“نودع عالماً في أمة وأمة في عالم”.. القره داغي: القرضاوي عاش حقا لقضايا أمته ودافع عن دينه”
باسمي وباسم الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين وباسم أسرة شيخنا وقدوتنا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، نقدم العزاء إلى قطر الحبيب شعباً وأميراً وحكومة، وكذلك إلى العالم الإسلامي، وكل المسلمين، بل الإنسانية جمعاء، بهذا المصاب الجلل، وإن قلوبنا لمحزونة حقاً، ونفوسنا مكلومة صدقاً، وعيوننا لدامعة ساكبة، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، كيف لا وقد غابت عنا شمس من شموس الإسلام، وفقدنا مجدد القرن الخامس عشر الهجري، وإمام الوسطية والاعتدال، والعلامة الموسوعي العظيم، الذي جمع بين الفقه والدعوة والمقاصد، والحركة والتربية، روى البخاري ومسلم وغيرهما بسندهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبقِ عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جُهّالاً، وأفتَوْا بغير علم وضلوا وأضلوا).
قال ابن عباس في تفسير قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ۚ وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ۚ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) الرعد: 41.
قال ابن عباس: خراب الأرض بموت علمائها وفقهائها وأهل الخير منهم.
وقال الحسن البصري رحمه الله: موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء، وقد ذكر أن الإمام البخاري لما بلغه نعي شيخه الإمام الدارمي، بكي بكاء وفاضت الدموع على لحيته وأنشد قصيدة مطلعها :
عــــزاء فما يصنع الجــــــــــــــــازع *** ودمع الأسى أبداً ضـــــــــائع
بكى الناس من قبل أحبابهم *** فهل أحد منهم راجــــــــــــع
وأقول مستشهداً بما يسند إلى جدتنا الزهراء رضي الله عنها:
صبت عليّ مصائب لو أنها *** صبت على الأيام صرن لياليا
ولكن عزائنا في أن الموت في عقيدتنا الإسلامية والحمد لله، ليس نهاية المطاف، وإنما هو محطة من محطات الحياة، فالروح خالدة، وإن شاء الله نلتقي بروح شيخنا في الرؤى، ثم أملنا أن نلتقي به في ظل عرش الله تعالى يوم لا ظل إلا ظله، بفضل الله سبحانه، ثم في الفردوس بكرم الله مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم.
أيها الإخوة والأخوات تشرفت بصحبة شيخنا المجدد أربعين عاماً، فوجدته بالإضافة إلى إمامته بالعلم والدعوة، والتربية والحركة، وجدته صاحب خلق رضي وقلب نقي، هكذا أحسبه ولا أزكي أحداً، وجدته صاحب الخلق الكريم النقي، والقلب التقي، واللسان الطاهر العفيف الزكي، ما سمعت في مجلسه غيبة ولا نميمة، وأشهد (ولا أزكي على الله أحداً) وشهادتنا مقبولة بإذن الله، كما ورد في صحيح البخاري: وجبت.
أنه عاش للإسلام، للإسلام وحده، عاش لأجل جماله وكماله وعظمته وجلاله، وعاش لأجل صلاحيته لكل زمان ومكان، كان الإسلام لحمته وسداه، ومصبحه ومساه، ومبدأه ومنتهاه، عاش له جندياً مخلصاً، فسجن وأوذي، وعاش له قائداً ماهراً، وقدوة مباركة، عاش للإصلاح فكان مصلحاً عظيماً، عاش للنهوض بأمته، فأحبه الصالحون، وملك قلوبهم، عاش حقاً لقضايا أمته، لاسيما قضية فلسطين، كان عاشق فلسطين بكل ما تعني الكلمة، وكان فدائي الأقصى، وكان يتمنى أن يحرر الأقصى ونحن معه، ومع قادتنا المجاهدين، هذه كانت أمنيته، سمعتها منه مراراً وتكراراً، ووصانا بها، أن نسير على هذا الطريق.
أيها الإخوة الكرام نودع عالماً في أمة، وأمة في عالم،قال عن نفسه منذ سبعين سنة في قصيدته النونية :
فالنور في قلبي وقلبي في *** يدي ربي وربي ناصري ومعيني
سأعيش معتصماً بحبل عقيدتي *** وأمـــــــــــــوت مبتسماً ليحيــــا ديني
نشهد أنك عشت معتصماً بحبل عقيدتك، ما أثر فيك مال ولا جاه ولا سلطان ولا رأي الجماهير للعدول عن مبادئك ، أشهد أنك عشت معتصماً بحبل عقيدتك طوال عمرك المبارك، وبالأمس سلمت روحك المباركة إلى خالقها مبتسماً ليحيا دينك، نحن نعاهد الله جميعاً في الاتحاد وفي العلماء جميعاً أن نعيش لهذه القضايا التي عشت لأجلها، وهي خدمة الإسلام والمسلمين وكلنا أمل أن يخاطبك الله: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةَ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً* فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي) الفجر : 27- 30.
وكلنا نشهد إن شاء الله أنك من هؤلاء: (مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) الأحزاب 23
فسلام الله عليك يا شيخنا ، يا شيخ الوسطية والاعتدال، يا من نشرت منهاج الإسلام المعتدل وبينت، أن الإسلام هو الحل في حوالي مئتي كتاب.
سلام الله عليك يوم مت مبتسماً ليحيا دينك، وسلام الله عليك حين تبعث بفضل الله، وأملنا بالله أن تبعث مع الشهداء والصالحين.
اللهم إنا نتضرع إليك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى، وباسمك الأعظم ، الله لا إله إلا هو الحي القيوم العزيز الحكيم، وبكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تغفر لعبدك ومحبك الشيخ يوسف القرضاوي، وأن تتقبله في عبادك الصالحين الشهداء، وأن تجعل قبره روضة من رياض الجنة، وأن تحشره مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى، ونتضرع إلى الله أن يجمعنا به- نحن محبو الشيخ- في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، وندعو الله تعالى أن يبارك في أسرة الشيخ القرضاوي وان يعظم أجرهم ويلهمهم وجميع تلاميذه ومحبيه الصبر والسلوان والسير على خطى الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
* (كلمة الشيخ د. علي القره داغي عقب صلاة الجنازة على روح الفقيد الإمام يوسف القرضاوي)
الثلاثاء 1 ربيع الأول 1444هـ
الموافق: 27 سبتمبر 2022م
أ. د. علي محيي الدين القره داغي
الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين