هكذا كانوا يعظون أنفسهم وهم العلماء النجباء الصلحاء
بقلم د. محمد عبد الكريم الشيخ
نقل ابن الجوزي في صيد الخاطر عن الإمام ابن عقيل(*) رحمه الله تعالى قوله وقد جاوز الخمسين من عمره:
” أفٍ والله مني، اليوم على وجه الأرض، وغدًا تحتها! والله إن نتن جسدي بعد ثلاث تحت التراب أقل من نتن خلائقي وأنا بين الأصحاب.
والله إنني قد بهرني حلم هذا الكريم عني:كيف يسترني وأنا أتهتك،ويجمعني وأنا أتشتت؟!
وغدًا يقال: مات الحبر العالم الصالح. ولو عرفوني حق معرفتي بنفسي ما دفنوني….
والله ما أجد لنفسي خلةً أستحسنُ أن أقول متوسلًا بها: اللهم اغفر لي كذا بكذا.
والله ما التفتُّ قطُّ إلا وجدت منه سبحانه برًّا يكفيني، ووقاية تحميني… ولا عرضت حاجة فمددت يدي إلا قضاها. هذا فعله معي، وهو رب غني عني، وهذا فعلي، وأنا عبد فقير إليه!
ولا عذر لي فأقول: ما دريت، أو: سهوت.
فواحسرتاه على عمر انقضى فيما لا يطابق الرضا!… وياحسرتي على ما فرطت في جنب الله…!
واخيبةَ من أحسنَ الظن بي إذا شهدت الجوارح علي! واخذلاني عند إقامة الحجة! سخر -والله- مني الشيطان، وأنا الفطن!.
اللهم توبة خالصة من هذه الأقذار، ونهضة صادقة لتصفية ما بقي من الأكدار. وقد جئتك بعد الخمسين، وأنا من خلق المتاع… وليس لي وسيلة إلا التأسف والندم؛ فوالله ما عصيتك جاهلًا بمقدار نعمك، ولا ناسيًا لما أسلفت من كرمك، فاغفر لي سالف فعلي – اللهم آمين – ” (صيد الخاطر : ٤٧٥)
(*) ومن هو ابن عقيل رحمه الله؛ هذا الإمامُ الذي يزري من نفسه؛ ويصفها بهذا الوصف العجيب !!؛
إنَّهُ إمام الحنابلة في زمانه؛ قال عنه ابن ناصر الحنبلي : فما كان في مذهبنا أحدٌ مثله .
قال ابن الجوزي : وكان ابن عقيل قوي الدين ، حافظا للحدود . وتوفي له ولدان ، فظهر منه من الصبر ما يُتعجب منه . وكان كريما ينفق ما يجد ، ولم يخلف سوى كتبه وثياب بدنه . وكانت بمقدار كفنه ، وقضاء دينه .
وكان ابن عقيل رحمه الله عظيم الحرمة ، وافر الجلالة عند الخلفاء والملوك .
وكان شهماً مقداماً ، يُواجه الأكابر بالإنكار بلفظه ، وخطه ، حتى إنه أرسل مرة إلى حماد الدباس ، مع شهرته بالزهد والمكاشفات ، وعكوف العامة عليه ، يتهدده في أمر كان يفعله ويقول له : إن عدتَ إلى هذا ضربتُ عنقك .
وقد كان ابن عقيل على مذهب المعتزلة ، ثم تاب منه ، وصنف في الرد عليهم؛ وهذا من تجرُّدِهِ وطلبه للحق ، قال الحافظ ابن حجر : ” وهذا الرجل من كبار الأئمة ، نعم كان معتزليا ؛ ثم أشهد على نفسه أنه تاب عن ذلك وصحت توبته. ثم صنف في الرد عليهم وقد أثنى عليه أهل عصره ومن بعدهم وأطراه ابن الجوزي وعول على كلامه في أكثر تصانيفه ” انتهى من “لسان الميزان” (5/ 564) .
توفي رحمه الله بكرة الجمعة ، ثاني عشر جمادى الأولى سنة ثلاثة عشرة وخمسمائة – وقيل : توفي سادس عشر الشهر – والأول : أصح . وصُلي عليه في جامعي القصر والمنصور .
وكان الإمام عليه في جامع القصر ابن شافع. وكان الجمعُ يفوت الإحصاء.
هل تعلم عدد من صلى عليه ؟!
يقول ابن ناصر الحنبلي : حزَرْتُهم – أي قدرت من صلى عليه – بثلاثمائة ألف .
…………………………………………….
أنظر ترجمته : “سير أعلام النبلاء” للذهبي (19/ 443)، و”ذيل طبقات الحنابلة” لابن رجب (1/ 316).
(المصدر: رابطة علماء المسلمين)