هزيمة يونيو/حزيران ودورها في ‘صناعة الشَّرق الأوسط الجديد’ 1من 6
إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن
يتناول الدُّكتور بهاء الأمير في كتابه اليهود والماسون في الثورات والدساتير (2011م) استغلال الرَّغبة الشَّعبيَّة الحقيقيَّة في التَّغيير والإصلاح في إشعال ثورات في شتَّى بقاع الأرض، تحقيقًا لهدف جماعة اليهود النُّورانيين الماسونيَّة في تأسيس “نظام عالمي جديد”، يحكم اليهود العالم من خلاله، في ظلّ وجود مخلّص بني إسرائيل. سبقت الإشارة كذلك إلى أنَّ الثَّورات التي اندلعت في العالم الإسلامي في القرن العشرين اتَّخذت القوميَّة شعارًا لها، واعتبرت الاشتراكيَّة النّظام الأولى بالتَّطبيق، سواءً في شؤون الحُكم أو الشؤون الشخصيَّة لتصبح أسلوبًا متكاملًا للحياة، برغم أنَّ الاشتراكيَّة هي من تصميم اليهود، ولم تنجح في تأسيس دولة غير الدَّولة العبريَّة، التي أفضت الاضطرابات الدَّاخليَّة في منطقة الشَّرق الأوسط إلى مواجهة حتميَّة معها. لم يخفِ مايكل أورين، المؤرِّخ الإسرائيلي أمريكي الأصل، والذي شغل منصب السَّفير الإسرائيلي إلى الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة (2009-2013م) ويعمل أستاذًا للتَّاريخ بمركز شاليم بالقُدس المحتل، عن اختيار عنوان لكتابه Six Days of War: June 1967 and the Making of the Modern Middle East-ستَّة أيَّام من الحرب: يونيو 1967 وصناعة الشَّرق الأوسط الجديد (2002م) أنَّ من بين أهداف حرب الأيَّام السّتَّة إعادة تحديد ملامح منطقة الشَّرق الأوسط، أو لتقل “صناعة الشَّرق الأوسط الجديد“، وكأنَّما لم تكن الحرب للقضاء على التَّهديد العربي، إنَّما كانت خطوة في طريق تنفيذ مخطط تأسيس “نظام عالمي جديد”.
يتناول مايكل أورين في ستَّة أيَّام من الحرب (2002م) الظُّروف التي أفضت إلى اندلاع حرب الخامس من يونيو/حزيران من عام 1967م، ليبدأ عهد جديد في منطقة الشَّرق الأوسط اعتبره أورين إعادة تشكيل. اعتمد المؤرِّخ الإسرائيلي في كتابه على وثائق أُتيحت في الأرشيف الوطني الإسرائيلي بعد مرور 30 عامًا على حظْر الاطِّلاع عليها، ولعلَّ من أكثر تلك الوثائق إثارةً للجدل، أو لتقُل للامتعاض، ما أشار إلى أنَّ الاستعداد لحرب الأيَّام الستَّة، كما تُعرف حرب حزيران، بدأ قبل عقد كامل، وتحديدًا بعد انسحاب إسرائيل من سيناء عام 1957 م، بعد أشهر من احتلالها في أكتوبر من عام 1956 م، خلال ما عُرف بالعدوان الثُّلاثي على مصر، بمشاركة بريطانيا وفرنسا. ومن أهم ما بلوره أورين أنَّ الأوضاع الرَّاهنة في الشَّرق الأوسط تشابه فترة ما قبل حرب الأيَّام الستَّة من عام 1967 م، من حيث تنظيم الفلسطينيِّين أعمالًا توصف بالعدائيَّة تجاه إسرائيل، ممَّا يفاقم حالة عدم الاستقرار في المنطقة، ويعزِّز فرص شنِّ إسرائيل هجمات تُعتَبَر دفاعيَّة في هذه الحالة. ومن بين أهم الاستنتاجات التي خرج بها أورين أنَّ الوضع الحالي في منطقة الشَّرق الأوسط لا يختلف عنه عند اندلاع حرب حزيران التي ضاعفت من مساحة إسرائيل خلال 6 أيَّام فقط، محذِّرًا من أن ينجم عن اختلاف وجهات النَّظر مع إسرائيل حرب جديدة شاملة، تكون شرارتها عمليَّات العنف الإقليميَّة. وقد نشرت دار العبيكان السَّعوديَّة للنَّشر الكتاب عام 1426 هجريًّا/2005م، في ترجمة إلى العربيَّة أعدَّها الدُّكتور إبراهيم الشَّهابي.
ملابسات اندلاع حرب الأيَّام الستَّة
يستهلُّ مايكل أورين كتابه بالإشارة إلى أنَّ حرب الاستنزاف، وحرب يوم كيبور (حرب أكتوبر/تشرين 1973م)، ومجزرة ميونخ، وأحداث أيلول الأسود، وحرب لبنان، والجدال الدَّائر حول مستقبل القُدس والمستوطنات الإسرائيليَّة في الضَّفة الغربيَّة، واتفاقات كامب ديفيد، واتفاقات أوسلو، وانتفاضة الأقصى عام 2000 م، من تداعيات حرب الأيَّام الستَّة في 5 يونيو من عام 1967 م، ونادرًا ما تمخَّضت حرب قصيرة الأمد هكذا في العصر الحديث عن تداعيات في هذه الدرجة من شدَّة التأثير. وبرغم كثرة المؤلَّفات التي تناولت حرب الأيَّام الستَّة بالتَّحليل، يعتبر أورين أنَّ أيًّا منها لم يعتمد على كافَّة المصادر المتاحة عن تلك الحرب باللغات الأصليَّة للجهات المعنيَّة بالحرب-العربيَّة والعبريَّة والرُّوسيَّة-كما لم توازِن أيُّ دراسة بين جانبيها السِّياسي والعسكري، أو تشير إلى التفاعل بين الجوانب الإقليميَّة والدَّوليَّة والمحليَّة. يوضح المؤرِّخ الإسرائيلي المعاصر أنَّ هدفه ليس تبرير العدوان الإسرائيلي على البلدان المحيطة، إنَّما للوقوف على أهمِّ العوامل التي أجَّجت الحرب، وتحليل الأزمات الإقليميَّة التي عزَّزت الصِّراع المفضي إلى الحرب، التي تستحوذ إسرائيل بسببها إلى اليوم على الجولان وتحتل الضفَّة الغربيَّة وتسيطر على أولى القبلتين وثالث المساجد التي يُشدُّ إليها الرِّحال، المسجد الأقصى.
سياق اندلاع الحرب: صراع القوى الاستعماريَّة الغربيَّة مع العرب لصالح إسرائيل
لا ينكر منصفٌ عدم حياديَّة القوى الغربيَّة، لتقل دول الاستعمار، تجاه طرفي النزاع في الصراع العربي-الإسرائيلي، في الفترة التَّالية لتأسيس إسرائيل في 15 مايو من عام 1948 م، وحتَّى فجر 5 يونيو من عام 1967 م. دعَّم الغرب الكيان الإسرائيلي المحتل سياسيًّا واقتصاديًّا، وأمدَّه بأحدث التقنيات العسكريَّة، ولا شكَّ أنَّ لذلك تأثيره الكبير في التفوُّق الإسرائيلي على العرب. غير أنَّ أورين يبدأ حديثه عن سياق الحرب بالإشارة إلى الهجمات الفلسطينيَّة على الإسرائيليين، ومن بينها عمليَّة نفَّذتهما زمرة من “العصابات الفلسطينيَّة المسلَّحة” من حركة فَتَح (حركة تحرير فلسطين) لتفجير مضخَّة لنقل مياه بحيرة طبريا إلى صحراء النَّقب. يعلِّق أورين بقوله أنَّ المقاتلين الفلسطينيين تسلَّحوا بمعدَّات حربيَّة سوفييتيَّة، وارتدوا زيًّا حصلوا عليه من سوريا، آملين أن يسفر عدوانهم عن ردِّ فعْل انتقامي إسرائيلي يفضي إلى “هجوم عربي مجتمع لتدمير الدَّولة الصُّهيونيَّة”، لكنَّ العمليَّة منيت بالفشل (ص1). لم يمنع ذلك الفشل ياسر عرفات، القيادي الغزِّي في حركة فَتَح، من إعلان الانتصار والتحريض على الجهاد في مواجهة الصهاينة في كافَّة أنحاء العالم الإسلامي. وبرغم فشل تلك العمليَّة، فهي عيِّنة من مؤشِّرات عدم الاستقرار في الشَّرق الأوسط في فترة ما بعد جلاء الاستعمار الغربي، التي شهدت “صراعات مميتة وتدخُّلات من القوى العظمى” أدَّت إلى ما يُعرف بـ “الصِّراع العربي-الإسرائيلي” (ص2).
يعتبر مايكل أورين أنَّ الحركة الصُّهيونيَّة، أو مساعي الهجرة اليهوديَّة إلى الأرض المقدَّسة لتأسيس مملكة عالميَّة إيذانًا بظهور مخلِّص بني إسرائيل لحُكم العالم، من أهمِّ عوامل اشتعال الصِّراع في منطقة الشَّرق الأوسط، وبدون تلك الحركة ما كان الصِّراع العربي-الإسرائيلي ليشتعل. بدأت الحركة الصُّهيونيَّة في القرن التَّاسع عشر للميلاد مجرَّد فكرة، لكنَّ تنفيذها النَّاجح بدايةً من مطلع القرن العشرين المتزامِن مع مكائد إسقاط الدَّولة العثمانيَّة، آخر دولة للخلافة الإسلاميَّة، أدَّى إلى الوضع الرَّاهن في المنطقة، والآخذ في التطوُّر لصالح الجانب الإسرائيلي. يكمن سرُّ تأثير الصُّهيونيَّة، في رأي أورين، في إقرانها المفاهيم القوميَّة بارتباط الرَّوحاني والألفي لليهود بأرض إسرائيل؛ ولعلَّ ذلك كان مصدر قوَّة اليشوف (ישוב)، أو المجتمع الإسرائيلي، في الأرض المقدَّسة بعد احتلالها. يعترف المؤرِّخ بأنَّ تمزيق أراضي الدَّولة العثمانيَّة، التي أنهكتها هزيمتها في الحرب العالميَّة الأولى، من أهم العوامل الإيجابيَّة التي صبَّت في مصلحة الاحتلال الصُّهيوني لأرض فلسطين. وفي ظلِّ الانتداب البريطاني على فلسطين، توافد يهود أوروبا بوصفهم لاجئين عانوا في بلدانهم الأصليَّة من معاداة الساميَّة، وأسَّسوا مستوطنات زراعيَّة، تنوَّعت بين مزارع الكيبوتز ومجتمعات الموشاف الزِّراعيَّة، وأسَّس المستعمرون اليهود نظامًا اشتراكيًّا، اعتمد على مشاركة أرباح الزِّراعة، كما شكَّلوا جيشًا سريًّا عُرف بعصابات الهاغانا.
يجد أورين أنَّ نظرة الإسلام الدُّونيَّة لليهود كانت وراء العداء الذي أبداه العرب تجاه المهاجرين منهم إلى الأرض المقدَّسة؛ فأفضت أفواج الهجرة اليهوديَّة خلال عشرينات القرن الماضي إلى ما عُرف بـ “الثَّورة العربيَّة” عام 1936 م، بزعامة الحاج أمين الحسيني، مفتي القُدس حينها، واستمرَّت 3 سنوات، شهدت نفي الكثير من زعامات المسلمين من فلسطين، إلى جانب إنهاك الاقتصاد الفلسطيني. المفارقة أنَّ بريطانيا، التي خشيت من حالة الغضب الشَّعبي في العالم الإسلامي، أرادت إصدار “ورقة بيضاء”، أو مستند كتابي، تلغي به وعد بلفور لعام 1917 م، بوطن قومي لليهود على أرض فلسطين، لكنَّ دافيد بن غوريون، زعيم الصهيونيَّة وأوَّل رئيس وزراء لإسرائيل، قرَّر محاربة مساعي بريطانيا في هذا الصَّدد. يستشهد أورين بما أورده المؤرخ فرانسيس نيقوسيا في كتابThe Third Reich and the Palestine Question-الرايخ الثالث وقضية فلسطين (1985م)، عن تحالُف الحاج أمين الحسيني مع زعيم النَّازيَّة أدولف هتلر سرًّا ضدَّ الانتداب البريطاني، وبالطبع لم تكن مساندة هتلر النَّازي لقضيَّة فلسطين، لو صدق ذلك، إلَّا خدعة لكسب ثقة المسلمين والسيطرة على ثورتهم ووضعها تحت جناح ماسوني يرصد تحرُّكاتها ويعرقلها وقت اللزوم. يرى أورين أنَّ من بين نتائج ثورة 1936 م تأجيج الشُّعور القومي لدى العرب، الذين انتفضوا لوضع حدٍّ للتدخُّل الغربي في العالم العربي خلال 3 قرون من الاستعمار، داعين إلى إزالة الحدود التي وضعها الاستعمار بين البلدان العربيَّة، وصار شعار العروبة هو المحرِّك للجماهير العربيَّة. يستشهد أورين بما أورده يهوشع بورات في كتابه In Search of Arab Unity-بحثًا عن الوحدة العربيَّة (1986م) في قوله أنَّ بريطانيا استغلَّت انتشار الفكر القومي العروبي بين العرب في أعقاب ما عُرف باسم الثَّورة العربيَّة لعام 1936 م، والتي كانت انتفاضة تزعَّمها مفتي القُدس للحفاظ على الدِّيار الإسلاميَّة، بعد سقوط دولة الخلافة، في تأسيس جامعة الدُّول العربيَّة عام 1945 م.
اضطرت بريطانيا، التي أنهكتها الحرب العالميَّة الثَّانية (1939-1945م)، إلى تسليم ملف القضيَّة الصُّهيونيَّة إلى أمريكا، القوَّة العظمى الصَّاعدة حينها، خاصَّة بعد أن أصدرت الجمعيَّة العامَّة للأمم المتَّحدة قرارها رقم 181، الصَّادر في 29 نوفمبر من عام 1947 م، والذي نصَّ على تقسيم فلسطين إلى دولتين، عربيَّة ويهوديَّة، ممَّا يعني الاعتراف بدولة إسرائيل. أثار القرار غضبًا عربيًّا واسعًا، عبَّرت عنه هجمات الجماعات الفلسطينيَّة المسلَّحة في يوم 30 نوفمبر 1947، أي اليوم التَّالي لقرار التَّقسيم، التي استهدفت المستوطنات اليهوديَّة في فلسطين، وأغلقت الطُّرق بينها. يدَّعي المؤرِّخ اليهودي أنَّ موقف اليهود من ذلك الاعتداء كان ضبط النَّفس؛ خشية أن تعتبر الأمم المتَّحدة أنَّ التقسيم غير ممكن. لم يستمر سلوك ضبط النَّفس طويلًا، حيث شنَّ اليهود هجومًا كاسحًا على الفلسطينيين، يصوِّره أورين، الذي ادَّعى في مقدِّمة كتابه تناوُل الأحداث دون محاولة لإثبات أحقيَّة طرف دون الآخر، على أنَّه ردُّ فعل للاعتداء الفلسطيني السَّابق، مشيرًا إلى أنَّ ذلك أدَّى إلى هروب الآلاف من الفلسطينيين إلى الخارج. اعتقد الهاربون أنَّهم سرعان ما يعودون إلى وطنهم بعد التدخُّل العسكري العربي المرتقب حينها، ممَّا أغرى اليهود بعقد “هدنة مؤقَّتة” سرًّا مع عبد الله بن الحسين-ملك شرق الأردن-على أساس خوف الطَّرفين المشترك من القوميَّة الفلسطينيَّة. اعتمدت أمريكا، التي “لم يعجبها أبدًا الحُلم الصُّهيوني وعارضت التَّقسيم بشدَّة”، على حدِّ قول أورين، خطَّة للوصاية الدُّوليَّة على فلسطين، لكنَّ تلك المحاولة لم تفلح في احتواء الأزمة (ص5). ومع انتهاء الانتداب البريطاني في 14 مايو من عام 1948 م، أعلن اليهود دولة إسرائيل في اليوم التَّالي، 15 مايو 1948؛ فأصبح اليهود إسرائيليين، بينما صار عرف فلسطين فلسطينيين.
أسفر إعلان دولة إسرائيل في 15 مايو من عام 1948 م عن اجتماع الدُّول العربيَّة الخمس المجاورة لفلسطين على شنِّ هجوم على الصهاينة. قاد السُّوريُّون والعراقيُّون الهجوم، وتبعتهم قوَّات من شرق الأردن ولبنان، لتنضم مصر لاحقًا إلى الزَّحف المتسلِّح بآلاف القاذفات والطَّائرات المقاتلة والدَّبَّابات. وصلت القوَّات العربيَّة إلى صحراء النَّقب والجليل، ووقع يهود القُدس، البالغ عددهم حينها 100 ألف، في حصار “وحشي” (ص5). غير أنَّ دافيد بن غوريون لم يستسلم، واستغلَّ الهدنات بوساطة الأمم المتَّحدة في إعادة تنظيم قوَّاته. نجحت قوَّات الدِّفاع الإسرائيلي (IDF) في خريف عام 1948 في كسر الحصار، وقتال الفيلق العربي بريطاني القيادة، الذي هاجمها من شرق الأردن، وردع القوَّات السُّوريَّة التي اتَّجهت إلى شمال إسرائيل والعراقيَّة اتَّجهت إلى وسطها. نجحت القوَّات حديثة النَّشأة كذلك في دحر القوَّات المصريَّة وطردها بعد وصولها إلى مشارف تل أبيب والقُدس، بعد أن قاتلت حتَّى مطلع عام 1949 م. انتهت “حرب الاستقلال”، كما أطلق على اليهود على المعركة، وازدادت مساحة إسرائيل 30 بالمائة عمَّا خصَّصه لها قرار الأمم المتَّحدة. وبعد معركة نهائيَّة في مارس 1949، حصل اليهود على منطقة أم الرشراش الواقعة على البحر الأحمر، ليعيدوا تسميتها إلى إيلات.
غير أنَّ الانتصار لم يكن دون خسائر؛ فقد مات 6 آلاف يهودي-حوالي 1 بالمائة من المواطنين-وتعرَّضت عشرات القرى للقصف. ظلَّت البلدة القديمة في القُدس، التي تضمُّ بيان المسجد الأقصى وما يُطلق عليه اليهود “جبل الهيكل”، في أيدي الهاشميين. أطلق العرب على تأسيس دولة إسرائيل عام 1948 م النَّكبة، وإن لم يعترفوا بالهزيمة، على حدِّ قول أورين، بأن أبرزوا حيازة شرق الأردن للضفَّة الغربيَّة (أُسقط لفظ “شرق” عن اسم الأردن بعد أن لم تعد مقسَّمة بين ضفَّتي نهر الأردن)، واحتلال مصر لغزَّة. لم تثمر الحرب عن أبطال من قوَّات الجيوش العربيَّة، إنَّما عن قادة آلمتهم الهزيمة، وعلى رأسها المصري جمال عبد النَّاصر، الذي اعتزم على ردِّ الصَّفعة، ليس لليهود وحدهم، إنَّما للحُكَّام العرب الذين اعتبر عدم أهليَّتهم لتحمُّل المسؤوليَّة من أسباب الهزيمة.
لم يكن جميع الزُّعماء العرب حينها ضدَّ السَّلام مع إسرائيل، الذي فرضته هزيمة الجيوش العربيَّة في حرب عام 1948؛ فالرَّئيس السُّوري حسني الزَّعيم “عرض سرًّا أن يوطِّن 300 ألف لاجئ، ولكن في مقابل حصوله على السَّيطرة على نصف بحيرة طبريا”؛ أمَّا عبد الله بن الحسين، فأراد ممرًّا بين الأراضي التي حاز عليها حديثًا في الضفَّة الغربيَّة وبين البحر المتوسِّط؛ في حين طلب الملك فاروق، حاكم مصر المنحدر من سلالة محمَّد علي، كامل حيازة صحراء النَّقب، التي كانت تشكِّل 62 بالمائة من مساحة إسرائيل وقتها (ص7). واجه بن غوريون تلك العروض برفض أيِّ مساومة تقوم على تنازل أحادي الجانب عن الأراضي؛ ممَّا دفع الزُّعماء العرب إلى التخلِّي عن عروضهم، وفق ما جاء في كتاب The Road Not Taken: Early Arab-Israeli Negotiations-الطَّريق غير المطروقة: المفاوضات العربيَّة الإسرائيليَّة المبكِّرة (1991م) لإيتيمار رابينوفيتش. جدير بالإشارة أنَّ زعماء العرب الذين أرادوا التفاوض سرًّا مع إسرائيل فقدوا مواقعهم القياديَّة في غضون سنوات قليلة؛ فالملك فاروق خُلع من قِبل “زُمرة من أفراد الجيش أطلقوا على أنفسهم الضُّبَّاط الأحرار”؛ وحسني الزَّعيم أُطيح به وأُعدم بعد أشهر قليلة من فشل مفاوضاته مع الصَّهاينة؛ أمَّا عبد الله بن الحسين، فقُتل على أبواب المسجد الأقصى في يوليو من عام 1951 م؛ في حين قُتل الملك فيصل، حاكم العراق الهاشمي، وبرفقته رئيس وزرائه المُناوئ للصُّهيونيَّة، نوري السَّعيد (ص7).
لم يتغيَّر موقف الزَّعامات العربيَّة الجديدة من التفاوض مع إسرائيل؛ فالرَّئيس جمال عبد النَّاصر، الذي أطاح بمحمَّد نجيب، قائد حركة الضُّبَّاط الأحرار، عام 1954 م، ليتسلَّم قيادة البلاد ويتولَّى الحُكم رسميًّا عام 1956، عُرف عنه عداؤه المعلن لإسرائيل وتهديده بمحوها من الوجود. المفارقة المثيرة للدَّهشة أنَّ الاتحاد السُّوفييتي، الذي سارع بالاعتراف بالكيان الصُّهيوني عام 1948 م وأمدَّه بالسِّلاح خلال ما عُرف بحرب الاستقلال، “حوَّل ولاءه إلى الطَّرف الآخر” بدءً من عام 1954م. طبَّق الرَّئيس عبد النَّاصر، عسكري الخلفيَّة، الاشتراكيَّة في نظام حُكمه، وحرص على إبراز الهويَّة العروبيَّة لمصر، مسلِّطًا الضَّوء على القواسم المشتركة بين مصر وجيرانها العرب في سياساته وخطاباته الرَّسميَّة، ليصبح شعار القوميَّة العربيَّة البديل للرَّابط السَّابق للمسلمين، وهو لواء الخلافة الإسلاميَّة، التي أسقطها القائد العسكري كمال أتاتورك في مارس من عام 1924 م. لم يسلِّم عبد النَّاصر بهزيمة الجيوش العربيَّة في حرب عام 1948، انخرط، وفق ما يذكر أورين، في شنِّ “عمليَّات مسلَّحة”، مستمرًّا في العدوان على إسرائيل، على غير رغبة ملوك الأسرة الهاشميَّة في الأردن والعراق وحُكَّام الخليج، وعلى رأسهم آل سعود في المملكة العربيَّة السَّعوديَّة، الذين اتَّخذ منهم جميعًا موقفًا مناوئًا. يشير المؤرِّخ اليهودي إلى أنَّ دافيد بن غوريون اتَّخذ موقفًا حذرًا من عبد النَّاصر، الذي رآه زعيمًا شديد الجاذبيَّة، بإمكانه حشد الجماهير العربيَّة للانتفاض في وجه إسرائيل.
أراد بن غوريون شنَّ عمليَّة عسكريَّة ضدَّ مصر؛ لردع الجيش المصري من ناحية، وللنَّيل من هيبة عبد النَّاصر من ناحية أخرى. ويصف أورين صعوبة موقف بن غوريون ومعاونيه، موشيه دايان، قائد قوَّات الدِّفاع الإسرائيلي، وشمعون بيريز، مدير وزارة الدِّفاع، في إقناع القوى العظمى في معاونة إسرائيل في درء الخطر المصري بقيادة عبد النَّاصر؛ فالولايات المتَّحدة كانت ترفض المساعدة وإن كان رئيسها دوايت أيزنهاور (1953-1961م) من معارضي عبد النَّاصر، وبريطانيا كانت تهدِّد بقصف إسرائيل بسبب غاراتها على الأردن، والاتِّحاد السُّوفييتي كانت يناصر مصر النَّاصريَّة! غير أنَّ التحالف مع فرنسا كان ممكنًا، وشجَّعها على ذلك حربها على القوميَّة العربيَّة في الجزائر، التي كان عبد النَّاصر من أشدِّ مؤيِّدها. تراجعت بريطانيا عن رفض التحالف مع إسرائيل ضدَّ مصر بعد تأميم عبد النَّاصر قناة السُّويس في 26 يوليو من عام 1956 م، ليبدأ العدوان الثُّلاثي، البريطاني-الفرنسي-الإسرائيلي، والمعروف في إسرائيل بـ “حملة سيناء”، على مصر فجر يوم 29 أكتوبر 1956، ولتبدأ المواجهة العسكريَّة الثَّانية بين مصر والكيان الصُّهيوني في أقلِّ من 10 سنوات. كان اليهود يأملون الحصول على حريَّة الملاحة في خليج السُّويس والمرور من مضيق تيران.
تقدَّمت قوَّات موشيه دايان إلى غزَّة الواقعة تحت السَّيطرة المصريَّة، وزحفت إلى سيناء، وما كان من عبد الحكيم عامر، القائد العام للجيش المصري، إلَّا أن “أمر قوَّاته بالانسحاب” في ظلَّ إصابته بحالة من الذُّعر؛ ليتشتت الجيش المصري وتُحتل ثلاثة أرباع مساحة إقليم قناة السُّويس المطل على البحر الأحمر في مصر، على حدِّ وصف أورين (ص11). اضطرَّت القوَّات البريطانيَّة والفرنسيَّة للانسحاب، بدافع من التنديد الأمريكي والسُّوفييتي بالعدوان، لكنَّ القوَّات الإسرائيليَّة تشبَّثت بما أحرزته من انتصار، خاصَّة بعد سيطرتها على غزَّة وسيناء ومضيق تيران. لعب الدِّبلوماسي الإسرائيلي، أبا إيبان، سفير إسرائيل لدى الولايات المتَّحدة والأمم المتَّحدة حينها، دورًا بارزًا في الحصول على تأييد لحقِّ بلاده في الحفاظ على مصالحها. غير أنَّ جهود إيبان لم تكن لتُقارَن بجهود ليستر مايك بيرسون، وزير الخارجيَّة الكندي حينها، الذي نجح في إقناع الأطراف المعنيَّة بنشر قوَّات دوليَّة تراقب الانسحاب الأنجلو-فرنسي من مصر، لتباشر قوَّات الطوارئ التَّابعة للأمم المتَّحدة (UNEF) تنفيذ تلك المهمَّة. طرح بيرسون الفكرة ذاتها فيما يتعلَّق بانسحاب القوَّات الإسرائيليَّة من سيناء؛ فاقترح نشر قوات متعدِّدة الجنسيَّات من قوات الطوارئ التَّابعة للأمم المتَّحدة على طول الحدود المصريَّة-الإسرائيليَّة، وفي قطاع غزَّة، وفي شرم الشَّيخ المصريَّة المطلَّة على مضيق تيران. عارَض عبد النَّاصر ذلك الاقتراح، وكذلك عارضه بن غوريون؛ خشية أن يجلي الزَّعيم المصري القوَّات الأمميَّة وقتما أراد؛ غير أنَّ الاقتراح أُجيز، وأُجلي آخر جندي إسرائيلي عن سيناء في 11 مارس من عام 1957م.
(المصدر: رسالة بوست)