نيويورك تايمز: بناء مسجد في فرنسا بات مهمة شائكة وصعبة
نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” تقريرا أعده مراسلاها نوريمستو أونيشي وكونستانت ميهوت من مدينة أونجي في غرب فرنسا، قالا فيه إن بناء مسجد في العادة صعب وربما أصبح أصعب. وقالا إن مسلخا تصل فيه الحرارة إلى درجة الصفر ظل وطوال 21 عاما مسجدا مؤقتا للمسلمين في هذه البلدة. ففي جمعة سابقة تدفق المصلون فيه إلى الخارج، حيث نشروا سجاجيد الصلاة على الإسفلت في وقت استمعوا فيه لخطبة الإمام عبر مكبر صوت.
وتوقف البناء لمسجد دائم في الخريف الماضي عندما رفض مجلس المدينة وبالإجماع مقترحا تقدم به قادة المسلمين تسليم ملكية المسجد غير المكتمل إلى الحكومة المغربية مقابل إكماله. ولم يعد بمقدور المسلمين بالمنطقة والذين تبرعوا بـ2.8 مليون تقديم المزيد.
وتقول الصحيفة إن بناء مسجد في فرنسا عملية متعبة في الأوقات الجيدة، فالمسلمون عادة ما يكونون أفقر من بقية الفرنسيين، لكن البحث عن متبرعين من الخارج يثير العديد من مظاهر القلق – داخل وخارج المجتمعات المسلمة – التي أصبحت تحت رقابة شديدة من الرئيس إيمانويل ماكرون وقانونه الجديد ضد الإسلامية، والمتوقع أن يصادق عليه مجلس الشيوخ بشكل نهائي في الأسابيع المقبلة.
ويزيد من تعقيد الأمر للمسلمين في فرنسا العلمانية المعروفة بـ”اللائكية” التي أقامت جدارا صلبا بين الدولة والكنيسة. وفي الوقت الذي تقدم الحكومة نفسها بصفة المحايد تجاه كل الأديان إلا أن القانون جعل من الدولة أكبر مالك للكنيسة الكاثوليكية في فرنسا وحارس لها. ويحظر قانون 1905 أي تمويل لبناء أي مؤسسة دينية. ولكن القانون اعتبر كل المباني الدينية التي بنيت قبل تمرير القانون ملكا للدولة والتي تقوم بالحفاظ عليها وتسمح باستخدامها للخدمات الدينية.
ووجدت المجتمعات المسلمة في فرنسا اليوم العراقيل مكدسة أمامها. ويناقش نقاد النظام أن أموال دافعي الضرائب تدعم وبشكل فعال الدين المتلاشي، في وقت لا يستفيد من النظام أكثر الأديان سرعة انتشارا وهو الإسلام. ومع أن الإسلام لم يكن مهما في 1905 إلا أن انتشاره زاد وبشكل سريع منذ السبعينات من القرن الماضي، ووصل عدد المسلمين الآن إلى 6 ملايين نسمة أو حوالي 10% من السكان.
زاد انتشار الإسلام وبشكل سريع منذ السبعينات من القرن الماضي، ووصل عدد المسلمين في فرنسا الآن إلى 6 ملايين نسمة أو حوالي 10% من السكان
ومن بينهم نحو مليوني مسلم يلتزمون بمبادئ الدين ويمارسونه في حوالي 2.500 مسجد لا يحصل على دعم من المال العام وإن حصل فالدعم قليل. وبالمقارنة فالكاثوليك الذين يمارسون الشعائر المسيحية وعددهم 3.2 مليون يستخدمون 45 ألف كنيسة منها 40 ألف كنيسة تملكها الدولة وتحافظ عليها من أموال دافعي الضرائب، حسب تقرير حكومي. ولا يقتصر التباين على أماكن العبادة بل ويلمس كل مظاهر الحياة من المدارس والضريبة الدخل الشخصي من أجل التبرع والذي يفضل وبشكل كبير الكاثوليك وأصحاب الدخل المرتفع من دافعي الضرائب.
ولكن التباين يبدو وبشكل صارخ في البنايات، ففي الوقت الذي تعهد فيه ماكرون بتنشئة إسلام فرنسي، يعاني أتباع الدين من نقص حاد في المساجد لممارسة دينهم.
وقال إمام المصلى في أونجي، سعيد أيت – لاعمى “هذا تناقض واضح”. وعندما يعجز المسلمون عن تمويل بناء مساجدهم وبدون دعم من الحكومة يلجأون للخارج. وربما أصبح هذا صعبا في ظل قانون ماكرون والذي يهدف لمحاربة ما يطلق عليه “الإسلامية” وتشديد القواعد على العلمانية والسيطرة على المنظمات الإسلامية بما فيها الحد من التبرعات الأجنبية.
وقالت الحكومة في الأسبوع الماضي إن القانون سيسمح لها بالاعتراض على بناء مسجد كبير في ستراسبورغ، في شرق منطقة ألزاس والتي تحصل فيها المباني الدينية ولأسباب تاريخية على دعم من الحكومة. وضغط وزير الداخلية جيرار دارماني على الحكومة المحلية لإلغاء الدعم، قائلا إن الجمعية التي تقف وراء مسجد ستراسبورغ لها علاقات مع الحكومة التركية.
وحتى قبل القانون الحالي استخدم مجلس أونجي المحلي قوانين العقارات لمنع قادة المسجد من البحث عن دعم من المغرب. ويسمح بند في قانون ماكرون للحكومة الوطنية معارضة بيع مؤسسة دينية لحكومة أجنبية، حال اعتبرت السلطات الفرنسية عملية البيع تهديدا. ويرى ماكرون أن القانون مهم لمحاربة ذلك النوع من الأيديولوجية الراديكالية التي أدت لمقتل 250 فرنسيا في هجمات لتنظيم “الدولة” منذ عام 2015 ودفعت الشباب للقتال في سوريا. وفي الخريف الماضي، قتل أربعة أشخاص في أعمال إرهابية منفصلة، لكن نقاد القانون يرون أنه قد يخلط بين الإسلاميين والمسلمين الذين يقول قادة الكنيسة الكاثوليكية أنهم وضعوا في وضع غير جيد.
ويقول الأسقف اريك دي مولان بوفور، ورئيس مؤتمر الأساقفة في فرنسا وأهم مسؤول كاثوليكي فيها، إن قانون 1905 قاد لما أسماه “أثر الميراث” وميز أحيانا الكاثوليكية الفرنسية حتى في الوقت الذي حاولت فيه الحكومة إنشاء دولة محايدة تجاه الدين. وقال الأسقف مولان بوفور إن المسلمين الذين هاجروا من المستعمرات الفرنسية السابقة ولم يندمجوا كليا في المجتمع الفرنسي عانوا من “الظلم العظيم” و”لم نهتم كثيرا باحتياجاتهم الدينية”.
وبعد أكثر من قرن لا تزال الحكومة تمول صيانة نسبة 90% من مباني الكنائس الكاثوليكية، وحسب تقرير مجلس الشيوخ في عام 2015. وبالمقارنة فهي تملك وتحافظ على نسبة 12% من مباني البروتستانت و3% من المعابد اليهودية ولا مسجد. وفي مقابلة مع توماس بيكتي، الاقتصادي المعروف بأبحاثه عن عدم المساواة “هناك قدر كبير من النفاق الفرنسي في هذا الموضوع” و”نتظاهر بأننا جمهورية لا تدعم أي دين ولكننا في الحقيقة نمول تعمير البنايات الدينية التي أقيمت قبل قانون 1905 والتي كانت كاثوليكية”. ويقول الاقتصاديون، بمن فيهم بيكتي، إنه لا توجد أرقام حول مساهمة أموال دافع الضريبة الفرنسي في حماية المباني الدينية، ذلك أن صيانتها هي مسؤولية المجالس المحلية. ولم ترد وزارة الداخلية على عدد من المحاولات لطلب التعليق.
ورغم مسؤولية السلطات المحلية عن المباني التي أقيمت قبل قانون 1905 إلا أنها تستطيع استخدام صلاحياتها لصيانة المباني الأخرى. وفي أونجي، تخصص السلطات المحلية 770 ألف دولارا سنويا لصيانة المباني الدينية وتضم 10 كنائس كاثوليكية وكنيسة بروتستانية وكنيسا والمسلخ السابق الذي يستخدمه المسلمون ومنظمة أخرى. وحصلتا على حوالي 3.500 دولار من مجلس المدينة في العام الماضي، وذلك حسب قادة المسلمين الذين قالوا إن 1.500 مسلم يشاركون في صلاة الجمعة.
ورفض عمدة البلدة كريستوف بيشو مقابلة الصحيفة، ولم يقدم قادة الكنيسة الكاثوليكية معلومات عن عدد من يحضرون قداس الأحد. وقال بيكتي إن ضريبة الدخل على التبرعات وتمويل المدارس شبه الخاصة ومعظمها كاثوليكية تتم من المال العام، تضخ إلى المنظمات الكاثوليكية مالا أكثر. وبناء على القانون الجديد، وتعويضا عن السيطرة المالية المشددة، قالت الحكومة إنها ستسمح للمنظمات الدينية تأجير المباني التي حصلت عليها كهدية من إجل توليد الدخل. ولكن المسلمين هم الأقل استفادة كما يقول بكيتي. وقال “النظام غير المتساوي موجود وسيتم تعزيزه بطرق أخرى وعبر توريث البنايات التي تفضل الأديان التي يعتبر أفرادها من الموسرين”. أما المجتمعات المسلمة فتستطيع جمع التبرعات أو البحث عن دعم أجنبي لبناء المساجد وكلا الخيارين يمثل معوقات. وهذا يفسر سبب ترك أو تأخير الكثير من مشاريع بناء المساجد في أنحاء فرنسا، بسبب التمويل أو شبهة المال الأجنبي، بالإضافة لمقاومة المجتمعات غير المسلمة لمشروعات كهذه.
ساهمت الجزائر والمغرب بالإضافة إلى السعودية ببناء عدد من المساجد في فرنسا حسب تقرير مجلس الشيوخ عام 2016. وبسبب الهجمات الإرهابية التي تعرضت لها فرنسا، فقد أصبحت تشك بالدعم الأجنبي خاصة الأئمة الذين تدربوا في الخارج
وحاولت الجمعية الإسلامية لأونجي بناء مسجد قبل 40 عام، وفي السنوات الأولى تجمع المسلمون في مواقف السيارات والمباني الأرضية قبل أن توفر السلطات لهم المسلخ السابق. وتم البدء ببناء مركز عام 2014 كان سيستوعب 2.500 مصل حيث جمع المسلمون 2.8 مليون دولار. ولخوفها من عدم كفاية التبرعات لإكمال المسجد فكر قادة الجمعية منح المسجد غير المكتمل للحكومة المغربية، حليفة فرنسا. مع أن بعض أفراد الجالية اعترضوا على الفكرة لأن التبرعات التي وضعت في المشروع هي ملكية الجالية.
وساهمت الجزائر والمغرب بالإضافة إلى السعودية ببناء عدد من المساجد في فرنسا حسب تقرير مجلس الشيوخ عام 2016. وبسبب الهجمات الإرهابية التي تعرضت لها فرنسا، فقد أصبحت تشك بالدعم الأجنبي خاصة الأئمة الذين تدربوا في الخارج. وقال ناتالي غوليه من اتحاد الديمقراطيين والمستقلين التي ساهمت في كتابة تقرير 2016 إن على فرنسا فرض قيود مشددة على الأئمة الذين تدربوا في الخارج. ولا توجد أدلة عن أن المساجد التي بنتها السعودية أو المغرب أو الجزائر قادت لعمليات إرهابية. وقالت “لا توجد علاقة عرضية بين التمويل الأجنبي للمساجد والتمويل للإرهاب”. لكن قرار قادة المسلمين الطلب من المغرب جاء في وقت غير مناسب ووسط هجمات إرهابية. وصوت مجلس المدينة بالإجماع لمعارضة البيع، ولكن الرفض جاء بناء على قوانين العقارات وانه يهدف حسب عمدة المدينة “الحفاظ على الحيادية التي نريدها داخل أراضينا وللممارسة الهادئة للإسلام في فرنسا”. وقالت سيلفيا كامارا تومبيني، عضو المجلس المحلي الاشتراكية، إن المسلمين في وضع حرج، فهم لا يستطيعون جمع المال بأنفسهم من جهة، وتجعل الحكومة الأمر صعبا عليهم للبحث عن المال من أماكن أخرى من جهة أخرى. و”بناء على القانون، لا يوجد هناك طريق آخر”.