نهاية الكذبتين .. دعوى الممانعة ودعوى المؤامرة
بقلم د. أبو يعرب المرزوقي
حددت أمس في محاولة بعنوان “موجة الثورة الثانية، من الحرب المجردة إلى الحرب العينية” من المهزوم ومن المنتصر في الموجة الأولى من ثورة الشباب، وأحمد الله أن كذبتين كنت أحلم بأن أرى تكذيب التاريخ لهما في حياتي قد حصلا:
1. يقيني بأن الممانعة كذبة
2. يقيني بأن من اعتبر الثورة مؤامرة، عميل.
وأبدأ بالكذبة الثانية:
فلا يمكن أن تكون الثورة مؤامرة غربية إذا كان الغرب إلى اليوم قد نظم كل ما يحدث من انقلابات وحروب أهلية من أجل إيقافها.
فإما أنه كان غبيا دفع إلى ثورة لم يكن يدري مآلها، ولما اكتشفها، انقلب عليها. من يصدق أنه أغبى ممن يحرضونه عليها من الانقلابيين العائدين؟
أما الكذبة الأولى فما أظنني بحاجة لإثباتها:
فيكفي متابعة المفاوضات الجارية بين إسرائيل وإيران بتوسط بوتين والقبول المبدئي بشروط إسرائيل للإبقاء على النظام.
من يتصور أن إسرائيل تريد بقاء نظام يقاومها حقا؟
لكن هي تريد نظاما يقاومها كما قاومها بشار وابوه طيلة أربعين سنة: بدم فلسطين.
ولما فقد المبادرة في هذه اللعبة وأصبحت فلسطين ورقة إيرانية لا فرق بينها وبين كل الشيعة العرب، بل وكل شيعة العالم كما تبين المليشيات التي وظفت للوصول إلى مرحلة التفاوض مع الغرب على بقاء نظام الملالي، اتضحت الأمور كلها. وكنت دائما أسمع النابحين ضد هذه التوقعات وخاصة من أكبر طبال مغربي.
فهذا المسكين عرفته في دمشق لما كان يتمسح على أبواب سفارة إيران بزي الملالي، وهو أذل من كلب لم يكن يستحق أن أرد على كل ما كتبه بدعوى الرد علي.
كنت أنتظر الأيام التي سترد عليه إيران وحزب الله بدلا مني عندما يتبين له إن كان له ذرة من عقل وكرامة أن يكتشف أنه قد خدع إن كان صادقا.
حفظ بعض كلمات من أشباه الحداثيين المتفلسفين يرددوها ليدافع عما لا يقبله عاقل تماما كما كان يفعل الباطنية في محاولة توظيف مبتذلات الفلسفة لتأسيس التعليمية: أي التسليم لدجالي المرجعيات التي تؤمن بخرافة الوساطة والوصاية. وهما بمجردهما دليل فقدان العقل والفكر فضلا عن الإسلام والصدق.
وما كنت لأشير إلى هذا النابح لو لم أكن أعلم ما يسببه من ضرر في المغرب الاقصى لأنه صار داعية للغزو الباطني في وطنه، الذي اعتبره وطني كذلك، لأن وطني هو كل دار الإسلام وخاصة السني منها لأني لا أعتبر من ليس سنيا صادق الإسلام: فمن يرفض تربية الرسول وحكمه لا يمكن أن يعتبر مسلما.
ومن يشكك في أمانة الصحابة وفي شرف امهات المؤمنين لا يمكن أن يؤمن بنباهة الرسول وشرفه. فمن لم يدرك عدم ولاء صحابته ليست عاقلا فضلا عن أن يكون مصطفى إلهيا، ومن يتهم زوجاته بما يتهمون به أحبهن إليه لا يمكن أن يعتبروه ذا شرف. إنهم بهذا وحده من أنذل وأرذل من يمشي على قدمين.
وعندي أن من يكفر بالإسلام صراحة أفضل ألف مرة ممن يندس فيه ليخربه من الداخل كما فعل كل من اختار الخبث أو “الخرج” الذي تكلم عليه ابن خلدون وصفا لمن فسدت فيه كل معاني الإنسانية، فارتد إلى أخلاق المخلدين إلى الأرض كما يصفهم القرآن الكريم: كذلك رأيت هذا النابح يتمسح في دمشق.
وما أتمنى أن اراه في حياتي هو انطلاق الموجة الثانية من الحرب الشعبية لإخراج المحتل الإيراني والإسرائيلي من الارض العربية بمقاومة شعبية تؤمن بالمطاولة ولا تتصرف بغباء الموجة الأولى التي تصرفت بالمناجزة جيش مقابل جيش، وهي الطريقة التي تجعل الثورة معرضة للابتزاز بضرب الحاضنة الشعبية.
وقبل تحليل العلل التي جعلت الكذبتين تنطليان على البعض، أريد أن أشير إلى أن ذكري هذا المثال من أبواق الملالي لا يعني أنه فريد النوع أو أن امثاله قلة. فلنا في تونس منهم المئات والكثير منهم مندس في كل الاحزاب نفس الأسلوب الذي يتبعه الصهاينة في كل أحزاب الغرب.
وهم مندسون في كل الجمعيات والتنظيمات، وخاصة في كل وسائل التواصل الاجتماعي ومؤسسات الإعلام التي هي في الحقيقة أبواق للحرب على الثورة وعلى الإسلام. ومن علاماتهم كثرة الكلام على استكبار أمريكا وعلى مقاومة التطبيع، أعني على أساسي كذبة الممانعة التي صدقها الشعب ككل مؤمن غر.
وعلى سبيل الطرفة، لم أكن أصدق أن عبد الناصر لم يخلف إلا المتخلفين ذهنيا:
كنت أرى ذلك في ابنه الذي يعتبر السيسي بطلا، ثم اكتشفت أخيرا في شهادة ابنته اعتمادا على ما رأته بخط يده بأنه كان يعتبر إسرائيل ليست العدو، بل العدو هم الإخوان. وهذا عينه ما صار عقيدة “مراهقيْ” الثورة المضادة.
وإن كنت لا اعتبر الآباء يعاقبون في الأبناء، فإن التخلف الذهني في ابن عبد الناصر وفي ابنته اللذين فضحا أباهما إلى هذا الحد، لعله عقاب إلهي لأبيهما: فالإخوان هم الذين أنقذوه لما حاصره الجيش الإسرائيلي، بل لعلهم لسذاجتهم هم الذين أوصلوه إلى حكم مصر لما خادعهم خداع السيسي لهم.
وما كنت لأذكر هذه الطرفة لو لم يكن جل المطبلين لما يسمونه ممانعة والهاجمين لما يسمونه مؤامرة (الثورة) من القوميين بصفيهما الناصري والبعثي. ولما تفاخر قيادات إيران باحتلال أربع عواصم عربية وتدعي أنها استردت امبراطوريتها التي اسقطها الإسلام يعتبرون من يتكلم على ذلك عميلا لأمريكا.
ولما تقول لهم إن مليشيات إيران في العراق وفي سوريا تحاربان الشعبين بمظلة جوية أمريكية يتهمونك بالميل إلى داعش رغم أنك تعلم وتعلم أنهم يعلمون أن داعش هي من صنع الطائفيين في العراق وسوريا وبقيادة إيرانية إسرائيلية وبضوء أخضر أمريكي روسي لتهديم كل معالم التاريخ الإسلامي وتهجير السنة.
فنفس المناهج والفنيات التي أفرغ بها الغرب أمريكا والتي تحاولها إسرائيل في فلسطين وكانت عاجزة لعلة ديموغرافية عن تعميم فنياتها على ما تعتبره هي بدروها امبراطوريتها القديمة، فإنهم سهلوا لإيران حتى تقوم بالمهمة بدلا منهم، أو طردها والتعاون مع علمانيي الاقليم لاستكمال الخريطة.
وما فعلته إيران للوصل بين إسرائيل والنهر الشرقي بتفريغ العراق وسوريا من سنتهما، يفعله السيسي للوصل بين إسرائيل والنهر الغربي بتفريغ سيناء، فتكتمل خارطة إسرائيل: من النهر إلى النهر.
والجرافة في الحالتين هي عملاء العرب لإيران وعملاء العرب لإسرائيل.
ولنعد الآن إلى علل الانطلاء.
وابدأ بالقائلين إن الثورة كانت مناورة.
ويؤسفني أني لا أستطيع أن أطيل في ذلك، لأن أبرز القائلين بذلك يعيش اليوم نكبة في سجن فرنسا لعمل يبدو قد اعترف ببعضه. لكن المسألة طرحت بينه وبيني في لقاء حواري بسويسرا وهو موجود في اليوتيوب. وقد ذكرته لأنه الابرز.
لكن الكثير من الأقزام في تونس بين الغاضبين والغاضبات والحانين إلى عهد الشيخات والمسؤوليات الخادمة للمستبدين والمستبدات والمافيات والفاشيات في تونس وفي مصر خاصة، وفي المحميتين اللتين تمولان الثورة المضادة، ويحلبهما ترومب، لا يحصون. وفيهم من يشبه “الراشقين” في الأعراس.
الراشقون في الأعراس لا أدري كيف يسميهم المشارقة، لكن الوصف سيساعد على فهم المعنى: ففي الأعراس يوجد الزكار والطبال ومعهما من يأخذ المال من الحاضرين ويقوم بدور البراح إشادة بمقدمه ومغالاة في بيان مقداره حتى يحرض البقية على “الرشقة” أي دفع المال للطبال وللعريس والعروسة.
وهؤلاء هم الطبقة الادنى في مليشيات القلم العربية. ولنا منها الكثير.
وقد يكون هذا الوضع مرحلة تمهيدية يترشح بها صاحبها إلى طبقة أعلى خاصة إذا عاين ما يسمى بالمقاومة في العراق وفي سوريا وخاصة في الضاحية والجنوب. والكثير منهم اعلاميون من خدم المخابرات في الغالب.
والآن لماذا ينطلي كلامهم؟
ولماذا دام تصديقهم عقودا هي عينها العقود التي جعلت إسرائيل تفضل بقاء هذه المقاومة الممانعة الشجاعة بدلا من الثورة، هل لأنها حققت انتصارات كبرى وبعضها إلهية (2006)؟
كانت الشعوب العربية تصدق لعلتين:
1. الأولى غياب مقاومة جدية
2. والثانية انبطاح الأنظمة العربية
وكان الانبطاح الذي ازداد يطيل في عمر تصديق أدعياء الممانعة لو لم يصبح المنبطحون حلفاء لهم: فهم أيضا يحاربون الثورة ويحاربون الإسلام بنفس الدعاوى الحداثية التي لا يصدقها عاقل.
فمن يصدق أن يكون المراهقان الممولان للانقلابات ومعهم الانقلابيون، حداثيون وعلمانيون وتنويريون؟
لما تسمع أساتذة جامعيين من جنسي الغاضبين والغاضبات يعتبرون السيسي تقدميا ومثله حفتر وبشار والملالي والمراهقين، لا لشيء إلا لأنهم يحلمون بعودة العهد الذي كانوا فيه يأكلون مع المافيات والفاشيات، فلا تستغرب أن يصبح الإعلام أداة مواصلة غسل الادمغة ضد الثورة والإسلام.
لكن ما حصل للممانعة من افتضاح أفقد كذبتهم الانطلاء على الشعب، حتى أكثره عامية، لن يطول العهد بالحداثيين ليفتضح حالهم فتفقد كذبتهم الانطلاء. فهم أولا بتحالفهم مع ما يسمونه ممانعة لمواصلة الكذبة الاولى وتحالفهم مع الثورة المضادة العربية ليجدوا التمويل، مروا إلى مرحلة الفضيحة المطلقة.
والآن يفهم القارئ لماذا دعوت الشعب السوري للعودة بسرعة إلى وطنه.
بينت الفرق بين مقاومة شعبية تتأسس على الأفكار المجردة وعلى قيم كانت معطلة حاول النظام وحلفاؤه وضع المواطن أمام جحيم ينوي به تركيعه مع اختراق صفوف المقاومة التي تفتتت وصارت لعبة بيد أمراء الحرب لتشويهها.
لكنه أخطا مرتين:
1. فالتهجير والتهديم أولا
2. والتعويض بالمليشيات التي أعطاها الجنسية والملكية وأحلها محل المواطنين المهجرين ثانيا
قلبا عليه لعبته.
لأن الإنسان قد يتنازل على القيم المجردة لعدم مباشرتها وتعين أثرها، لكنها لما تتعين تصبح مباشرة ويصبح أثرها ذاتيا لكل فرد في ملكه وكيانه.
لما يعود الشعب إلى أملاكه ودياره وارضه وحياته اليومية يصبح كل فرد مقاوم لما يتنافى، ليس مع قيم مجردة، بل مع مقومات وجوده الفعلية خاصة إذا كانت المقاومة قد تغيرت فلم تبق بغباء حرب جبهات، لكأنهم جيش ضد جيش بالسلاح الثقيل، بل ينبغي ككل حرب شعبية حرب مطاولة تربح بالنقاط وليس بالقاضية.
ولكن تأخر في الرجوع، هو تسهيل لاستنبات المليشيات التي أحلها النظام وحلفاؤه بدلا منهم في أملاكهم وارضهم وأحوالهم الشخصية، فيكون السوريون بتراخيهم وعدم العودة قد حققوا ما نتج عن هجرة الفلسطينيين من فلسطين بخلاف من بقي منهم فيها، وهم الآن شوكة في حلق الصهاينة.
نصيحتي مدلولها هو اولا انقاذ سوريا الارض والوطن بالحضور الفعلي على الأرض، وذلك هو الشرط الأول لكل مقاومة ولكل استئناف للثورة في موجة ثانية باستراتيجية المطاولة و”التظاهر” بلعبة الديموقراطية التي يريد النظام استعمالها مثل السيسي لمنعه من كذبة الشرعية: حضوركم يفسد عليه لعبته.
(المصدر: موقع أبو يعرب المرزوقي)