هارون الرشيد.. خليفة عادل أم رجل أغوته الشهوة والسلطة؟
بقلم محمد شعبان أيوب
لا يأتي الحديث عن العباسيين الأوائل إلا مقرونا باستدعاء مشاهد الصراع والدم، صراع بدأت ملامحه بالظهور منذ بدايات تأسيس الدولة على أنقاض الأمويين الذين سحقهم العباسيون وقضوا على نفوذهم، وهي المشاهد التي امتدت من الشرق في خُراسان وإيران، ثم العراق والشام، وانتهاء بقتل آخر خلفاء بني أمية مروان بن محمد في منطقة بوصير وسط مصر.
صراعٌ امتد كذلك أمام الطالبيين أبناء علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- الذين رأوا أنفسهم على الدوام الأحق بحِمْل الخلافة، وتقلّد أعبائها من الأمويين والعباسيين على السواء، ثم صراع داخلي تخلّص فيه العباسيون من أبرز رجالاتهم، من قامت الدولة على أكتافهم بالدم والعرق والجهد في سنوات الدعوة والثورة، مثل أبي سلمة الخلال وزيرهم الأشهر، وأبي مسلم الخراساني قائدهم العسكري الفذ، وأخيرا صالح بن علي العباسي عم أبي جعفر المنصور الذي رأى نفسه الأجدر بالخلافة من ابن أخيه الصغير، لكنه مُني بهزيمة ثقيلة تم التخلص منه على إثرها.
ولعل تلك الدماء التي سالت في بداية تأسيس الدولة، والأساطير التي بثّتها الدعاية العباسية تجاه الخلفاء الأوائل، قد لحقت بأولهم أبي العباس عبد الله بن محمد الهاشمي الملقّب بالسفّاح، ليأتي من بعده أخوه أبو جعفر المنصور الذي بنى مدينة بغداد، وتشكّلت ملامح الدولة في عصره، وليسير كذلك على السُّنة ذاتها بالقوة والشدة والبطش بالمخالفين، بُغية التأسيس والاستقرار. ولتبدأ ملامح الاستقرار والهدوء على يد المهدي محمد بن أبي جعفر المنصور الذي أنجب موسى الهادي وهارون الرشيد، أما الهادي فقد عُرف عنه غضبه وانفعاله وطيشه ومحاولته قتله أخاه هارون، لكنه سرعان ما توفي بعد عام واحد من تقلده الخلافة، ليخلو الطريق أمام هارون الرشيد، ومعه تدخل الدولة العباسية عصرا جديدا استمر زهاء عشرين سنة، حيكت حولها الكثير من القصص والأساطير.
ومما هو معروف أن الماضي كثيرا ما يُستدعى في الحاضر، إذ تعجّ المخيّلة الإسلامية بتصورات تختلف زوايا النظر إليها بحسب الغرض من الاستدعاء، وبحسب السردية التاريخية المُستقاة. في هذا السياق، كثيرا ما أثار هارون الرشيد جدلا حول شخصيته، فما بين نظرة تراه خليفة عادلا حقق الأمن، وأصلح شؤون الرعية، وبسط العدل، وأخاف أعداء الدولة. وبين نظرة أخرى تصفه في بعض الروايات والأخبار أنه زير نساء، محب للهو، مشغول بشهوته، منتقم من خصومه. إلا أنه وقبل الانتقال للحقبة التي حكمها هارون الرشيد، فإننا بحاجة إلى قراءة السياق السياسي والاجتماعي الذي سبق الفترة التي حكمها الرشيد، لفهم السياق الذي تطورت داخله شخصية الرشيد.
لعل من أشهر الأمور التي أُخذت على هارون الرشيد تمثّلت في مواجهته للعلويين في عصره، حتى وصمه خصومه من هذه المسألة بالشدة والقسوة، واتهموه بالطغيان، لكن للأمر بُعده التاريخي والسياسي في عصر الرشيد؛ ذلك أنه حين ارتقى هارون الرشيد بعد وفاة أخيه الهادي منصب الخلافة في شهر ربيع الأول عام 170هـ/سبتمبر/أيلول 786م كان في الخامسة والعشرين من عُمره، يرى أمامه مجموعة من التحديات الداخلية الكبيرة وعلى رأسها المعارضة العلوية الطالبية التي لم ترض في أغلبها بصعود بني أعمامهم العباسيين إلى عرش الخلافة وقد رأوا على الدوام أنهم الأحق بهذا المنصب منذ خروج الحسين بن علي -رضي الله عنه- واستشهاده في موقعة كربلاء زمن يزيد بن معاوية.
اتفق الطرفان فيما يبدو على مواجهة الأمويين، وكانت العلائق بينهما على ما يرام زمن الثورة التي رفعت شعار “الرضا من آل محمـد” في خراسان في الأعوام الأخيرة من عُمر الأمويين، وهو شعار براق خدّاع، جعل عموم الناس تنضم للواء الثورة ظنا منهم أن النهاية ستكون تتويجا لارتقاء آل البيت، ولعب العباسيون على هذا الوتر، ورأوا أنهم أولاد عم رسول الله فهم ليسوا بعيدين عن هذا الأمر، وعملوا بجد على عدة مستويات سياسية ودعائية وسرية وأخيرا عسكرية للقضاء على الأمويين وهو ما تحقق في نهاية المطاف.
بيد أنهما سرعان ما تباعدا في خلافة أبي العباس السفّاح الخليفة العباسي الأول (132-136هـ/750-754م) الذي أعلن من معقل الشيعة في الكوفة أن الخلافة عباسية، وستظل عباسية، وأنه ليس لأحد أي حق فيها إلا هم، في إشارة وتعريض بمنافسيهم من الطالبيين[1]. على أن هذه العلاقة التي اتسمت بالحذر في عصر السفاح دخلت في طور الصدام في خلافة أخيه أبي جعفر المنصور (136- 158هـ) فقد أعلن محمد بن عبد الله النفس الزكية وأخوه إبراهيم وهما من فرع الإمام الحسن بن علي -رضي الله عنه- الدعوة إلى نفسه من قبل مجيء العباسيين إلى الحكم، وصار لخطابه ودعايته تأثير وأتباع وشيعة في كلٍّ من الحجاز والعراق وخراسان، وأخيرا أعلن عن نفسه خليفة في المدينة المنورة في عام 145هـ/762م، وذهب أخوه إبراهيم إلى البصرة ليرفع راية الانتفاضة فيها[2].
تدخّل العباسيون بقوة مسلحة في المدينة، وانتهى الأمر بمقتل محمد بن عبد الله النفس الزكية ومصادرة أموال بني الحسن، وفي العراق انهزم إبراهيم أخو النفس الزكية ولقي حتفه في معركة وقعت بين الجانبين في منطقة باخمرا قرب الكوفة، وبدأت السياسة العباسية -منذ تلك اللحظة- تدخل مرحلة البطش بمنافسيهم العلويين الذين أعلنوا العصيان المسلح، لكن الأمور هدأت قليلا في عصر المهدي بن أبي جعفر المنصور.
وفي عصر موسى الهادي بن المهدي، وعلى قِصَر حُكمه، عادت الأمور إلى الاضطراب مرة أخرى، بسبب السياسة العنيفة التي اتبعها الهادي، الأمر الذي أجبر العلويين على إعلان العصيان والخروج المسلح ضد الهادي بزعامة كبيرهم الحسين بن علي في شهر ذي القعدة سنة 169هـ/786م، فاستولى على المدينة المنورة، واتخذ المسجد النبوي قاعدة له، وحاول استمالة مكة وأهلها، لكن لضعف قوته، لم يبايعه أحد، وسرعان ما جاء جيش الهادي العباسي ليقتله في منطقة “فخ” شمال مكة المكرمة[3].
جاء هارون الرشيد بسياسة جديدة، تقوم على التساهل والتسامح مع الطالبيين من أحفاد علي بن أبي طالب، ليعزل وفق هذه الإستراتيجية والي المدينة المنورة الذي عمل على اضطهادهم زمن أخيه الهادي، ورفع الحجر عمن كان منهم في بغداد. لكن، وبسبب معركة “فخ” التي حدثت في تلك الفترة، فقد هرب اثنان من كبار العلويين هما إدريس بن عبد الله العلوي، الذي استطاع أن يشكّل نواة الدولة الإدريسية في المغرب الأقصى، وأخوه إبراهيم الذي فر صوب المشرق في مناطق الديلم جنوب بحر قزوين وحاول إقامة دولة هو الآخر.
وأمام هذا “العصيان” من قِبل اثنين من كبار العلويين ومحاولاتهم تفتيت الدولة العباسية بإقامة دويلات مستقلة في المشرق والمغرب، قرر هارون المواجهة الشاملة استخباراتيا وعسكريا، وبالفعل استطاع أن يُسقط إبراهيم بن عبد الله العلوي في قبضته ويزج به في السجن، وحاول مرات كثيرة مع أخيه إدريس بن عبد الله لكنه فشل؛ إذ تحصّن إدريس العلوي بين قبائل البربر التي قدّمت له الدعم والتأييد، كما تحصّن في تعقيدات الجغرافيا؛ فقد كان المغرب الأقصى بعيدا عن يد القوة العباسية في بغداد.
ظهرت شخصية أخرى أثارت قلق هارون الرشيد، وكانت ذات زعامة وكاريزما، تمثّلت في الإمام موسى الكاظم بن جعفر الصادق، وقد التف الناس حوله، واعتقدوا في إمامته، بل وتشير بعض الروايات إلى أن هارون حين زار المدينة المنورة ووقف أمام قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أشار إليه: السلام عليكم يا ابن عم! فرد موسى الكاظم -وكان واقفا- قائلا: السلام عليكم يا أبتِ. الأمر الذي جر عليه غضب الرشيد الذي رأى أن الكاظم يحط من شأن هارون ونسبه مقارنة به؛ لذا أمر بالقبض عليه والزج به في سجن بغداد، وظل الكاظم في سجنه “غير مُضيّق عليه”[4] على حد تعبير العلامة الذهبي. وبالنظر إلى واقع الدولة في عصر الرشيد وحرصه على وحدتها، فإنه اضطر إلى مراقبة كبار الطالبيين والعلويين، ولم يسمح بكل طاقته بالعصيان أو بروز زعامات تنافس العباسيين؛ الأمر الذي يُحيلنا إلى أكبر نكبة حدثت في عصر هارون الرشيد، وهي نكبة البرامكة بسبب الخطر الشديد، وإحكام قبضتهم على الدولة العباسية!
تنتسبُ أسرة البرامكة إلى جدهم الأكبر برمَك أحد كبار الكهنة البوذيين في معبد النوبهار في مدينة بلخ في خراسان (شمال أفغانستان اليوم)، وقد دخلوا في الإسلام وحسن إسلامهم، وبرز منهم خالد بن برمك الذي عُرف بمقدرته الإدارية والمالية، ورجاحة عقله، وبُعد نظره، فلفت إليه أنظار المسؤولين العباسيين، فقلّده الخليفة العباسي الأول السفاح ديوان الخراج وديوان الجند، بل ولّاه منصبا أرقى، منصب الوزارة، ومن بعد وفاة السفاح اعتمد أبو جعفر المنصور على خالد بن برمك، ولمع اسمه في بناء مدينة بغداد، وجعله مستشارا سياسيا له، ثم في عهد الخليفة الثالث المهدي بن أبي جعفر المنصور ظل خالد البرمكي على مكانته السياسية المرموقة في دولاب الإدارة العباسية، ليعينه المهدي واليا على مقاطعة فارس في نهاية الأمر[5].
أنجب خالد بن برمك ولده يحيى الذي يُعتبر واسطة عقد البرامكة، ورأسهم المدبرة، وأكثرهم نفوذا في الإدارة والدولة العباسية، واستطاع يحيى بمساعد أولاده الفضل وجعفر أن يدير الدولة العباسية لمدة 17 عاما منذ عام 170هـ حتى سنة 187هـ، في الفترة الأهم والأطول من خلافة هارون الرشيد، فقد دان الرشيد ليحيى بن خالد البرمكي الذي وقف ضد أخيه الهادي حين حاول خلع الرشيد من ولاية العهد؛ لذا آثره هارونُ وقرّبه وفتح المجال أمام أبنائه ليكونوا اليد الطولى في الدولة بلا منافس ولا رقيب.
فأما الفضل بن يحيى البرمكي فقد تولى تربية الأمين بن هارون الرشيد، وتم تعيينه واليا على مشرق الدولة العباسية، وأما جعفر بن يحيى فقد اختص بمنادمة الرشيد، وكان مستشاره الأول في بغداد، فكان يُلازمه ليله ونهاره، ثم أشركه معه في ولاية المظالم، وجعله ناظرا على دار الضرب (سك العُملة) والطراز والبريد، بل أمر بكتابة اسمه على الدراهم والدنانير في بغداد وما حولها، بل راح الرشيد إلى أبعد من ذلك حين أسند إليه ولاية المغرب من الأنبار إلى أفريقية تونس، فأصبح أبناء البرامكة يتقلّدون أهم الولايات في الدولة شرقا وغربا، فضلا عن المالية والبريد والحجابة وغيرها، فأصبح الرشيد بينهم مُحاصرا على الحقيقة!
وهكذا استمر نفوذ البرامكة حتى وصل الحال إلى أن هارون كان “يحتاج إلى اليسير من المال فلا يقدر عليه”[6] في الوقت الذي كان البرامكة يسرفون في النفقات، بل استطاعوا تكبيله في بعض الأمور السياسية، هذا وقد لعبت رسائل الناقمين وأعداء البرامكة دورها في تحريض هارون ضدهم، فيأتي الطبري برسالة بعثها أحد فقهاء بغداد في ذلك الزمن يحذّر فيها الرشيد من البرامكة وأفعالهم وأنه سيُسأل يوم القيامة عن هؤلاء لأنه هو الذي أمّرهم ورفع مكانتهم، وأصبحوا اليد العليا في الدولة وفوق الرعية، بلا رقيب ولا حسيب، وقد أثّرت هذه الرسالة في الرشيد وبدأ يدقق فيما يقومون به، وينزع عنهم ثوب المكانة في قصوره وبين رجال حاشيته. ومما يقال أيضا في شأن نكبة البرامكة إن هارون الرشيد زوّج أخته العبّاسة بجعفر بن يحيى البرمكي لكن اشترط عليهما ألا يتماسّا، وذلك بغرض أن يؤنساه في جلساته وسهراته، ويكون الأمر شرعيا في ذات الوقت، لكنهما أخلّا الاتفاق وأنجبا توءما، فأصدر هارون قراره بحبس وقتل ومصادرة البرامكة بسبب هذا الأمر[7].
الأخطر من هذا أن البرامكة وهم من الفرس أصلا، كان أهل خراسان قد مالوا إليهم بكليتهم، وصاروا يعضدونهم ويرون فيهم النموذج الفارسي الذي تُدار من خلاله الدولة العباسية، وقد خشي هارون الرشيد أن تكون خراسان منطلقا للثورة ضده مع هذا التأييد الكبير للبرامكة الذين صاروا يعرفون كل صغيرة وكبيرة، ويتحكمون في كل شاردة وواردة في الدولة العباسية، وفي السياق ذاته هناك روايات تقول إن هارون أصدر قراره بقتلهم وسجنهم لأنهم أظهروا “الزندقة” وكراهية الإسلام، والميل إلى الفرس وعقائدهم القديمة. وفي ذلك يقول الأصمعي المعاصر لتلك الأحداث، وأحد كبار علماء اللغة والأدب الذين طالما جالسوا هارون الرشيد، يقول ذامًّا البرامكة، ومعرّضًا بدينهم وعقيدتهم[8]:
إذا ذُكِرَ الشِّرك في مجلسٍ … أنارت وُجُوه بني برْمَك
وإن تُليت عِنْدَهم سُورة … أَتوا بالأحاديثِ مِن بَرْمَكِ
تظهر صورة هارون الرشيد كأوضح ما يكون حين نتأمل في العلاقات بين الخلافة العباسية في زمنه وبين أكبر الأعداء الخارجيين ممثّلين في البيزنطيين؛ إذ لم يتوان هارون في مواجهتهم بجنوده وأموال الدولة، بل وبنفسه أحيانا حين كان يخرج على رأس الجيوش.
دأب الرشيد على المشاركة بنفسه في كثير من هذه الحملات، واستطاعت إحدى فِرق الجيش العباسي التي كان يقودها أن تصل إلى أنقرة (عاصمة تركيا اليوم)
وتعود العلاقات السيئة بين الجانبين إلى قديم، حين استطاع جيل الصحابة في عصر الفتوحات الإسلامية زمن الخلافة الراشدة أن ينتزعوا بلاد الشام ومصر وشمال أفريقيا من البيزنطيين، فاضطروا إلى التقهقر إلى داخل الهضبة الأناضولية في آسيا الصغرى، وظلوا منذ ذلك الحين أداة ضغط قوية من الشمال على الدولة الإسلامية، وطالما حاول الأمويون والعباسيون من بعدهم، خاصة في عصر قوتهم، أن يتوغلوا إلى عمق هذه الدولة، بل استطاعوا محاصرة القسطنطينية عدة مرات لم تنجح أيٌّ منها في إسقاط المدينة التي استعصت عليهم لقوة البيزنطيين، وتقنيتهم القتالية العالية التي تمثّلت في النار الإغريقية التي كانت تحرق سفن المسلمين ومقاتليهم.
في عصر هارون الرشيد نراه يتخذ إستراتيجية واضحة في مواجهة البيزنطيين، حيث قسّم مناطق الحدود بين الجانبين إلى قسمين أمامية وخلفية، ثم جعلها مناطق مستقلة إداريا عن الشام وبلاد شمال العراق والجزيرة الفراتية، ليسهل على القائمين عليها من قادة المسلمين حرية الحركة، وإدارتها بأفضل ما يرونه، وكانت الحدود بين الجانبين تبدأ من ملاطية في وسط الأناضول شمالا إلى عين زربة فيما بين الرها وحرّان في الجنوب التركي اليوم، وبعدما انتهى هارون الرشيد من إنجاز التحصينات والتدعيمات المطلوبة، بدأ في الهجمات السنوية التي اصطُلح على تسميتها بـ”الصوائف”[9] لكونها كانت تنطلق وتقع بين الجانبين في فصل الصيف.
دأب الرشيد على المشاركة بنفسه في كثير من هذه الحملات، واستطاعت إحدى فِرق الجيش العباسي التي كان يقودها أن تصل إلى أنقرة (عاصمة تركيا اليوم)، وبلغت بعضها عمقا أبعد حتى وصلت إلى ساحل بحر إيجه، واستطاع أن يضم عددا من أهم حصون البيزنطيين إلى الدولة العباسية مثل حصن الصفصاف سنة 181هـ/797م، وكان ذلك في عصر الإمبراطورة إيرين التي أعلنت عجزها التام عن مواجهة الخليفة الرشيد، فركنت إلى الصلح والهدنة على الشروط التي وضعها هارون، وعلى رأسها الإفراج عن الأسرى المسلمين، ودفع جزية سنوية مقدارها 90 ألف دينار ذهبي[10]!
على أن اعتلاء الإمبراطور نقفور فوكاس العرش خلفا لإيرين التي تم الانقلاب عليها لضعفها أمام العباسيين، والذي رأى نفسه الأليق عسكريا للثأر من الخليفة هارون، حيث أرسل فور اعتلائه العرش إلى بغداد متوعدا ورافضا الاستمرار في الهدنة بل وطالبا الأموال التي دفعها البيزنطيون من قبل على سبيل الجزية إلى العباسيين، وحين تسلم هارون الرشيد الخطاب، استشاط غضبا، وكتب رسالته الأشهر التي جاء فيها:
“بسم الله الرحمن الرحيم من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، قد قرأتُ كتابك يا بن الكافرة، والجواب ما تراه دون أن تسمعه والسلام[11]“.
خرج هارون على رأس الجيوش العباسية سنة 187هـ/803م، واستطاع التوغل في عمق ووسط بلاد الأناضول في منطقة كبادوكيا، فأعلن نقفور ضعفه وقبوله العودة إلى الصلح والشروط السابقة مع الاعتذار وعدم النقض، لكنه أعاد الكرّة مرة أخرى حين هاجم مناطق نفوذ المسلمين في الأناضول في المناطق القريبة من ملاطية وأضنة، واستولى على طرسوس ومرعش، مستغلا انشغال هارون بقمع بعض الحركات الثورية المسلحة في العراق وخراسان، لكن ما إن فرغ هارون من مهمته حتى عاد بجيش أضخم إلى الأناضول فاستطاع الاستيلاء على إقليم أنقرة وهرقلة وطوانة، وهاجمت القوات البحرية العباسية جزر البيزنطيين في البحر المتوسط مثل صقلية وكريت وأنزلت بها هزائم ثقيلة، وهنا أدرك نقفور للمرة الثانية مدى ضعفه وعجزه عن المواجهة وأرسل للمرة الثانية طالبا الصلح بأي ثمن!
وبالفعل قبل هارون الصلح لدخول فصل الشتاء على جيشه في بلاد الأناضول، وكانت شروطه هذه المرة قاسية بهدف تأديب نقفور، فقد ألزمه بدفع 300 ألف دينار ذهبي كل عام، وأمره بمنع إعادة بناء الحصون والقلاع التي هدمها الجيش العباسي في هجومه الأخير وعلى رأسها أنقرة والصفصاف ودبسة وهرقلة حارما قوات البيزنطيين التموقع في مناطق إستراتيجية بين الجانبين[12]، الأمر الذي التزمه الإمبراطور البيزنطي صاغرا لا يملك من أمره إلا التنفيذ رجاء رضا الخليفة هارون!
لم تخلُ مصادر من التراث الأدبي العربي من روايات وصفت هارون الرشيد بالخليفة اللاهي الغارق في شهواته، العاشق للسهرات، المحب للشراب والخمر، ولعل على رأسها كتاب “الأغاني” لمؤلفه أبي الفرج الأصفهاني الذي تناثرت في كتابه الضخم حكايات وقصص تكشف هذا الجانب من شخصية هارون الرشيد. من تلك القصص أن مُغنيا اسمه يحيى المكي طلبه هارون الرشيد، فحين دخل عليه أرسل إليّ هارون الرشيد، فدخلت إليه وهو جالس على كرسيّ بتلّ دارا (جنوب الأناضول اليوم)، فقال: يا يحيى، غنّني:
متى تَلتقِي الأُلّافُ والعِيسُ كُلّما … تصَعّدْنَ مِن وادٍ هَبطْنَ إلى وادٍ
فلم أزل أُغنّيه إيّاه ويتناولُ قدحا إلى أن أمسى (يغيب عن الوعي). فعددتُ عشر مرّات استعاد فيها الصوت، وشرب عشرة أقداح، ثم أمر لي بعشرة آلاف درهم، وأمرني بالانصراف[13].
وإذا كان كتاب “الأغاني” قديما قد جاء لنا بهذه الصورة لهارون الرشيد، فإن كتاب “ألف ليلة وليلة” حديثا لم يختلف عن ذلك، بل وذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، لكن ما يجب لفت الانتباه إليه أن هذه المؤلفات لا تثبت أمام النقد التاريخي الجاد؛ بل إن بعضها صرّح بأن هذه الروايات التاريخية إنما وُضعت للتسلية وكثير منها كذب مختلق، خصوصا إذا عرفنا أن كتاب “ألف ليلة وليلة” مترجم عن كتاب فارسي اسمه “الهزار أفسان” أي الألف خُرافة، ويؤكد شوقي أبو خليل أنه جاء في كتاب “مختار الأغاني” في الجزء الرابع ما يدعم ذلك؛ حيث أكّد أن “قسما من تاريخنا مصدره قليلو العلم أو رقيقو الدين الذين يُطلقون فيضا من الأكاذيب، ويختلقون ركاما من الافتراءات… ويمرّ الزمن فيختفي القائل، وتنطمس المعالم”[14].
على أن الثابت والصحيح من مجالس الرشيد أنها كانت إما مجالس لإدارة شؤون الدولة ورفع المظالم والنظر فيها، وإما مجالس يحضرها العلماء والشعراء ممن يُستفاد منهم في ذلك العصر، وتُعقد بينهم المناظرات التي كان الرشيد يستمتع بها، ويُقبل عليها بكليّته، وقد ثبت أن الإمام الشافعي ناظر عددا من الفقهاء في حضرة هارون الرشيد وتفوق عليهم، وقد أحبه هارون وقرّبه كما قرب الإمامين الكبيرين محمد بن الحسن الشيباني والإمام أبا يوسف تلميذي الإمام أبي حنيفة.
وكان الشافعي كثيرا ما يتردد على بعض مجالس الرشيد حين كان في بغداد قبل الانتقال إلى مصر، فقد أخبرنا الإمام والمؤرخ ابن الجوزي أن الشافعي دخل “يوما إلى بعض حجر هارون الرشيد استأذن له عَلَيْهِ فأقعده الخادم عند أبي عبد الصمد مؤدب أولاد الرشيد، قال لَهُ: يا أبا عبد الله، هؤلاء أولاد أمير المؤمنين وهذا مؤدّبهم (معلمهم)، فلو أوصيتَه، فأقبل على أبي عبد الصمد، فقال لَهُ: ليكن أول ما نبدأ به من إصلاح أولاد أمير المؤمنين إصلاحك نفسك، فإن أعينهم مغفورة بعينك، فالحسن عندهم ما تستحسنه، والقبيح عندهم ما تستقبحه، علمهم كتاب الله، ولا تكرههم عليه فيملوه، ولا تتركهم فيهجروه، ثم زدهم من الشعر أعفه/ ومن الحديث أشرفه، ولا تخرجنهم من علم إلى غيره حتى يتقنوه، فإن ازدحام الكلام في المسمع مصد للفهم”[15].
أما الإمام أبو يوسف تلميذ الإمام أبي حنيفة فقد قرّبه هارون الرشيد وعيّنه قاضيا للقضاة، وحرص على التقرب منه والاستفادة من علمه الواسع، وكان يطلب إليه كتابة عدد من المؤلفات الشرعية التي تزيل الغموض واللبس، وتساعد رجال الإدارة العباسية في أعمالهم، وقد امتثل أبو يوسف للرشيد حين ألّف كتابه الشهير “الخراج”، وبيّن في مقدمة كتابه هذا أنه كتبه امتثالا لأمر أمير المؤمنين هارون الرشيد.
تلك بعض من ملامح سيرة هارون وعصره، تلك الشخصية التي أجمع جل المؤرخين على أنه أعظم خلفاء بني العباس شأنا وذكاء وعبادة وقيادة، حتى قال فيه الطبري وابن العمراني وابن خلدون والعماد الحنبلي وغيرهم إن هارون “كان يصلّي في كلّ يوم مئة ركعة نافلة، وكان يغزو عاما ويحجّ عاما”[16]. وهو الخليفة الذي استطاع إخماد الثورات والمشكلات الداخلية التي كانت تهدد الدولة ووحدتها، وحرص على تعيين أمهر الرجال وأفضلهم في مواقعهم الإدارية والعسكرية، وواجه كل من حاول تقسيم الدولة بالخروج عليها كما فعل مع عدد من كبار العلويين، واشتهر عنه الورع والصبر على الطاعة، والعمل على راحة الرعية، حتى إنه توفي في طريقه أثناء ذهابه لقمع ثورة قامت ضده، وكانت السبب الأكبر في اختلال الأمن في منطقة خراسان فدُفن في طوس (مدينة مشهد الإيرانية اليوم) سنة 193هـ/808م، ومهما يكن من سيرته فإن شخصيته ستظل موضع نزاع بين مؤيديه ومعارضيه!
(المصدر: ميدان الجزيرة)