نوال السعداوي: نموذج للنُّخب الفكريَّة من أرباب الماسون 1من 6
إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن
تكشف ‘‘وثيقة كيفونيم’’، الَّتي تعود إلى عام 1982م، وقد طرحها الصُّحافي الإسرائيلي، عوديد ينون، في مؤتمر للمنظَّمة الصُّهيونيَّة تحت عنوان “دائرة الإعلام الخاصَّة بالمنظَّمة الصُّهيونيَّة”، عن مخطَّط تقسيم العالم الإسلامي من أقصاه إلى أدناه. وتتضمَّن أركان المخطَّط إشاعة الانحلال الأخلاقي بين أبناء الأجيال الجديدة؛ ونشْر الأفكار المعادية للدّين، بالتَّشجيع على الإلحاد والهجوم على العقائد الدّينيَّة المتوارَثة؛ وإعداد كوادر من النُّخب الفكريَّة تؤمن بمبادئ الماسونيَّة وتروّج لها بعد تلميع تلك الكوادر وإتاحة الفرصة لوصول أفكارها للعامَّة. ويتَّفق ذلك مع ما ورد في كتاب Satan: Prince of this World (1966م)، أو الشَّيطان: أمير هذا العالم، للكاتب وضابط البحريَّة الكندي، وليام غاي كار، والَّذي لم يكمله ونُشرت الأجزاء الَّتي أنجزها منه بعد موته في ظروف غامضة بـ 7 سنوات. فقد قال غاي كار أنَّ أعضاء محافل عبادة الشَّيطان الماسونيَّة نقلوا عن إبليس تمرُّده على الله تعالى بأن رفَض السُّجود لآدم، بأن وضعوا مخطَّطهم لمحاربة الشَّرائع الإلهيَّة ونشْر الإلحاد والتَّجديف بالله تعالى بين النَّاس، سعيًا إلى إحكام السَّيطرة على العالم وتأسيس دولة عالميَّة يكون إبليس على رأسها. ومن بين تعاليم كنيس الشَّيطان الَّتي كشف عنه جون روبنسون في كتابه، Proofs of a Conspiracy against all the Religions and Governments of Europe (1798م)، أو دلائل على وجود مؤامرة ضد كل أديان وحكومات أوروبا، نقْض الشَّرائع السَّماويَّة لإرضاء إبليس بالتَّصرُّف بما يخالف شريعة الله؛ وإطلاق العنان للشَّهوات الحسيَّة والتَّشجيع على الانغماس في الرَّذائل، بادّعاء أنَّ الشَّهوة هي مصدر القوَّة الخلَّاقة؛ ومحاربة مفهوم تكوين الأُسر، بالتَّضييق على الرَّاغبين في الزَّواج، والتَّشجيع على إقامة العلاقات المحرَّمة، والدَّعوة إلى المساواة الكاملة بين الذُكور والإناث وعدم التَّمييز بين النَّوعين في المعاملات والتَّعيين في المناصب القياديَّة، وتقنين نسبة أبناء السّفاح إلى الأمَّهات، في حال إنكار الآباء لبنوَّتهم.
اشتهرت الكاتبة المصريَّة، نوال السَّعداوي (27 أكتوبر 1931-21 مارس 2021م)، وهي في الأصل طبيبة للأمراض الصَّدريَّة والنَّفسيَّة، بآرائها المعادية للإسلام، وبجهرها بأفكار تدعو صراحةً إلى الإلحاد وإعادة النَّظر في ثوابت الدّين، حتَّى أنَّها طالبت ذات مرَّة بتغيير نصوص بعينها في الكُتب المقدَّسة. تلقَّت السَّعداوي تعليمها في جامعة كولومبيا الأمريكيَّة في ستّينات القرن العشرين، وبدأت بعد عودتها إلى مصر في نشْر مؤلَّفاتها المثيرة للجدل، ولعلّ من أشهر مؤلَّفاتها في المرحلة المبكرة في حياتها الأدبيَّة كتاب المرأة والجنس (1972م)، الَّذي هاجمت فيه العنف الممارَس ضدَّ الإناث في مصر، بإصرار الأُسر المصريَّة، وبخاصَّة في الرّيف، على ختان الإناث وتمسُّك المجتمع بحفاظ الإناث على العذريَّة، وتعتبر ذلك من العادات البالية، حيث ترى أنَّ إقامة العلاقات الجسديَّة دون زواج ليس من صور ارتكاب الآثام والخطايا، بل هو من الحريَّات. وقد قالت الكاتبة ما يعني أنَّ أعزَّ ما تملك الأنثى ليس غشاء بكارتها، إنَّما هو إرادتها الحرَّة. أثار ذلك الكتاب جدلًا واسعًا في مصر عند نشْره لأوَّل مرَّة، ووصل الأمر إلى إقالة السَّعداوي من وظيفتها في وزارة الصّحَّة المصريَّة، ليفتح لها الغرب أوسع المجالات للعمل وإشاعة أفكارها المنافية للإسلام. فقد عُيّنت مستشارة للأمم المتَّحدة في برنامج المرأة في أفريقيا (ECA) والشَّرق الأوسط (ECWA)، ثمَّ سافرت إلى الولايات المتَّحدة عام 1988م للعمل في جامعة ديوك وقسم اللغات الأفريقيَّة في كارولاينا الشماليَّة، وكذلك في جامعة واشنطن، هربًا من السّجن بعد أن وُجّهت لها تهمة ازداء الأديان. وقد مُنحت داعية الإلحاد ونشْر الحريَّة الجنسيَّة أرفع المراكز في عدد من كبرى الجامعات الأمريكيَّة، على رأسها جامعة هارفرد، وجامعة ييل وجامعة كولومبيا، وجامعة جورج تاون، وجامعة ولاية فلوريدا، وجامعة كاليفورنيا؛ هذا إلى جانب جامعة السوربون الفرنسيَّة.
ومن نماذج هجوم نوال السَّعداوي على الدّين ودعوتها إلى إقصائه عن الحياة العامَّة ما صرَّحت به في حديث أجرته معها شبكة بي بي سي العربيَّة، نشرته في 26 نوفمبر 2009م، قالت فيه إنَّ مصر تشهد “ردَّة خطيرة”، كون المجتمع المصري يميل دائمًا إلى إبراز الهويَّة الدّينيَّة، ما جعله تصفه بأنَّه “يتنفَّس دينًا” وأنَّه “إسلامي رأسمالي طبقي إقطاعي”. دعت السَّعداوي إلى تغليب السّمة المدنيَّة على الدَّولة المصريَّة، غير مكتفية بفصل الدّين عن الدَّولة، بل عن “الدَّولة والقانون والدُّستور والثَّقافة وقانون الزواج”. وكانت شبكة بي بي سي العربيَّة قد أجرت ذلك الحديث مع الكاتبة المصريَّة بعد عودتها إلى مصر من الولايات المتَّحدة، الَّتي لجأت إليها من جديد هربًا من الملاحقة القانونيَّة، بعد نشرها مسرحيَّة تحت عنوان الإله يقدّم استقالته في اجتماع القمَّة عام 2006م، حيث رفَع الأزهر الشَّريف دعوى قانونيَّة للمطالبة بحبسها بتهمة الردَّة والزَّندقة؛ لما تتضمَّنه المسرحيَّة من طعْن وإساءة للذَّات الإلهيَّة وللأنبياء. غير أنَّ القضيَّة حُسمت لصالحها في مايو 2008م. عادت السَّعداوي إلى مصر في العام التَّالي، لتواصل مسيرتها الأدبيَّة، وتعود للظُّهور في وسائل الإعلام، ووصلت جرأتها إلى المطالبة بتغيير نصوص القرآن الكريم، إذا ما تعارضت مع المصلحة العامَّة. فقد صرَّحت السَّعداوي في حوار مع برنامج ‘‘بلا قيود’’ على قناة بي بي سي البريطانيَّة، مطلع يوليو 2018م، بأنَّها درست مقارنة الأديان 10 سنوات، كما درست البوذيَّة والهندوسيَّة لمَّا سافرت إلى الهند خصّيصًا من أجل ذلك، معتبرةً أنَّ كافَّة الأديان تتَّسم بالطَّبقيَّة والعنصريَّة والذُكوريَّة، وأنَّها تقوم جميعها على “خداع النَّاس”. تضيف الكاتبة أنَّ جوهر الدّين، وهو العدل والصّدق والمساواة، يغيب عن الكُتب السَّماويَّة، وتعرّف “تجديد الخطاب الدّيني” بأنَّه “تغيير للنُّصوص”. ومن المفارقات أنَّ السَّعداوي قد انضمَّت في إلى جماعة الإخوان المسلمين خلال دراسة بكليَّة الطّب بجامعة القاهرة، كما يذكر زميل دراستها، د. محمود جامع، في كتابه وعرفتُ الإخوان (صـ130)، الَّذي يؤكّد أنَّ داعية الإلحاد ارتدت الحجاب وأنشأت مسجدًا للفتيات وكانت تدعوهنَّ إلى ارتداء الحجاب. غير أنَّ اعتناقها للفكر الشُّيوعي غيَّر مسارها الفكري وأوصلها إلى الطَّعن في الإسلام.
كما سبق الإيضاح، يؤكّد د. بهاء الأمير في كتابه أوَّل الآتين من الخلف (2020م) على أنَّ إرسال البعثات العلميَّة في عهد محمَّد عليّ كان بدفع من الماسوني الفرنسي، برناردينو دروفيتي، بهدف تكوين جيل جديد من معتنقي الفكر الماسوني يدعم مخطَّط تغييب الوعي الإسلامي وتنفيذ أهداف الماسون في دار الإسلام. وفي كتابه التَّفسير القبَّالي للقرآن (2015م)، يعتبر الأمير نوال السَّعداوي من بين الكوادر الأدبيَّة الَّتي شاع تزعُّمها للحركة الفكريَّة “منذ وطئ اليهود والماسون بلاد العرب في غلاف الغرب”، وأنَّ هذه الكاتبة ومَن على شاكلتها ليسوا أكثر من “تروس صغيرة في آلة هائلة لتوليد الضَّلالات، وفلسفتها، وصناعة الأغلفة لها، وترويجها ونقْلها بين الأمم والشُّعوب” (صـ7-8). يصف الأمير في الكتاب ذاته السَّعداوي بـ القبَّاليَّة بالتَّقليد والمحاكاة”، على اعتبار أنَّها اعتنقت فكر القبالاه، أو التُّراث الباطني اليهودي، وبدأت تروّج لها في مؤلَّفاتها (صـ371). يتَّضح ذلك في كتابها الأنثى هي الأصل (1990م)، من العنوان ذاته قبل المحتوى، حيث يتبلور اعتناق السَّعداوي لاعتقاد القبالاه في الذَّات الإلهيَّة، بأنَّها تجمع بين الذُّكورة والأنوثة، ولكن تتميَّز صفات الأنوثة بأنَّها أساس الاتّزان والرُّشد واللين.
ويمثّل الذَّات الإلهيَّة في القبالاه شجرة، تُسمَّى شجرة الحياة أو سفيروت، تتكوَّن من 10 كرات مضيئة، ترمز كلُّ كرة منها إلى صفة إلهيَّة. وكما يوضح دون بريني في كتابه Kabbalah: Secrets of the Jewish mysticism cult (2008م)، أو القبالاه: أسرار العقيدة الباطنيَّة اليهوديَّة، فالجانب الأيمن من الشَّجرة يمثّل الأنثى، أو الشّخيناه، أي السَّكينة والطَّمأنينة؛ ولأنَّ الإنسان الأوَّل، أو آدم قدمون، أو آدم السَّماوي، كان مقترنًا بالإله ومتَّحدًا به قبل سقوطه إلى الأرض، كانت صفات الذُّكورة والأنوثة تجتمع في الإنسان، لكنَّ الصّفات افترقت بعد افتراق الإنسان عن الإله. فقد حدث خلل كوني بعد نزول الإنسان إلى الأرض، بأن انفصلت الشّخيناه عن الإله، ولن ينصلح الخلل إلَّا بتساوي صفات الذُّكورة والأنوثة في الإنسان، الَّذي لا بدَّ وأن يتبعه مساواة بين الرَّجل والمرأة في المجتمع. ونتيجة لتأسيس مجتمع العدالة على الأرض، تعود الشخيناه للاقتران بالإله، ولكن ليس إلَّا بعد عودة بني إسرائيل إلى الأرض المقدَّسة باعتبارها عاصمة مملكة العدالة العالميَّة. ويتطرَّق الأمير في كتابه شفرة سورة الإسراء: بنو إسرائيل والحركات السّريَّة في القرآن الكريم (2015م) إلى تناوُل نوال السَّعداوي المتكرّر لفرية عنصريَّة الأديان ضدَّ المرأة، على أساس أنَّ قصَّة الخلق تتَّهم المرأة بأنّها سبب إغواء آدم بأن حرَّضته على الأكل من الشَّجرة المحرَّمة. غير أنَّ أصل تلك الفرية، كما يوضح الأمير هو أنَّ “الجرثومة البني إسرائيليَّة بالت في أنَّ الإله تجنَّى على الأنثى ونسب الشَّرَّ لها وليس للذَّكر” (صـ90). فقد بنت السَّعداوي افتراضها على أساس ما ورد في العهد القديم عن قصَّة الخلق، حيث تأكل المرأة أوَّلًا من الشَّجرة المحرَّمة، ثمَّ تشجّع الذَّكر على ذلك: “فَرَأَتِ الْمَرْأَةُ أَنَّ الشَّجَرَةَ جَيِّدَةٌ لِلأَكْلِ، وَأَنَّهَا بَهِجَةٌ لِلْعُيُونِ، وَأَنَّ الشَّجَرَةَ شَهِيَّةٌ لِلنَّظَرِ. فَأَخَذَتْ مِنْ ثَمَرِهَا وَأَكَلَتْ، وَأَعْطَتْ رَجُلَهَا أَيْضًا مَعَهَا فَأَكَلَ” (سفر التَّكوين: إصحاح 3، آية 6). أمَّا الرُّواية القرآنيَّة، فهي توضح اشتراك الذَّكر والأنثى في المعصية، مصداقًا لقول الله تعالى﴿ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ﴾[سورة البقرة: 36[. غير أنَّ السَّعداوي أصرَّت على ظلم الدّين للمرأة، ووصل الأمر إلى تأليف رواية تحت عنوان براءة إبليس (1994م) أشاعت فيها أنَّ قهر المرأة نابع من التَّعاليم الدّينيَّة، وليس من إغواء إبليس!
8.1.تحليل لرواية ‘‘زينة’’ في ضوء الانتماء الفكري للسَّعداوي
أصدرت نوال السَّعداوي عام 2009م رواية تحت عنوان زينة، تحمل اسم الشَّخصيَّة الرَّئيسة في الأحداث، وهي فتاة لقيطة تخلَّت عنها أمُّها الحقيقيَّة، وتُدعى بدور، الَّتي حملتها سفاحًا من شابّ، يُدعى نسيم، ارتبطت به عاطفيًّا دون علم أبيها، لواء الجيش أحمد الدَّامهيري الَّذي كان شارك في حركة الضُّبَّاط الأحرار عام 1952م، ثمَّ أصبح أمينًا عامًّا لمؤسَّسة الثَّقافة الجديدة. تعثر امرأة تُدعى زينات، الخادمة في بيت الدَّامهيري ووالدة نسيم، على الطَّفلة وتسمّيها زينة، دون أن تعلم أنَّها حفيدتها، بينما تتزوَّج بدور من صحافي، يُدعى زكريَّا الخرتيتي، وتنجب ابنة تسمّيها مجيدة. تتحدَّى السَّعداوي من خلال الأحداث كافَّة القيم الدّينيَّة والاجتماعيَّة المتوارَثة بشأن ستر المرأة وحفاظها على عفَّتها، وضرورة وجود نسب لكلّ إنسان يعرّف النَّاس بأصله، بأن تناولت مجتمعًا قائمًا النّفاق لا ينعم فيه بالاحترام إلَّا أصحاب النُّفوذ، وإن كانوا من المستبدّين مستغلّي النُّفوذ. وبالطَّبع، لم تسلم المؤسَّسة الدّينيَّة من سهام الكاتبة، الَّتي تعمَّدت إظهار تواطؤ رجال الدّين، من الجماعات السَّلفيَّة، مع السُّلطة الرَّسميَّة لنشر أفكار دينيَّة مغلوطة تخدم مصالح المستبدّين. وبرغم كافَّة القيود الدّينيَّة والاجتماعيَّة، تنجح زينة في الوصول إلى مكانة اجتماعيَّة متميّزة، بدون دراسة جامعيَّة أو اسم عائلة تنتسب إليها؛ لتكون ابنة الزّنى نموذجًا إيجابيًّا للنَّجاح في التَّأثير على المجتمع يتناقض مع نموذج مجيدة، أختها من أمّها الَّتي تتباهى بانتسابها لعائلة كبيرة فقط لأنَّ الأمَّ ذاتها أنجبتها من علاقة زواج من رجل انتهازي تكرهه وتسببت خلافاتها معه في إصابة مجيدة باضطرابات نفسيَّة. وكأنَّما رسالة السَّعداوي هي أنَّ الشَّخص السَّوي الإيجابي يكون ثمرة علاقة عاطفيَّة، وإن كانت دون ارتباط شرعي. ومقتطفات الرُّواية المشار إليها في هذا القسم من النُّسخة الصَّادرة عن مؤسَّسة هنداوي سي آي سي لعام 2019م.
تحدٍ صارخ للأعراف الدّينيَّة والاجتماعيَّة بشأن الزَّواج والنَّسب
تهدي نوال السَّعداوي الرُّواية إلى أبناء الشَّوارع، الَّذين ينشؤون “دون مدرسة ولا كنيسة ولا جامع…ثمَّ يعيشون ويكبرون ويصبحون كواكب تقشع الظَّلام، تملأ الأرض بالضَّوء، وتغيّر العالم”، وكأنَّما تشير ضمنيًّا إلى أنَّ الرّعاية الأسريَّة في مجتمع ذكوري عنصري، والرّقابة الدّينيَّة في مؤسَّسات تكرّس الخضوع للاستبداد وتغفل عن غرْس قيم العدالة والمساواة، مسؤولان عن سلبيَّة أفراد المجتمع وعجزهم عن التَّغيير. تقوم مجيدة الخرتيتي، ابنة زكريَّا وبدور، بدور الرَّاوي، وتبدأ الأحداث على لسانها، وهي تسترجع أيَّام الطُّفولة، وقتئذ كانت تزامل ‘‘زينة بنت زينات’’ في الصَّفّ، دون أن تعرف أنَّها أختها من الأم. لاحظت مجيدة وجود تشابُه في الشّكل بينها وبين زينة، لكنَّ الأخيرة تميَّزت عنها وعن كافَّة الفتيات فيما يلي (صـ15):
كانت تبدو أكبر مني في العمر، كأنما جاءت إلى الدنيا قبلي بمائة عام، كأنَّما ليس لها عُمر، ليس لها أب ولا أم، ليس لها بيت ولا غرفة نوم، ليس لها شرف أو عذرية تخاف على ضياعها، ليس لها شيءٌ تملكه أو تفقده في الدُّنيا أو في الآخرة.
وإمعانًا في الاستهزاء بالعرف المتَّبع بنسبة الأبناء إلى عائلاتهم، تتعمَّد السَّعداوي إظهار نفاق المعلّم وهو يطلب من كلّ طالبة كتابة اسمها ولقبها على السَّبُّورة، ويختصُّ مجيدة بالثَّناء، متنبّئًا لها بمستقبل واعد مثل أبيها، ومثنيًا على أصل عائلتها، الَّتي خرج منها عظماء، مثل سعد زغلول وأحمد عرابي، وتمتدُّ إلى مكَّة المكرَّمة والنَّبي مُحمَّد(ﷺ) ذاته. في حين لا تجد زينة أصلًا لها سوى أن تكتب “زينة بنت زينات”، ليضربها المعلّم “فوق ردفها من الخلف”، ويسبَّها (صـ16). عُرفت زينة بعدها باسم “زينة بنت زنات”، بتحوير اسم أمّها بالتَّبنّي إلى جمع زنى، لكنَّها لم تأبه؛ لأنَّها لم تكن تأتي إلى المدرسة إلَّا لحضور حصص الموسيقى، “مع أبلة مريم”، حتَّى فُصلت من المدرسة (صـ16). ونلاحظ اختيار السَّعداوي لاسم المعلّمة الوحيدة الَّتي كانت زينة ترتاح إليها وتتلقَّى منها العلم ليكون اسم العذراء أمّ المسيح. تنتقل الأحداث إلى منزل بدور، أستاذ النَّقد الأدبي بالجامعة والأديبة المرموقة، وزوجها الصُّحافي الانتهازي، زكريَّا، حيث تعيش مجيدة حياة قاسية، في ظلّ الخلاف الدّائم بين والديهما وشجارهما المتكرّر. وتستغلُّ السَّعداوي ذلك السّياق في الإشارة إلى انتشار الاغتصاب في المجتمع بكثير من المبالغة، مدَّعيةً وقوع الاغتصاب في الشَّوارع، ومعزيةً الأسباب إلى الفقر والبطالة (صـ18):
كان أبي يحذِّرني من الخروج إلى الشارع، كان يقول لي: إن بنات العائلات الكريمة لا يلعبن مع الأطفال في الشَّارع. إن جرائم الاغتصاب خطيرة، تنشر الصحف عن هذه الحوادث كل يوم، تتزايد الجرائم مع تزايُد الفقر والبطالة، شباب يتخرجون من الجامعات دون عمل من دون أمل في الحصول على الطَّعام. فما بال الحصول على زوجة؟! يعيشون الحرمان ويغتصبون البنات في الشَّوارع.
توجّه السَّعداوي سهامها صوب مؤسَّسة الزَّواج الشَّرعي، الَّتي تفرضها القيود الدّينيَّة والاجتماعيَّة، بإظهار معاناة بدور، برغم مكانتها الاجتماعيَّة الكبيرة، من العنف الزَّوجي، بتعرَّضها للاعتداء البدني على يد أب ابنتها. مع ذلك، يتعمَّد الزَّوجان ادّعاء السَّعادة وهما “يتحدثان في الصُّحف والإذاعات عن زواجهما السعيد، عن علاقتهما النَّادرة القائمة على الحب والثَّقافة الرَّفيعة” (صـ19). تصاب مجيدة بالاكتئاب نتيجة فقدان الدّفء الأسري، وتلجأ إلى طبيب نفسي، لكنَّه ذكَّرها بازدواجيَّة أبيها وعجز عن علاجها. وتنتقل بؤرة التَّركيز إلى الأم، بدور، الَّتي تعود بها الذَّاكرة إلى طفولتها، وقتئذ رُبّيت على العقائد الدّينية المتوارَثة، وهي وجود الله والملائكة واليوم الآخر والحساب وإبليس. تدور تساؤلات في عقل الطَّفلة بدور، تقصد منها السَّعداوي التَّشكيك في صحَّة العقائد الدّينيَّة، وتبرئة إبليس من إغواء البشر، وكذلك تبرئة الشُّيوعيَّة المعادية للدّين من تهمة الإضلال: “لماذا إبليس الشَّيطان يقف دائما عن يسار المؤمنين أثناء الصَّلاة يحرضهم ضد الله، وأنَّ الشُّيوعيين الكفرة من أهل اليسار؟” (صـ21). تعتنق بدور الفكر الشُّيوعي بتأثير من زميل دراستها، نسيم، وتبدأ في الخروج معه في المظاهرات للمطالبة بالحريَّة وإسقاط الملكيَّة، لتتطوَّر علاقتهما ويحدث اتّصال جسدي يستوجب الزَّواج لستر الفضيحة بعد أن حملت في طفل. والمفارقة أنَّ الوالد الَّذي تخشاه ابنته لدرجة إلقاء ابنتها في الشَّارع لتربّيها الخادمة هو ذاته مولع بممارسة الفاحشة مع الذُّكور، حيث تضبطه ابنته وهو يجامع طفلًا أعرج في بيتهم (صـ83).
تثير نوال السَّعداوي مسألة هامَّة تتعلَّق بالنّطاق الشَّرعي للزَّواج في الإسلام، والَّذي يشترط أن يكون زوج المسلمة مسلمٌ، وإن صحَّ زواج المسلم من الكتابيَّة، بالإشارة إلى قصَّة مريم، مدرّسة الموسيقى في مدرسة زينة ومجيدة، الَّتي وُلدت لأب مسيحي، يدعى ميخائيل، وأمّ مسلمة، اسمها فاطمة. ارتبط ميخائيل بفاطمة بعد أن هربا من أسرتيهما، “دون ورقة رسميَّة، لم يكن الشَّرع ولا القانون يبيحان المسلمة أن تتزوج من رجل غير مسلم” (صـ42). غير أنَّ ارتباط الاثنين لم يستمر طويلًا؛ فقد قُتلت فاطمة على يد أبيها الصَّعيدي، بينما هاجر ميخائيل إلى الخارج، في إشارة ضمنيَّة إلى التَّهديد الَّذي يواجه الأقليَّات غير المسلمة في مصر. ظلَّت مريم تبحث عن زينة بعد أن تركت المدرسة، وأصبحت من أبناء الشَّوارع، وأصرَّت على تحمُّل نفقة شراء الأحذية وبعض الأغراض لها. وتنتهز الكاتبة الفرصة للإشارة إلى أنَّ اللاجئين إلى الشَّوارع كثيرون، من بينهم نساء شُرّدن بسبب تكرار كلمة الطَّلاق، في إدانة منها لاستئثار الزُّوج بسُلطة إنهاء الزَّواج في الإسلام بمجرَّد كلمة. وتعدّد السّعداوي نماذج سُكَّان الشَّوارع (صـ42):
لصوص وتجار مخدرات، وشباب بلا عمل ولا أمل، وفلاحون هاجروا من الأرض البُور والفقر، وعمال طردتهم المصانع المفلسة، وبنات الليل لم يبق لهن إلا الجسد يباع في السوق، وزوجات أصبحن في الشارع بعد أن نطق الزوج كلمة «طالق» ثلاث مرات.
نزعة تحرُّريَّة/شيطانيَّة للتَّمرُّد على كافَّة المسلَّمات
أرادت بدور بعد اعتناقها الفكر الشُّيوعي، وتحدّيها للدّين والتَّقاليد بانخراطها في علاقة آثمة دون زواج شرعي، لو استجابت لرغبة تساورها منذ طفولتها، للعصيان والتَّمرُّد على كلّ شيء، و “الهتاف ضدَّ الله والوطن، ضدَّ الأب والأم والجدّ، ضدَّ المدرّسين والمدرّسات” (صـ39). في رأي السَّعداوي، لم تؤسّس حركة الضُّبَّاط الأحرار عام 1952م نظامًا اشتراكيًّا يؤسّس للعدالة ويقضي على الاستبداد، حيث رأت أنَّ بسقوط الملك، “جلس في مقاعد الحُكم ملوكٌ صغار، يرتدون ملابس عسكريَّة” (صـ39). ومن بين رسائل السَّعداوي المبطَّنة سيطرة الطَّبقة الحاكمة الجديدة على منابع تكوين الوعي الجماهيري، بتعيين رجل عسكري، هو أب بدور، على رأس مؤسَّسة ثقافيَّة معنيَّة بالأدب والصَّحافة والفن. في حين يتزعَّم عالم الصَّحافة زمرة من المنافقين المداهنين للسُّلطة الجديدة، مثل زكريَّا، زوج بدور، الَّي راح يتغنَّى بتأسيس نظام جديد من “الاشتراكيَّة العربيَّة الإسلاميَّة” المختلفة عن اشتراكيَّة كارل ماركس “اليهودي الملحد”، في ادّعاء واهٍ من الكاتبة بأنَّ نظام يوليو 1952م، الَّذي اشتهر بالدَّعوة إلى إحياء القوميَّة العربيَّة، استند إلى الهويَّة الإسلاميَّة (صـ40). واستكمالًا لإدانتها النّظام الاشتراكي الَّذي تأسَّس بعد إسقاط الملكيَّة، تشير الكاتبة إلى موت نسيم، والد زينة وصديق بدور، في المعتقل، دون إدانة لقاتله، وهو الَّذي أفسح المجال أمام النّظام الجديد بدعوته إلى الإطاحة بالنّظام البائد وتطبيق الاشتراكيَّة، إلَّا أنَّ مصيره أن راح ضحيَّة تغيير النّظام.
تتَّهم السَّعداوي الإسلام بظُلم المرأة في الزَّواج والطَّلاق، أمَّا عن النُّصوص الَّتي تشير إليها في القرآن، فهي تتعلَّق بأحكام معاشرة النّساء﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ﴾[سورة البقرة: 222[، والزَّواج والطَّلاق﴿ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ﴾[سورة البقرة: 228[…﴿ فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ﴾[سورة البقرة: 230[. تسوق السَّعداوي قصَّة عن خالة بدور، الَّتي طُلّقت 3 مرَّات من زوجها، ويجبرها الشَّرع الإسلامي على الزَّواج من آخر حتَّى تعود إليه، بعد أن طلَّها 3 مرَّات بمنتهى الحريَّة، لتجلس المرأة تناجي ربَّها متسائلةً “يا رب أين العدل؟”، في محاولة من الكاتبة لإدانة حُكم الله تعالى وفي هذه الحالة واتَّهامه، حاشا لله، بالظُّلم، برغم أنَّ ذلك الحُكم هدفه إثناء الرَّجل عن التَّلاعب بكلمة الطَّلاق واستخدامها دون رقابة. ويبدو أنَّ الحلَّ الأمثل لتلك المشكلة، في رأي السَّعداوي، هو تطبيق النّظام الغربي في اشتراط موافقة الزَّوجين قبل إتمام الطَّلاق، أو ربَّما يكون من الأفضل عدم التَّقيُّد بزواج موثَّق.
لا تجد السَّعداوي حرجًا في التَّعرُّض للنَّبي مُحمَّد(ﷺ) بالطَّعن، بإشارتها إلى أنَّ زكريَّا، زوج بدور، بخياناته المتكرّرة لها، يتأسَّى بالنَّبي، برغم إقرار الكاتبة بأنَّ النَّبيَّ (ﷺ) كان عدَّد في الزَّواج بأمر من الله﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ ﴾[سورة الأحزاب: 50[. تقول السَّعداوي على لسان بدور، الَّتي تعاني في الزَّواج ولم تجد السَّعادة إلَّا في علاقة محرَّمة أثمرت ابنتها زينة الَّتي تخلَّت عنها (صـ108):
لماذا كل هؤلاء النَّساء للنَّبي رسول الله؟ المفترض أن يكون النَّبي أكثر عفة من الرجال الآخرين؟ المفترض أن يكون النبي مثالا أعلى للرجال في الإخلاص لرفيقة حياته، وقد أخلص النبي محمد لزوجته الأولى خديجة عشرين عاما، لم يعاشر امرأة أخرى حتى ماتت، فلماذا يتغير موقفه من الإخلاص الزوجي بعد وفاة السَّيدة خديجة؟
بعد أن كبرت بدور وتزوجت زكريَّا الخرتيتي، أدركت لماذا يقترف زوجها خياناته الجنسيَّة، كيف يتسلل من فراشها إلى نساءٍ أخريات، فإن ضبطته يشوح في وجهها بيده قائلًا: ده حقّي ربَّنا إداهولي (أعطاه لي)، ويعني جوزك حيكون أحسن من النبي؟
تدعو السَّعداوي بذلك إلى التَّمرُّد على أحكام الشَّريعة، وترى فيها “الظُّلم والقيود”، الَّتي تعتبرها الشَّرَّ بعينه، بعد أن عرفت، في شخص بطلتها بدور، أنَّ الخير هو “العدل والحريَّة”. وبما أنَّ الإسلام يظلم المرأة لصالح الرَّجل، كما تتوهَّم الكاتبة، ففي الامتناع عن تنفيذ شرائعه تمرُّد على الظُّلم. ومن المثير أنَّ بدور فطنت إلى ذلك من خلال علاقتها المحرَّمة مع نسيم، والد ابنتها الَّذي مات في المعتقل، وتشبّه الكاتبة ذلك بمعرفة آدم وزوجه الخير والشَّرَّ بعد أكلهما من شجرة المعرفة، بتشجيع من الحيَّة، كما ورد في قصَّة الخلْق التَّوراتيَّة: “بَلِ اللهُ عَالِمٌ أَنَّهُ يَوْمَ تَأْكُلاَنِ مِنْهُ تَنْفَتِحُ أَعْيُنُكُمَا وَتَكُونَانِ كَاللهِ عَارِفَيْنِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ” (سفر التَّكوين: إصحاح 3، آية 5). وفي إقرار السَّعداوي الضَّمني لصحَّة هذه القصَّة إشارة إلى اعتناقها فِكر جماعة المتنوّرين الماسونيَّة، الَّتي تُعلن حركة تمرُّد عالميَّة على حُكم الله تعالى، الَّذي تقدّم عليه معبودها لوسيفر، حامل النُّور، وهو إبليس. لا تجد بدور وسيلة لكسر قيودها واكتساب الشَّجاعة إلَّا شُرب الخمر، وتصل بها الأفكار إلى التَّشكيك في عدل الله تعالى، إذا كان يعاقب الآثمين بالنَّار في الآخرة وإذا كان يبتلي الخلْق بالنَّوائب (صـ109):
ما الفرق بين الله والإنسان إذا كان الله يقابل الشَّرَّ بالشَّرّ، بل بشر أفظع وأكثر قسوة، يحرقها في النار إلى أبد الآبدين لمجرد لحظة واحدة عرفت فيها اللذة أو السَّعادة؟ يحرمها الله من طفلتها إلى أبد الآبدين لمجرد أن رجال البوليس قتلوا أباها قبل أن يوقع عقد الزواج؟ يؤرقها الشَّك في عدالة الله، وبالتَّالي في وجوده، تفقد الإيمان في النَّوم، يرهقها الأرق والحزن الدَّفين المكتوم في أحشائها، تطرد الشَّك، تعود إلى الإيمان حين تصحو. تدرك أنَّ الإيمان يجلب السَّعادة مثل الخمر، مثل نبيذ عمر الخيام الأحمر.
وتواصل السَّعداوي إدانة ظُلم الدّين للمرأة، بأن حطَّ من قدْرها وجعلها أدنى مرتبة من الرَّجل تقول بدور في تأسُّف على قدر الله لها “الله خلقني لأرقد تحت زوجي وأمسح حذاءه، لأدلّك قدميه بالماء الدافئ، وأغسل جوربه النَّتن بالصَّابون المعطر، وأترك له جسدي يصب فيه ماءه العطن و …” (صـ112).
المصدر: رسالة بوست