مقالاتمقالات المنتدى

هجرة أبو بكر الصديق الأولى وموقف ابن الضغنة منها

من بدايات المواقف العظيمة في دعم الرسالة المحمدية

هجرة أبو بكر الصديق الأولى وموقف ابن الضغنة منها

من بدايات المواقف العظيمة في دعم الرسالة المحمدية

 

بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)

 

قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ: لم أعقل أبويَّ قطُّ إلا وهما يدينان الدِّين، ولم يمرَّ علينا يوم إلاَّ يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النَّهار: بكرةً، وعشيَّةً، فلمّا ابتلي المسلمون؛ خرج أبو بكرٍ مهاجراً نحو أرض الحبشة حتّى برك الغماد، لقيه ابن الضغنة ـ وهو سيِّد القارةـ فقال: أين تريد يا أبا بكر ؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأريد أن أسيح في الأرض، وأعبد ربِّي، قال ابن الضغنة: فإنَّ مثلك يا أبا بكر! لا يَخْرُج، ولا يُخْرَج، إنَّك تكسب المعدوم، وتصل الرَّحم، وتحمل الكَلّ، وتَقْري الضيف، وتُعين على نوائب الحق. فأنا لك جارٌ، ارجع، واعبد ربك ببلدك. فرجع، وارتحل معه ابن الضغنة، فطاف ابن الضغنة عشية في أشراف قريش، فقال لهم: إنَّ أبا بكرٍ لا يَخرج مثله، ولا يُخرج، أتخرجون رجلاً يكسب المعدوم، ويصل الرَّحم، ويحمل الكلّ، ويقري الضيف، ويُعين على نوائب الحق؟ فلم تكذِّب قريش بجوار ابن الضغنة، وقالوا لابن الضغنة: مر أبا بكرٍ فليعبد ربه في داره، فليصلِّ فيها، وليقرأ ما شاء، ولا يؤذينا بذلك، ولا يستعلن به، فإنّا نخشى أن يفتن نساءنا، وأبناءنا. فقال ذلك ابن الضغنة لأبي بكر، فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في داره، ولا يستعلن بصلاته، ولا يقرأ في غير داره. ثمَّ بدا لأبي بكرٍ، فابتنى مسجداً بفناء داره، وكان يصلِّي فيه، ويقرأ القران، فتقذف عليه نساء المشركين، وأبناؤهم، وهم يعجبون منه، وينظرون إليه، وكان أبو بكرٍ رجلاً بكّاءً لا يملك عينه إذا قرأ القران، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الضغنة، فقدم عليهم فقالوا: إنّا كنا أجرنا أبا بكرٍ بجوارك على أن يعبد ربَّه في داره، فقد جاوز ذلك فابتنى مسجداً بفناء داره، فأعلن بالصَّلاة، والقراءة فيه، وإنّا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فانْهَهُ، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربَّه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن بذلك؛ فسله أن يردَّ إليك ذمَّته، فإنّا قد كرهنا أن نُخْفِركَ، ولسنا بمقرِّين لأبي بكرٍ الاستعلاء .

قالت عائشة: فأتى ابن الضغنة إلى أبي بكرٍ، فقال: قد علمت الذي عاقدت لك عليه، فإمّا أن تقتصر على ذلك، وإمّا أن تُرجع إليَّ ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أنِّي أخفرت في رجل عقدت له. فقال أبو بكرٍ: فإنِّي أردُّ إليك جوارك، وأرضى بجوار الله عزَّ وجل.

وحين خرج من جوار ابن الضغنة، يعني أبا بكر، لقيه سفيهٌ من سفهاء قريش، وهو عامد إلى الكعبة، فحثا على رأسه تراباً، فمرَّ بأبي بكر الوليد بن المغيرة ـ أو العاص بن وائل ـ فقال له أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ: ألا ترى ما يصنع هذا السَّفيه؟ فقال: أنت فعلت ذلك بنفسك، وهو يقول: أَي ربِّي ما أحلمك! أي ربِّي ما أحلمك! أي ربِّي ما أحلمك!، (ابن كثير، 1988، الجزء3، ص95) وفي هذه القصَّة دروسٌ وعبرٌ كثيرةٌ منها:

1ـ كان أبو بكرٍ في عزٍّ من قومه قبل بعثة محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فهاوه ابن الضغنة يقول له: مثلك يا أبا بكر لا يَخرج ولا يُخرج مثله، إنَّك تكسب المعدوم، وتصل الرَّحم، وتحمل الكلّ، وتقري الضيف، وتُعين على نوائب الحق، فأبو بكرٍ لم يدخل في دين الله طلباً لجاهٍ، أو سلطانٍ، وما دفعه إلى ذلك إلاَّ حبُّ اللهِ، ورسولِه صلى الله عليه وسلم، مِمَّا يترتَّب على ذلك من ابتلاءات؛ أي: أنَّه لم يكن له تطلُّعات سوى مرضاة الله تعالى، إنَّه يريد أن يفارق الأهل، والوطن، والعشيرة؛ ليعبد ربَّه، لأنَّه حيل بينه وبين ذلكَ في وطنه.(عبد العادي، 1986، ص 134)

2ـ إنَّ زاد الصِّدِّيق في دعوته القران الكريم، ولذلك اهتمَّ بحفظه، وفهمه، وفقهه، والعمل به، وأكسبه الاهتمام بالقران الكريم براعةً في تبليغ الدَّعوة، وروعةً في الأسلوب، وعمقاً في الأفكار، وتسلسلاً عقليّاً في عرض الموضوع الذي يدعو إليه، ومراعاةً لأحوال السَّامعين، وقوةً في البرهان، والدَّليل.(هاني، 1996، ص88)

لقد تربّى الصِّدِّيق على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحفظ كتاب الله تعالى، وعمل به في حياته، وتأمَّل فيه كثيراً، وكان لا يتحدَّث بغير علمٍ، فعندما سئل عن ايةٍ لا يعرفها أجاب بقوله: أيُّ أرضٍ تسعني، أو أيُّ سماءٍ تُظِلُّني إذا قلت في كتاب الله ما لم يُرد الله.(السيوطي، 1997، 117) ومن أقواله التي تدلُّ على تدبُّره، وتفكُّره في القران الكريم قوله: إنَّ الله ذكر أهل الجنَّة، فذكرهم بأحسن أعمالهم، وغفر لهم سيئتها، فيقول الرَّجل: أين أنا مِنْ هؤلاء؟! يعني: حسنها، فيقول قائلٌ: لست من هؤلاء؛ يعني: وهو منهم.(ابن تيمية، 1997،ج6، ص 212)

وكان يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما استشكل عليه بأدبٍ، وتقديرٍ، واحترامٍ، فلمّا نزل قوله تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا *} [النساء: 123] قال أبو بكر: يراسل الله! قد جاءت قاصمة الظَّهر، وأيُّنا لم يعمل سوءاً؟ فقال: «يا أبا بكر! ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك الألواء؟ فذلك ممّا تجزون به ».

وقد فسَّر الصِّدِّيق بعض الآيات مثل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ *} [فصلت: 30] قال فيها: فلم يلتفتوا عنه يمنةً ولا يسرةً، فلم يلتفتوا بقلوبهم إلى ما سواه، لا بالحبِّ، ولا بالخوف، ولا بالرَّجاء، ولا بالسؤال، ولا بالتوكُّل عليه، بل لا يحبُّون إلا الله، ولا يحبون معه أنداداً، ولا يحبُّون إلا إياه، لا لطلب منفعة، ولا لدفع مضرَّة، ولا يخافون غيره كائناً مَنْ كان، ولا يسألون غيره، ولا يتشرَّفون بقلوبهم إلى غيره،(ابن تيمية، 1997،ج28، ص 22) وغير ذلك من الآيات .

 

_____________________________________________________________

مراجع البحث

علي محمد الصلابي، الإنشراح ورفع الضيق في سيرة أبو بكر الصديق، شخصيته وعصره، دار ابن كثير، 1424ه-2003م صص44-47

أبو الفداء الحافظ بن كثير الدِّمشقي، البداية والنِّهاية، ، دار الرَّيَّان، القاهرة، الطَّبعة الأولى 1408هـ 1988م.

جلال الدِّين السُّيوطي، تاريخ الخلفاء عُني بتحقيقه إِبراهيم صالح، دار صادر، بيروت، الطَّبعة الأولى 1417هـ 1997م

تقي الدِّين أحمد بن تيميَّة الحَرَّاني، مجموعة الفتاوى، دار الوفاء، مكتبة العبيكان، الطَّبعة الأولى 1418هـ 1997م.

جمال عبد الهادي وآخرون، أخطاء يجب أن تُصحح في التَّاريخ، استخلاف أبي بكر الصِّدِّيق، دار الوفاء، المنصورة، الطَّبعة الأولى 1406هـ 1986م.

يسري محمَّد هاني، تاريخ الدَّعوة إِلى الإِسلام في عهد الخلفاء الرَّاشدين، الطَّبعة الأولى، جامعة أمِّ القرى، معهد البحوث العلميَّة، وإِحياء التراث.1418هـ-1996.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى