مقالاتمقالات مختارة

نهضتنا الحضارية بين الأفكار الخاذلة والأفكار المخذولة

نهضتنا الحضارية بين الأفكار الخاذلة والأفكار المخذولة

بقلم محمد مصطفى حابس

يرتبط مستقبل الأمم بالعناصر التكوينية لرسالتها وبالحركة التاريخية التي تحكم تطور الأفكار والثقافات. وقد لعبت الرسالة الإسلامية دورا حاسما في تطوير المجتمعات الإنسانية وتحرير إرادة الإنسان من وهم الخرافة وهيمنة المادة، فتحرر الوعي الإنساني من إسار الإباحية والاستغلال البشع للأغلبية لتنعم الأقلية بنشوة القوة وثمالة الهيمنة، والحديث عن مستقبل الأفكار الذي تسعى إليه الرؤية الإسلامية، هو استراتيجية التحرك وكيفياته، وعن طبيعة المجتمع الذي يسعى المسلم المعاصر لإنشائه والعيش فيه وعن طبيعة التحديات التي تواجه هذه الأفكار وسبل التعامل معها. بل قل هو حديث عن الفرص التي تواكب التحديات، والآمال التي تختلط بالأحزان والويلات، والتطلعات والأحلام التي تتطاول فوق المخاوف والأوهام، في عالم يمر بسلسلة من التحولات المتسارعة، حول هذه الأفكار أحاول في عجالة رسم صورة مشاهد تستوقفنا كبشر أصحاب رسالة خاتمة نسعى للخير للناس كافة، استعرضها تاركا للقارئ الكريم الاستنتاجات اللازمة..

في ندوة علميّة نظمت قبل أسابيع وتحديدا نهاية ديسمبر الماضي، في جامعة الجلفة مع الكاتب والناقد البروفيسور حبيب مونسي، شرح فيها بعض الالتباسات على الطلبة، مركزا على أمور منها أن الجامعة الجزائرية أحدثت قطيعة بين التخصصات، وصنعت جهلا مركّبا، وأن من يرى أن الدّين عائق أمام الفكر، هو العائق!! وفي ردّه على سؤال “أيّ درجة يمكن أن نمنحها للهمّ الفكري العربي في سلّم الهمّ العربي؟” قال “إن مشكلتنا الآن مع مفكّرينا ماذا صنعوا!، وكل المفكرين العرب، ابتداء من الجابري وانتهاء إلى حسن حنفي، الذين قرؤوا الفكر الغربي تولدت لديهم قناعات أن لا مخرج للأمة العربية والإسلامية إلا باتّباع طرق التفكير الغربي، وأننا سنصنع في تراثنا مثلما صنعوا وهو أن نعيد قراءة التراث، أن نعيد ترتيب الأولويات فيه، وأن نزيح منه الأشياء التي لا تخدم واقعنا، ولكن هؤلاء هم نخبة النخبة ولا يقرأ لهم إلا القلّة، وأن كتبهم لا تأثير لها في الواقع”، أما عن أفكار الجزائري مالك بن نبي، فقال بأنّ مشروعه الحضاري لم يُقرأ بعد ومن قرؤوه قرؤوه من زاوية التمنّي وليس من زاوية التطبيق الفعلي، ولم يخرجوا بالمشروع من إطار الكلمات إلى إطار الأفعال.”

مبينا بعد ذلك أن أفكر مالك بن نبي في الفكر الإنساني والحضاري، لقيت صدى كبيرا عند كثير من عمالقة الفكر الإسلامي وغيرهم. موضحا ذلك بقوله ” أن مالك بن نبي درس كل المذاهب الدينية والفلسفية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولكنه لم يتأثر بمذهب من تلك المذاهب ولم يخضع لواحد منها ولم يكن تابعا على الإطلاق حتى لا يكون طرفا في نزاع أصحاب التكتلات الحزبية والمذهبية. وحتى لا يكون محرضا لجهة على أخرى أو يكون مستغلا من طرف جهة من الجهات وهو على حسن نية كما وقع لكثير من المفكرين ذوي النوايا الطيبة ولكنهم يجهلون قضية الصراع الفكري كما عبر عن ذلك هو نفسه”.. “وقد استطاع بذكائه الوقاد وحساسيته المرهفة أن يشيد مدرسة خاصة به اهتم فيها بقضايا فكرية متنوعة قام بتنظيمها حول محور رئيسي وهو (مشكلة الحضارة). عالج فيها قضايا كثيرة شكلت المحور الرئيسي لفلسفته”. وهي المشاكل التي ظلت تتخبط فيها أمتنا العربية والإسـلامية دهـرا من الـزمن.

ومن باب ماذا صنعت الأجيال، وماذا صنعنا نحن مع مفكرينا ومشاريعهم؟ استوقفتني هذا الأسبوع، لفتة طيبة، عبارة عن  مراسلة عبر وسائل التواصل الاجتماعي لطالبة جزائرية من جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية، مع أستاذها الأسبق المفكر الجزائري الطيب برغوث الذي تعد كتاباته امتدادا لفكر مالك بن نبي، تستأذنه بنشر عرض مختصر على صفحتها الإلكترونية، من خلال مؤلفاته التي تربو عن سبعين أو ثمانين كتابا، طبع منها قرابة 50 كتابا في العديد من دول العالم الإسلامي، بعضها بالجزائر وبعضها بالمغرب والكويت وسورية وماليزيا والولايات المتحدة. تدور في عمومها حول بناء رؤية أو نظرية كلية في فلسفة التغيير والإصلاح والتجديد الحضاري، في ضوء المنظور السنني الكوني الكلي الذي يطرحه الإسلام لتحليل وتفسير وإدارة تحولات الحياة البشرية.

قائلة له أن خطتها تتمثل في التعريف بالمفكر الجزائري وندواته ونشاطاته الفكرية التربوية الثقافية على أن تعرض باختصار ترتيب مؤلفاته في مجموعات وتوضح أفكارها، بدأ بسلسلة “مفاتيح الدعوة” ثم سلسلة “آفاق في الوعي السنني” ثم كتاباته الأخرى عن النظرية الكلية في الثقافة السننية وأخيرا تطرح أفكار “أكاديمية الثقافة السننية”، التي يشرف على أحد مشاريعها الواعدة المفكر الجزائري.

موضحة له أنها قرأت مقدمة في أحد كتبه يقول فيها أن “التعريف بالأفكار يجب أن يكون قويا وناضجا وفي وقته”؟

فرد عليها الأستاذ “المربي بأسلوب مسؤول متواضع”- على حد تعبير أحد المعلقين- في رسالة مركزة جاء فيها على الخصوص، أنه سعيد جدا باهتمامها بنشر المشروع الفكري الذي يقترحه “لتصحيح مسار النهضة الحضارية الإسلامية والإنسانية، والسير بهما قدما نحو المزيد من التوازن والتكامل والفعالية والخيرية والبركة”. معترفا بأن مشروعه ليس ملكا له وحده “بل هو مشترك بيننا جميعا، فقد أنتجناه معا طلبة وأساتذة ودعاة ومربين ومفكرين ومثقفين وساسة عامة”، متجردا متواضعا بقوله “وما أنا إلا محرر لهذا المشروع، فقد كنت وما زلت أستفيد من الطلبة أكثر مما يستفيدون مني، كما أستفيد من زملائي الأساتذة بل ومن عامة الناس أكثر ما يستفيدون هم مني، دون أن أنسى القراءات المتنوعة، والمتابعات المستمرة للحركة الفكرية والثقافية والاجتماعية المحلية والعالمية التي أفادتني وتفيدني كثيرا في استخلاص هذه الرؤية السننية الشاملة لحركة الحياة.”

وأردف يقول، مخاطبا طالبته:” إنك أيتها السيدة الفاضلة وأنت تساهمين في نشر هذه الرؤية أو الأطروحة السننية، لا تنشرين أفكار الطيب برغوث كشخص، بل تساهمين في نشر رؤية سننية مستخلصة من صميم الوعي السنني الوسطي الذي أصلت له الرسالات السماوية وأرست دعائمه، وفرعته وطورته وعمقته الخبرة البشرية عبر التاريخ، ونحن جميعا ملزمون شرعيا وأخلاقيا وإنسانيا بالمساهمة في نشر كل ما هو نافع لنا ولمجتمعنا وأمتنا والإنسانية عامة، وإلا كنا من كاتمي العلم والمعرفة والخيرية عن الناس، وخاذلين للأفكار الصحيحة المفيدة.”

محذرا بقوله:” أنه ليس هناك أشد انتقاما وفتكا بالناس من انتقام وفتك الأفكار الأصيلة المخذولة، عندما يخونها الناس ويخذلونها بالجهل حينا، وبالتجاهل حينا آخر، وبالمخاصمة والتهميش والمحاربة أحيانا أخرى، فتنتشر فيهم وبينهم الأفكار الهامشية أو الفاسدة المضللة، وتحدث فيهم من الضعف والوهن والمهانة ما تحدثه الأوبئة الفتاكة في الأجسام والمجتمعات، وذلك هو انتقام الأفكار المخذولة!

وبالتالي فإن كل فكرة أصيلة مخذولة، تتولد عنها فكرة خاذلة مميتة كما يقول مالك بن نبي رحمه الله. وما أكثر الأفكار الأصيلة المخذولة في تجربة أمتنا الحضارية وفي التجارب الحضارية البشرية عامة، التي لم تر النور ولم يستفد منها الناس، لأنها لم تجد ناشرين ومروجين لها ومعرفين بها، فبقيت سجينة الكتب، بينما راجت وانتشرت وتمكنت أفكار أقل أصالة وفائدة، فأدى ذلك إلى ضعف نهضة الأمة من ناحية، وإلى اختلالات عميقة في النهضة الحضارية الإنسانية من ناحية أخرى.

إن المتذوقين للأفكار الصحيحة، والمروجين لها، والناشرين لها بين الناس، لا يقلون أهمية وقيمة عن المنتجين لها، بل إن المعرفين بها والناقلين لها من بطون الكتب إلى عقول الناس، قد يكونون أحيانا أكثر أجرا وقيمة ومكانة من منتجي هذه الأفكار، لأن ناقلي الأفكار هم الذين يوفرون لها شروط الحياة والاستمرارية وانتفاع الناس بها، والطالب والناشر والإعلامي من هؤلاء المتذوقين للأفكار الصحيحة، والناشرين للمعرفة الصانعة للنهضات الحضارية الحقيقية.

فما أحوجنا إلى منتجي الأفكار الأصيلة والمروجين لها، والناقلين لها إلى الناس، والمحولين لها إلى معرفة وثقافة عامة سارية في المجتمع، أمثال هذا المفكر وهذه الطالبة، لأن – حسب الكاتب – الأفراد والمجتمعات والأمم لا تتحرر عقولهم ونفوسهم وإراداتهم، ولا تعظم فعاليتهم الاجتماعية والحضارية، إلا بمعرفة وثقافة سننية متوازنة، تحاصر الخرافة والوهم والجهالة، وتقصيها من حياة الناس، وتؤسس لحياة قائمة على منطق: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}، عملا بهدي الرسول الله صلى الله عليه وسلم مبشر أيانا بقوله:(من دعا إلى هدًى، كان له من الأجرِ مثلُ أجورِ من تبِعه، لا يُنقِصُ ذلك من أجورِهم شيئًا. ومن دعا إلى ضلالةٍ، كان عليه من الإثمِ مثلُ آثامِ من تبِعه، لا يُنقِصُ ذلك من آثامِهم شيئا“.

(المصدر: صحيفة البصائر الالكترونية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى