مقالاتمقالات مختارة

هذه الوسيلة هي الأهم لمواجهة الإلحاد

هذه الوسيلة هي الأهم لمواجهة الإلحاد

بقلم رمضان أحمد بريمة

أشرت في المدونة الماضية إلى انتشار ظاهرة الإلحاد في العالم العربي في فترة ما بعد الربيع العربي وشرحت الزواج السري الذي وقع بين الإلحاد المتدثر بالعلمانية وبين أنظمة الاستبداد التي سلمت الملحدين المنابر الرسمية. وكيف يمارس هذا الإلحاد أساليب التهجم على الدين ورموزه والسعي لتغيير المناهج لتقليص الجرعة الدينية بالإضافة إلى نشر التفسخ بدعوى أن التدين المتشدد حرم الناس من الاستمتاع بالحياة.

سنركز في هذه المدونة الثانية على الطريقة المثلى لمجابهة الإلحاد ودفع شروره عن المجتمع المسلم. وقبل أن نبدأ في ذلك لابد من التوضيح بأن هذه المدونة ليست معنية بمنع الناس من اعتناق الإلحاد أو أي فكر يرتضونه لأنفسهم بمحض إرادتهم وبقناعتهم الشخصية، لأن هذا ما يكفله لهم الإسلام بآيات صريحة ليست قابلة للتأويل “لا إكراه في الدين …” الاهتمام بمسألة الإلحاد نابع من كون الإلحاد أصبح يتمتع برعاية كاملة من الدولة العميقة لضرب قوى التغيير من ناحية، ولتشكيك أبناء المسلمين في دينهم ورموزهم الدينية ومصادر تشريعهم من ناحية أخرى، بالإضافة إلى السعي لتغيير المناهج بغية مسخ هوية المجتمع. الوضع المثالي لمحاربة الإلحاد، وكل الأفكار المتطرفة في المجتمع، هو أن تتولى المؤسسة الدينية مسؤوليتها بالكامل بعيداً عن وصاية السلطة السياسية.

ما أقصده هنا أنه على مدار التاريخ الإسلامي خاصة بعد نهاية الخلافة الراشدة وبروز أزمة شروعية السلطة السياسية، ظلت المسافة محفوظة بين الأخيرة وبين السلطة الدينية ممثلة في العلماء الأصوليين الذين ازدهر الفقه على أيديهم. وباستثناء حادثتي الخوارج وفتنة خلق القرآن التي دفع فيها الإمام أحمد ابن حنبل ثمناً باهظاً، ظلت السلطة الدينية بمنأى عن السلطة السياسية. ونتيجة لهذا التوازي خلا تراث الفقه الإسلامي – على الرغم من تناوله كافة المعاملات والعبادات والعقائد تناولاً تفصيلياً مملاً أحياناً – من التطرق للقضايا السياسة تماماً إيثاراً للسلامة وتحاشياً للاصطدام مع السلطة السياسية. ونظراً للاستقلالية المالية التي كانت تتمتع بها المؤسسة الدينية – إذ كانت تعتمد بصورة أساسية على الأوقاف – استطاعت أن تحمي الإسلام من الأفكار المنحرفة التي كثيراً ما تصدى لها العلماء وأماتوها في مهدها بالحجة والبرهان، بعيداً عن تدخل السلطة السياسية، سلباً أو إيجاباً. فقد نشأت أفكاره شاذة ومنحرفة وماتت ولم يبق منها إلا ذكرها في الكتب.

مقارعة الإلحاد بالحجة مسألة مهمة جداً، لأن الإلحاد هو في الأصل مبرر للتنصل عن المسؤوليات وليس فكراً رصيناً يستند إلى منطق وعقل

اليوم، وبعد قيام الدولة القُطرية – التي هي قُطرية مجازاً وليس فعلاً – تغولت السلطة السياسية على المؤسسة الدينية واستحوذت عليها تماماً وأصبحت تسيرها على هواها، ثم فتحت نافذة صغيرة أسمتها وزارة الشؤون الدينية والأوقاف أو هيئة العلماء أو الإفتاء ونحو ذلك من المسميات. مَن تختاره السلطة السياسية لتولي المناصب الدينية يكون من ذوي الولاء الذين يحسنون إخراج النصوص الدينية عن سياقاتها لشرعنة الاستبداد والتحكم بالباطل على رقاب العباد والانصياع لمراد المستبد. هؤلاء هم علماء السلطة السياسية الذين سهلوا على الأخيرة تمييع المناهج الدينية لإنتاج أجيال من المسلمين يرون المنكر في بروز شعر امرأة من داخل غطاء رأسها ولا يرون المنكر في تعري السلطة السياسية من كل قيمة أخلاقية أمر بها الدين! المسلم يبكي داخل المسجد من “خشية الله” وإذا خرج إلى السوق بكى منه الناس، من جشعه وخيانته الأمانة وخلفه الوعد واعتدائه على حق غيره! المؤسسة الدينية تعيش في الماضي وكأن الحاضر لا وجود له، فضلاً عن المستقبل! وكأن الإسلام جاء لفائدة الأقدمين!

إذن، المؤسسة الدينية بحاجة إلى الانعتاق من قبضة السلطة السياسية حتى تستطيع أن تؤدي دورها في التصدي للإلحاد وللأفكار المتطرفة والمنحرفة وما يسمى بالإرهاب. وهو أمر ممكن في حالة واحدة فقط: عندما تكون الدولة دولة قُطرية بحق وحقيقة. الدولة القطرية هي الدولة التي لها مشروع وطني، وبموجب هذا المشروع تنشأ شراكة بين المواطن والسلطة السياسية كمؤسسات وليس كأفراد، لأن الأفراد هم عبارة عن موظفين لدى المواطن ابتداءً من رأس الدولة مروراً بالوزراء إلى صغار الموظفين. وفي إطار هذا المشروع يأتي الكلام عن فصل السلطات وإحقاق الحقوق وإتاحة الحريات ونشر العدل. وهذه كلها مبادئ أطّر لها الإسلام.

وبالتالي، تكون المؤسسة الدينية جزءً من الدولة تؤدي دورها في إطار المشروع الوطني. فالعالِم ليس من تختاره السلطة السياسية وتفتح له المنابر لتصنع منه شخصية، وإنما العالم من شهدت له المجالس العلمية بعلمه. وهؤلاء هم العلماء الذين يجب أن يتصدوا بكل حرية لمختلف الأفكار الشاذة بالمدافعة عبر الحجة والبرهان، وهم اللذين تقع على عاتقهم مهمة التنوير في المجتمع. مقارعة الإلحاد بالحجة مسألة مهمة جداً، لأن الإلحاد كما أشار أحد الإخوان في المداخلات الخاصة بالمدونة السابقة هو في الأصل مبرر للتنصل عن المسؤوليات وليس فكراً رصيناً يستند إلى منطق وعقل. والعلماء المعنيين بمقارعة الإلحاد بالحجة ليس أولئك الواقفين خلف الخطوط الحمراء، لأن الإسلام ليس فيه خطوط حمراء في الأساس، والقرآن يروى نصاً ما كان يقوله الكفار وهم في أوج عدواتهم للإسلام في بداية نشأته. إذن، عندما تنعتق المؤسسة الدينية لتخدم أغراض الأمة المسلمة وليس مراد الاستبداد، حينها يكون العلماء ربانيين لا يخشون في الله لومة لائم ولا تحدهم خطوط حمراء في الدفاع عن الحق وإزهاق الباطل.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى