هزيمة يونيو/حزيران ودورها في ‘صناعة الشَّرق الأوسط الجديد 5 من 6
إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن
ثاني أيَّام الحرب: تقدُّم إسرائيلي وتراجُع عربي
تقدَّم الجيش الإسرائيلي في فجر يوم 6 يونيو 1967م، إلى شعب جيرادي، وخان يونس، والحاميات الموجودة في أم قطيف، وبدأت معركة مع القوَّات المصريَّة بالدَّبَّابات، أسفرت عن احتراق 40 دبَّابة مصريَّة و14 إسرائيليَّة، وسقط 300 قتيل من جنود مصر، إلى جانب 100 أسير. كان الهجوم على غزَّة كاسحًا بعد الاستيلاء على مقرِّ القيادة المصريَّة في المدينة، ومن أعجب المفارقات أنَّ المئات من الآليَّات قد تعطَّلت أثناء المعركة؛ إذ لم تكن المحرِّكات سوفييتيَّة الصُّنع مناسبة لظروف الصَّحراء، حيث دارت المعركة. سقط في معركة غزَّة 1500 جندي، ولوحق النَّاجون بقصف جوِّي متواصل عجزت المدفعيَّة المضادَّة للطيران عن صدِّه. كانت القوَّات على الجبهة المصريَّة في سيناء لم تزل متماسكة، وقد رفع من الرُّوح المعنويَّة وصول دفعات من الفدائيين من المغرب وتونس والسُّودان، إلى جانب إمداد من الطَّائرات الحربيَّة من الجزائر. مع ذلك، فقد حدث ما أجهض مساعي مواجهة الأزمة وتجاوُزها، بأن أمرت القيادات المصريَّة قوَّاتها بالانسحاب غير المنظَّم. ظلَّ هذا القرار يؤرق قادة الجيش المصري طيلة السَّنوات اللاحقة، واختلفت الرُّوايات عن معرفة الرَّئيس عبد النَّاصر بالأمر وموافقته عليه، وإن اتَّفقت في أنَّ المشير عامر هو الذي اتَّخذ القرار. برَّر عامر قراره ذلك بأنَّ تلك كانت الطَّريقة الوحيدة لمنْع تدمير الجيش المصري بأكمله وأسره، كما يخبر سليمان مظهر في كتابه اعترافات قادة حرب يونيو (1998م، ص152-153). يذكر أورين أنَّ توتُّر العلاقة والتنازع على السُّلطة بين الرَّئيس عبد النَّاصر والمشير عامر أسفر عن “فوضى في الميدان” (ص398). وبعد تراجُع القوَّات المصريَّة، سلَّط عامر تركيزه على إلقاء التُّهم على أمريكا وبريطانيا، اللتين أعلنتا الحياد منذ البداية، بالمشاركة في الهجوم على مصر، عاجزًا عن تقديم دليل، ثمَّ بدأ يتَّهم السُّوفييت بمنح مصر أسلحة فاسدة أسهمت في الهزيمة.
انتقلت الهزيمة إلى القوَّات الأردنيَّة، التي تُركت في العراء دون دفاع جوِّي، لتخسر كذلك على جبهة القُدس، برغم قوَّة تحصينات المدينة. من وادي الجوز، عزَلت القوَّات الإسرائيليَّة البلدة القديمة عن أريحا، والقُدس الشَّرقيَّة عن رام الله، وبرغم أنَّ القوَّات الأردنيَّة كانت لم تزل تسيطر على “البلدة القديمة ومعظم القُدس الشَّرقيَّة”، وأنَّ التقدُّم الإسرائيلي اقتصر على اللطرون وجنين، طرح القائد المصري للجيش الأردني على الملك حسين خيارين، كلاهما مُرٌّ، بأن يطلب وقْف إطلاق النَّار أو يأمر بتراجع عام (ص413). بعد مشاورة بعض سفراء بريطانيا وأمريكا والاتحاد السُّوفييتي وفرنسا، آثر الحسين وقف إطلاق النَّار، إلَّا أنَّ طلباته الأربعة في هذا الصَّدد رُفضت، كما لم يُلتزم بأوَّل قرار من مجلس الأمن بوقف إطلاق النَّار؛ فما كان من الملك حسين إلَّا أن وافق على اقتراح الفريق عبد المنعم رياض بالانسحاب من الضَّفة. غير أنَّ الحسين تراجع عن قراره بعد شعوره بقدرة القوَّات على مواصلة القتال؛ فأمر بعودة القوَّات إلى مواقعها في الضَّفة الغربيَّة لنهر الأردن. وكما يروي أورين، “كان مستقبل الضَّفَّة الغربيَّة، وغزَّة، والقُدس شُغْل مجلس الوزراء الشَّاغل” لدى اجتماعه مساء ثاني أيَّام الحرب، وكان أكثر المسائل الملحَّة التي أراد قادة إسرائيل إثارتها بعد الحرب هي “مصادر المياه، والمناطق المنزوعة السِّلاح، ومشكلة اللاجئين الفلسطينيين” (ص434). انتهى اليوم الثاني، 6 يونيو 1967م، بمزيد من التقدُّم الإسرائيلي والانهزام على جبهات القوَّات العربيَّة، وصار قيادات إسرائيل تتحدَّث عن مستقبل الأراضي الجديدة التي استحوذت عليها إثر هزائم العرب.
ثالث أيَّام الحرب: صراع مصيري على القُدس
أخبر العاهل الأردني الرَّئيس المصري بتراجعه عن قراره بإخلاء الضَّفَّة الغربيَّة من القوَّات العربيَّة، ليتلقَّى الحسين اتِّهامًا من عبد النَّاصر بموالاة أمريكا وبريطانيا على حساب قضيَّة الشُّعوب العربيَّة. يصف أورين الوضع داخل القُدس صبيحة 7 يونيو 1967م، وصعوبة حمايتها من السُّقوط في أيدي إسرائيل (ص439):
أمَّا في داخل القُدس، فلم تكف سوى قوَّات أردنيَّة مصمّمة على مقاومة الهجوم الإسرائيلي المرتقب وشيكًا. لقد انسحب المدافعون عن المدينة القديمة كلُّهم ما خلا مائة، كما لم يبقَ في هضبة أوغستا فيكتوريا سوى عدد أقل من ذلك. ومن آخر من اعتقد بأنَّ العرب قد خسروا المعركة هو وجهاء الفلسطينيين بزعامة رئيس بلديَّة القُدس روحي الخطيب، وحاكم المنطقة أنور الخطيب. أمَّا القُدس الشَّرقيَّة إيمانًا بأنَّ ناصرًا لا يُهزم، وأنَّ إسرائيل ستُهزم عمَّا قريب لا محالة، فلم تُزوّد نفسها بالمؤن للحرب. فلم تخزّن موادَّ طبيَّة للطَّوارئ، ولم تُنشئ ملاجئ للقذائف والقنابل. ومنذ أن بدأت الحرب أقنع المسؤولون الفلسطينيون أنفسهم بأنَّ الطَّائرات المحلّقة فوق رؤوسهم والدَّبَّابات الموجودة على جبل المكبر كانت أردنيَّة، أو حتَّى عراقيَّة.
في ظلِّ تلك الظُّروف، وبعد التأكُّد من تحليق طائرات إسرائيل فوق رؤوسهم، طالَب أهل القُدس الحسين بن طلال إعلان القُدس مدينة مفتوحة، حمايةً للمقدَّسات الدِّينيَّة بها، وبخاصَّة المسجد الأقصى، ثالث المساجد الذي تُشدُّ إليها الرِّحال. كما يذكر أورين، ما كان من الحسين، سليل الأسرة الهاشميَّة التي كانت تحمي الحرمين الشَّريفين في مكَّة والمدينة المنوَّرة، أن يتجاهل أهميَّة المسجد الأقصى؛ فسارَع رئيس الوزراء الأردني بمناشدَة الأمم المتَّحدة لإيقاف الزَّحف الإسرائيلي إلى البلدة القديمة ونابلس، محذِّرًا من انهيار الحُكم الهاشمي إذا ما تقدَّمت إسرائيل، ولذلك تبعات خطيرة على مستقبلها؛ لأنَّ حركة تحرير فلسطين (فَتَح) قد تسيطر على السُّلطة في شرق الأردن وقتها. ما كان من موشيه دايان إلَّا أن أمر باقتحام المدينة مع استخدام محدود للدَّبَّابات والطَّائرات، مع تحذير شديد من قصف المسجد الأقصى، تفاديًا لأزمة دوليَّة قد تنشب. ويصف أورين الزَّحف الإسرائيلي إلى القُدس كما يلي (ص442):
تابع المظلّيون تقدُّمهم جنوبًا، واستولوا على الفندق المشيَّد على جبل الزَّيتون وأقدم مقبرة يهوديَّة في العالم، ومن ثمَّ استولوا على “أبو ديس” منجزين بذلك الإحاطة المدنيَّة. ومن هناك نزلوا إلى حديقة غيثسيمان (Gethsemane) حيث اعتُقل السَّيد المسيح، ومسرح المعركة الرَّهيبة الَّتي جرت ليلة أمس مع الأردنيين. كانت أمامهم المدينة القديمة وبوَّاباتها الَّتي شيَّدها السُّلطان المملوكي بيبرس في العام 1320 ومازات مزيَّنة بدرعه الشَّبيه بالأسد. أرسل غور مستبقًا الأحداث، رسالة إلى قادة كتائبه…: “إنَّنا نحتلُّ المرتفعات المطلَّة على المدينة القديمة، ولسوف ندخلها قريبًا جدًّا. سنكون أوَّل من دخل مدينة القُدس القديمة الَّتي مازلنا نحلم بها ونقاتل من أجلها منذ أجيال. الأمَّة اليهوديَّة بانتظار انتصاركم. وإسرائيل تنتظر هذه السَّاعة التَّاريخيَّة فافتخروا. حظًّا سعيدًا”.
كان الشَّعب الإسرائيلي يشتاق إلى استعمار مدينة القُدس، وإحياء التَّراث اليهودي لفترة ما قبل جلاء اليهود عنها في القرن الأوَّل الميلادي، حتَّى أنَّ الإذاعة كانت تبثُّ أغنية اسمها “القدس من ذهب”، وحرص ليفي إشكول على المسارعة في إسناد مهمَّة المقدَّسات الدِّينيَّة لرجال الدِّين المختصِّين، بعد عجْز القوَّات الأردنيَّة الباقية عن صدِّ العدوان الإسرائيلي. كانت القوَّات الأردنيَّة “في فوضى كاملة” عندما آثروا اللجوء للضَّفَّة الشرقيَّة للحفاظ على أرواحهم، بعد تقدُّم القوَّات الإسرائيليَّة إلى القُدس من مختلف الجهات واكتساحهم القوَّات التي تقف في طريقهم (ص448). جدَّد العاهل الأردني طلبه بوقف إطلاق النَّار، ممَّا جعل قادة إسرائيل يشعرون بقُرب حسْم المعركة لصالحهم، خاصَّة بعد سقوط مدينة شرم الشَّيخ المصريَّة، وإعادة فتْح خليج العقَبة أمام الملاحة الإسرائيليَّة.
رابع أيَّام الحرب: حسْم المعركة وجدل بشأن احتلال الجولان
بدأ يوم 8 يونيو 1967م، بسلسلة من التَّفجيرات في وادي الأردن، وبتدمير الجسور المقامة بين ضفَّتي نهر الأردن؛ لمنع العبور بين الضَّفتين. تأكَّد للأردنيين أنَّ إسرائيل لم تكن تنوي احتلال أراضي الضفَّة الشَّرقيَّة لنهر الأردن، إنَّما تعزيز وجودها في الضفَّة الغربيَّة، حيث تقع مدينة القُدس. ويقول الكاتب سمير مطاوع في كتابه الأردن في حرب 1967 (1987م)، إنَّ الحرب أعادت الأردن إلى ما كانت عليه زمن تأسيسها، في عهد عبد الله الأوَّل بن الحسين، أي إلى حدود إمارة شرق الأردن، “في حين أكملت إسرائيل احتلال فلسطين التَّاريخيَّة” (ص140). أمَّا بالنسبة إلى جبهة القتال في مصر، فقد شهدت السَّاعات الأولى من يوم 8 يونيو محاولة الآلاف من الجنود اللجوء إلى ممرَّي متلا والجدي للوصول إلى قناة السُّويس، وهذا ما انتبهت إليه القوَّات الإسرائيليَّة؛ فسارعت بإغلاق الطُّرق المؤدية إلى الممرَّين. هكذا، سُحقت كافَّة المعدَّات والمركبات العسكريَّة الموجودة شرق الممرَّين، وقُتل 10 آلاف شخص في ذلك اليوم وحده.
يتطرَّق أورين، ربمَّا لأوَّل مرَّة بالتَّفصيل، إلى جبهة الجولان، موضحًا أنَّ القصف السُّوري للمستوطنات الإسرائيليَّة المحيطة بالهضبة كان يُقصف بلا هوادة. يبدو أنَّ الانتصار الذي أحرزته إسرائيل على الجبهتين المصريَّة والأردنيَّة شجَّعها على اجتياح هضبة الجولان، تحت ذريعة أنَّ القوَّات السُّوريَّة هي التي بدأ بالهجوم الاستفزازي؛ وينقل أورين عن صحيفة هآرتس الإسرائيليَّة دعوتها إلى الهجوم على الجولان، بأن ذكر أحد مقالاتها “لقد آن الأوان لتصفية الحسابات مع الذين بدأوا ذلك القصف كلَّه، وإنجاز المهمَّة” (ص479). لم يكن هناك إجماع بين قادة الجيش الإسرائيلي حول ضرورة الهجوم على سوريا، حتَّى أنَّ موشيه دايان ذاته عارَض الأمر، خشية الدُّخول في احتكاك مباشر مع الاتحاد السُّوفييتي، حليف الحكومة السُّوريَّة الاشتراكيَّة نظامًا والعلويَّة عقيدةً، علاوة على أنَّ ما احتلَّته إسرائيل من أراضٍ في الأيَّام الثلاثة الأولى كان كافيًا.
كان ليفي إشكول، إلى جانب الجنرال دافيد إلعازار، من أكثر المتحمِّسين للفكرة، على غير رغبة موشيه دايان وإسحق رابين اللذين عارضا، خشية الهزيمة، بعد سيطرة إسرائيل على كامل الضَّفَّة الغربيَّة وكامل سيناء في الأيَّام الأولى. غير أنَّ الدَّفع الدُّولي، بقيادة أمريكا، إلى وقف إطلاق النَّار من الطَّرفين، جعل من الصَّعب فقدان الأراضي التي استحوذت عليها إسرائيل، خاصَّةً بعد حالة الإنهاك وخسارة العتاد العسكري التي كانت تمرُّ بها الجيوش العربيَّة. ما شجَّع على اتِّخاذ قرار الهجوم على الجولان استمرار قصف شمال الجليل، خاصَّة وأنَّ دايان أعرب عن قلقه من هجوم جوِّي سوري-عراقي، برغم نفيه السَّابق “أن سوريا تشكِّل تهديدًا لإسرائيل” (ص505). أصرَّ الجنرال إلعازار على خوض معترك الجولان، مشيرًا إلى أنَّ خسائر إسرائيل لن تكون فادحة في تقديره، وأنَّ اللعنة ستصيبهم لأجيال، إن لم يفعلوا شيئًا بشأن الجولان. ومع ذلك، أصرَّ كلٌّ من موشيه دايان وإسحق رابين على رفْض المخطط، وإن وعد دايان، المتعاطف مع حماس إلعازار، بإعادة النَّظر، كما ينقل أورين (507).
خامس أيَّام الحرب: عبد النَّاصر يعرض التنحِّي واشتعال جبهة الجولان
استمرَّ الجدل في دائرة القيادة الإسرائيليَّة حول فتْح جبهة إضافيَّة في الجولان، وإن كان هناك إجماع بشأن ضرورة معاقبة سوريا على إيوائها الفدائيين الفلسطينيين ومساعدتها لهم في هجماتهم على إسرائيل. وفي خضمِّ ذلك الجدل، أتى الميجر إيلي حلاحمة، المعني بمتابعة أوضاع الجيش السُّوري، بمعلومات قلبت الموازين لصالح مؤيِّدي الهجوم على الجولان؛ فقد وصل إلى حلاحمة صورٌ جويَّة من الشَّمال، توضح أنَّ “المعسكرات المحيطة بالقنيطرة، والتي كانت تعجُّ بالدَّبَّابات والمدافع ووحدات الفدائيين، مهجورة تمامًا“، وحينها علَّق حلاحمة بقوله “تقدير هو أنَّ السُّلطة السُّوريَّة في مرتفعات الجولان في حالة انهيار، وليس واضحًا فيما إذا كان هذا الوضع سيطرح نفسه ثانيةً” (ص510). أصرَّ الجنرال دافيد إلعازار على شنِّ هجوم على الجولان، برغم تحذير رئيس الأركان، إسحق رابين، من احتماليَّة عدم صحَّة ما تردَّد عن انهيار الجيش السُّوري، ليبدأ الهجوم بشنِّ 164 غارة في السَّاعات الثَّلاث الأولى. تبيَّن خلال الهجوم سوء تقدير الموقف، وتعرَّضت القوَّات الإسرائيليَّة لخسائر بشريَّة فاقت التوقُّعات، لكنَّ ذلك لم يدفعها إلى التقهقر. تجاوزت القوَّات الإسرائيليَّة التحصينات السُّوريَّة، ونجحت في النِّهاية في تحقيق معظم أهدافها، وقبل الزَّمن المحدَّد لها ضمن الجدول الزَّمني المعدِّ مسبقًا، وهذا ما دفع إلعازار ورابين، الذي تراجَع عن موقفه الرَّافض للمعركة، إلى تحديد هدف أكبر ممَّا أُنجز، وهو “احتلال كامل الجولان” (ص519).
أمَّا عن موقف الجانب السُّوري، فقد قرَّر قادة الجيش الاستمرار في قصف المستوطنات الإسرائيليَّة، وتعزيز المواقع التي لم تسقط، في غياب تامٍّ للمساعدات العربيَّة؛ إذ كانت جيوش الدُّول المحيطة، وعلى رأسها مصر، في أمسِّ الحاجة إلى العون. من جانبه، أقسم حافظ الأسد، وزير الدِّفاع السُّوري حينها، في حديث لإحدى الإذاعات القوميَّة “على متابعة المعركة ضدَّ العدو الإمبريالي الصُّهيوني بغضِّ النَّظر عن تكاليفها”، مضيفًا بالنَّص “إنَّ هدف العدوِّ هو تحطيم معنويَّات الشَّعب، وإجباره على التَّقهقر والتَّراجع عن موقفه البطولي في المعركة ضدَّ أعداء الأمَّة” (ص520). أراد قادة سوريا من مجلس الأمن أن يعلن وقْف إطلاق النَّار، وساعَد تأخُّر الإعلان الجانب الإسرائيلي على مواصلة القتال، وكان قرار القيادة الإسرائيليَّة هو استمرار القتال حتَّى السَّاعات الأولى من يوم السَّبت، 10 يونيو 1967م.
ويروي أورين عن موقف القيادة المصريَّة يوم 9 يونيو 1967م، بعد سقوط سيناء بالكامل (ص522):
يبدو أنَّ عبد النَّاصر كان راغبًا في لعب دور كبش الفداء. كان الزَّعيم الَّذي لا يلين ولا يُهزم، يعاني من اكتئاب حادّ، ويشكو من ألم في ساقيه، وينام واضعًا بندقيَّة تحت وسادته. وكان يهتف باستمرار إلى الجنرال فوزي يسأله عن حالة قوَّاته. قال لمدكور أبو العز، محافظ أسوان، الَّذي كان ناصر سيكلّفه بإعادة بناء سلاح الجو، “إنَّني أجلس هنا بانتظار الجيش ليأخذني”. كان الرَّئيس يجلس في الظَّلام-إذ كان التَّعتيم مازال ساري المفعول-تضيء وجهه شمعة واحدة. “حارسي الشَّخصي موجود في الجبهة على القناة، ولكنّي لا أريد سوى مسدَّس، هو هنا في جيبي، جاهز”. ومضمون كلامه يشير إلى أنَّ ناصر كان يفضّل الانتحار على الوقوع ضحيَّة انقلاب عسكري. ومع ذلك، عندما وصلته بعد منتصف الليل بقليل، تقارير عن محاولة عامر الانتحار، هرع إلى مقرّ القيادة العليا.
قرَّر الزَّعيم القومي العروبي واسع الشَّعبيَّة، “ناصر حبيب الشَّعب” كما أُطلق عليه في إحدى الأغنيات للتَّعبير عن تقدير شخصه والامتنان لما قدَّمه لمصر منذ تولَّى حُكمها، التَّنحِّي، وأذاع ذلك في بيان بُثَّ على الهواء مباشرةً مساء 9 يونيو 1967م، لتخرج الجماهير المصريَّة، التي قُدِّرت بمئات الآلاف، “أطفالًا ونساءً وطُلَّاب جامعات”، وتتوجَّه إلى محيط منزل الرَّئيس عبد النَّاصر في منشيَّة البكري. كذلك، “تدفَّقت حشودٌ مماثلة من النَّاس الأوفياء لناصر إلى شوارع الإسكندريَّة وفي مدن الشَّرق الأوسط”، لمطالبة عبد النَّاصر بالبقاء في منصبه (ص525). ومع ذلك، فقد رأى البعض في ذلك مسرحيَّة مُتقنة أرادت تثبيت دعائم حُكم عبد النَّاصر، الذي أراد “تعزيز موقعه المتهاوي بتفويض شعبي مجدًّدًا” (ص526).
(المصدر: رسالة بوست)