين أسباب القطيعة أمراً عقائدياً لا يُبيحه الشرع، أو أمراً تاريخياً يستعصي على المحو والنسيان، أو أمراً إنسانياً لا تُجيزه الفطرة السليمة.
بين يدي الموضوع
دعونا نقر أن التطبيع مع الظالم ظلم، لأنه إقرار له على ظلمه، ورضا بصنيعه وبما اقترفت يداه .
قال تعالى: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} [البقرة: 120].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ {51} فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة: 51-52].
وقال تعالى: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ} [الممتحنة: من الآية 1].
وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال: “مَن أعانَ علَى خصومةٍ بظُلمٍ، أو يعينُ علَى ظُلمٍ، لم يزَلْ في سخطِ اللَّهِ حتَّى ينزعَ” (رواه ابن ماجه وهو حديث صحيح).
وعن أوس بن شرحبيل رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: “منْ مشي معَ ظالمٍ ليعينَه وهوَ يعلمُ أنه ظالمٌ فقدْ خرجَ منَ الإسلامِ” (رواه الطبراني وهو حديث ضعيف).
والنصوص الشرعية في هذا الجانب كثيرة بل أكثر من أن تُحصى، ونكتفي بما تم ذكره، للاستدلال على أن التطبيع مع الكيان الصهيوني بهذه الصورة المزرية والفجة التي نراها حرام شرعاً طالما استمر هذا الكيان الغاصب في ممارسة الظلم، وطالما أصر على هضم حقوق الشعب الفلسطيني واغتصاب أرضه واستباحة مقدساته.
التطبيع مع الكيان الصهيوني بهذه الصورة المزرية والفجة التي نراها حرام شرعاً طالما استمر هذا الكيان الغاصب في ممارسة الظلم، وطالما أصر على هضم حقوق الشعب الفلسطيني واغتصاب أرضه واستباحة مقدساته
أولاً: تعريف التطبيع
سيقتصر تعريفنا للتطبيع هنا على التطبيع مع الكيان الصهيوني الغاصب الذي اغتصب الأرض ودنَّس المُقدسات وانتهك الحُرمات وضرب بالقرارات والمواثيق والأعراف عرض الحائط مُتحدياً بذلك مشاعر العرب والمسلمين وكل شرفاء العالم.
إن التطبيع هو الاستجابة للمشاركة أو الدعوة للمشاركة في أي مشروع أو فاعلية أو نشاط الغرض منه هو إظهار الود والتفاهم والتعاون والاحترام المتبادل، وإزالة الحواجز النفسية بين العرب والمسلمين “أفراداً كانوا أو كيانات ومؤسسات وهيئات ودول” وبين الكيان الغاصب- سواء كان ذلك على المستوى المحلي أو على المستوى الدولي، وسواء كان ذلك بطريقة مباشرة أو غير مباشرة- دون الاعتراف المُسبق بكامل الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.
إن النشاط الوحيد المسموح به في هذا الجانب هو كل نشاط يكون هدفه المُعلن والصريح هو فضح جرائم الاحتلال، ومقاومته، وتعريته ، لإبراز الاضطهاد الذي يُمارسه هذا الكيان الغاصب ضد الشعب الفلسطيني وضد مقدساته.
ثانياً: أشكال التطبيع المنبوذة والتي يجب نبذها وفضح القائمين بها
إن أشكال التطبيع المنبوذة والتي يجب نبذها وفضح القائمين بها متعددة ومتنوعة ومختلفة بتعدد وتنوع واختلاف مجالات ومناحي الحياة.
* طالما كانت هذه الأنشطة مدعومة دعماً كلياً أو جزئياً من الكيان الصهيوني الغاصب، على أي أرض كانت وتحت أي مُسمى كانت، طالما أنها لا تقر علانية بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، فهي مرفوضة.
* وطالما كان الغرض من هذه الأنشطة هو إظهار الود والتفاهم والتعاون، والاحترام المتبادل، وإزالة الحواجز النفسية بين العرب والمسلمين، وطي صفحة الصراع ونسيانها أو تناسيها حرصاً على المستقبل “حسب زعم المُنبطحين”، فهو مرفوض.
* والجدير بالذكر أن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني لا يجب الخوض فيها ولا المُساومة عليها من أي جهة أو أي طرف دون الرجوع للشعب صاحب السيادة على أرضه وصاحب الحق في تقرير مصيره، وأن أي طرح من شأنه تمييع القضية وتضييع معالم الصراع وحقيقته وتاريخه هو والعدم سواء.
الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني لا يجب الخوض فيها ولا المُساومة عليها من أي جهة أو أي طرف دون الرجوع للشعب صاحب السيادة على أرضه وصاحب الحق في تقرير مصيره
وبعد التأكيد على النقاط السابقة فلابد من التأكيد على أن قاعدة الانطلاق الأصلية والأصيلة لأي تفاوض والتي لا تقبل النقاش ولا التفاوض هي حقوق الشعب الفلسطيني، وتشمل:-
1- حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره.
2- حق اللاجئين في العودة والتعويض طبقاً لقرارات الأمم المتحدة.
3- تنفيذ القرارات الدولية التي تقر بعروبة القدس.
4- عدم شرعية الاستيطان وكل ما ترتب عليه من جرائم.
5- عدم شرعية تغيير الحدود الجغرافية والتركيبة الديموغرافية.
ثالثاً: بعض أشكال التعاون التي يجب استثنائها
بعد التأكيد على ما سبق يجب التنويه إلى أنه يُستثنى من ذلك أمرين لا ثالث لهما، وهما:-
1- الفاعليات الدولية التي يحضرها أفراد أو كيانات أو دول مُتعددة الجنسيات ولا تهدف إلى ما نبهنا عليه وحذرنا منه سلفاً.
2- التعاون في حالة حدوث كوارث طبيعية وإنسانية مثل الزلازل والفيضانات والأوبئة وما من شأنه تهديد البيئة وتهديد حياة الإنسان، على أن ينتهي هذا التعاون فور زوال سببه.
رابعاً: جذور التطبيع وأصله
إن جذور التطبيع قد أسست لها دول الجوار للكيان الصهيوني وعلى رأسها مصر والأردن، ومن المؤسف والمحزن أن نقول أن منظمة التحرير الفلسطينية كانت وما زالت من المنبطحين والمهرولين لعملية التطبيع مع الكيان الصهيوني الغاصب.
– إن مصر هي أول من فتحت باب التطبيع مع الكيان الصهيوني وذلك بتوقيع “اتفاقية كامب ديفيد” عام 1978م، وتوقيع “معاهدة السلام” عام 1979م، غير واضعة القضية الفلسطينية في الاعتبار وغير مُبالية بحقوق الشعب الفلسطيني.
– وقامت منظمة التحرير الفلسطينية بتوقيع “اتفاق أوسلو” مع الكيان الصهيوني عام 1993م.
– وقام الأردن كذلك بتوقيع “اتفاق سلام” مع الكيان الصهيوني عام 1994م.
وكل هذه الاتفاقيات لم تحرك ساكناً ولم تسهم في حل القضية الفلسطينية قيْد أنملة، والسبب في ذلك هو أن الدول التي وقعت على هذه الاتفاقيات قد وقعتها للمصلحة الخاصة، وأن الكيان الصهيوني قد وقع على هذه الاتفاقيات على أنها اعترافات من هذه الدول بوجوده وحقوقه بل وممارساته!
خامساً: دوافع الدول التي تقوم بالتطبيع مع الكيان الصهيوني
إن المنبطحين الذين يُهرولون وراء الكيان الصهيوني بُغية الحصول من قادته ومن يساندونهم على نظرة رضا إنما يفعلون لعدة أسباب:-
1- شعورهم بالدونية والضعف، وشعورهم كذلك بأن كراسي الحكم تهتز أسفل منهم، وأنهم في حاجة لمن يدعم موقفهم أمام شعوبهم التي ضجت بهم وبممارساتهم العبثية في إدارة شئون بلادهم.
2- لظنهم أن تطبيعهم مع الكيان الصهيوني سيضمن أمنهم وحمايتهم ونسوا تاريخ اليهود من المكر والخديعة والخيانة وبطر النعم وعدم الاعتبار بالآيات وقتل الأنبياء، ونسوا مجادلتهم لله تعالى في بقرة، ونسوا كذلك تحذير الله تعالى لنا منهم بقوله: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: من الآية 120].
3- ولاعتقادهم بأن التطبيع مع الكيان الصهيوني سيمنحهم امتيازات أمام المجتمع الدولي عامة والعم سام خاصة.
– فالإمارات تحلم بالتسهيلات الاستثمارية لشركاتها ولرجال الأعمال فيها سواء داخل الكيان الصهيوني أو داخل الدول المؤيدة له.
– والسودان تطمح إلى رفع اسم الدولة من قائمة الدول الراعية للإرهاب لتحظى بما تحظى به الدول المستأنسة من معونات وامتيازات.
– والمغرب تطمع في فرض سيادتها وسيطرتها على منطقة الصحراء الغربية المتنازع عليها مع جبهة البوليساريو المدعومة من الجزائر.
– والبحرين تخشى أن يتم التهامها من إحدى دول الجوار لكونها دويلة صغيرة يمكن احتلالها في نزهة لا تستغرق ساعات، وهكذا الوضع مع عمان التي أصبحت على وشك الإعلان الرسمي عن تطبيعها مع الكيان الصهيوني.
– أما عن مصر والأردن وكل من يسير على دربهم فينطبق عليهم ما تم ذكره في السبب الأول وهو (شعورهم بالدونية والضعف، وشعورهم كذلك بأن كراسي الحكم تهتز أسفل منهم وأنهم في حاجة لمن يدعم موقفهم أمام شعوبهم التي ضجت بهم وبممارساتهم العبثية في إدارة شئون بلادهم).
(المصدر: موقغ بصائر)