نماذج من دور علماء السلف في النوازل المعاصرة
بقلم الشيخ محمد بن أحمد زحل (رحمه الله تعالى)
الإمام أحمد بن حنبل
هو الإمام أحمد بن حنبل بن هلال أبو عبد الله الشيباني الذهلي، ولد في ربيع الأول سنة أربع و ستين و مائة 164 هـ. جيء به حملا من مرو و ولد في بغداد و توفي أبوه محمد شابا، فوليته أمه. نسبه عربي و هو شيباني في نسبه لأبيه و أمه، و قد عرفت قبيلته بالهمة و الإباء و شدة الشكيمة و الصلابة، و كان منها المثنى بن حارثة القائد الإسلامي المعروف، انتقل جده إلى خراسان و كان واليا على سرخس في العهد الأموي، و ناصر الدعوة العباسية عند ظهورها، و أوذي في هذا السبيل، و كان أبوه قائدا كما ذكره الأصمعي، و ترك له أبوه عقارا ببغداد لا يكاد يقوم بنفقات الأسرة، فنشأ على الصبر و القناعة و الكفاف.
آثار النبوغ في نشأته:
ظهرت عليه أمارات النجابة و مخايل الذكاء و الهمة و الرشد و هو صبي في نعومة أظفاره. قال والد زميل له من جيرانهم: أنا أنفق على أولادي و ّأجيئهم بالمؤدبين على أن يتأدبوا فما أراهم يفلحون و هذا أحمد بن حنبل غلام يتيم، أنظروا كيف هو؟ و جعل يعجب من أدبه و حسن طريقته.
علو همته في طلب العلم:
من الأدلة على ذلك قصة يرويها ولده صالح قال عزم أبي على الخروج إلى مكة و رافق يحيى بن معين، فقال أبي نحج و نمضي إلى صنعاء إلى عبد الرزاق قال فمضينا حتى دخلنا مكة فإذا عبد الرزاق في الطواف، و كان يحيى يعرفه، فطفنا ثم جئنا إلى عبد الرزاق فسلم عليه يحيى و قال هذا أخوك احمد بن حنبل، فقال: حياه الله، إنه ليبلغني عنه كل ما أسر به ثبته الله على ذلك، ثم قام لينصرف، فقال يحيى ألا نأخذ عليه الموعد، فأبى احمد، و قال: لم أغير النية في رحلتي إليه، فأكمل حجه ثم سافر إلى اليمن لأجله، و سمع عنه الكتب و أكثر عنه.
المحنة:
أصدر المأمون سنة 218 هـ رسالة إلى والي بغداد إسحاق بن إبراهيم أمر فيها بجمع القضاة و امتحانهم في عقيدة خلق القرآن، و عزل من لا يقول بذلك منهم و إسقاط شهادة من لا يراها من الشهود، و أرسلت منها صور إلى الأقطار الإسلامية، ثم كتب إليه أن يرسل إليه سبعة من كبار المحدثين الذين عارضوا هذه العقيدة ففعل، و أجاب هؤلاء فأعادهم إلى بغداد، و أمر الولي أن يجمع الفقهاء و المشايخ من أهل الحديث في داره ففعل، و أجاب هؤلاء فخلى سبيلهم، ثم أصدر كتابا ثالثا أغلظ فيه القول، و ضيق الأمر، و أمر بالتوسع في امتحان الناس، و امتثل الوالي أمره فأحضر مشاهير العلماء و رؤوسهم و امتحنهم، و كانت إجابات القوم مختلفة و مضطربة، و حرر الوالي محضرا بجميع أقوال الممتحنين، و أرسله إلى المأمون، و ثار المأمون بقراءته، و اشتد غضبه و عرّض بهم و استخف، فأمر بضرب رقبة بشر بن الوليد وبن المهدي إن لم يرجعا عن قولهما، و أمر بالعودة إلى امتحان هؤلاء فإن أصروا فاحملهم أجمعين موثقين إلى عسكر أمير المؤمنين، فإن لم يرجعوا و يتولوا حملهم جميعا على السيف إن شاء الله و لا قوة إلا بالله.
و امتثل الوالي أمر الخليفة، و جمعهم ثانية و قرأ عليهم كتاب المأمون، فأقروا جميعا بأن القرآن مخلوق إلا أربعة: أحمد بن حنبل و سجادة و القواريري و محمد بن نوح، و أمر بهم فشدوا في الحديد و اعترف سجادة بخلق القرآن، و أطلق سراحه، و أجاب القواريري بعد يوم، فأطلق سراحه، و انحصر الأمر في اثنين أحمد بن حنبل و محمد بن نوح، فشدهما في الحديد و وجههما إلى المأمون، ثم أرسل البقية من الممتحنين بأمر المأمون و بلغتهم وفاة المأمون و هم بالرقة، فخلى والي بغداد سبيل أكثرهم، و مات محمد بن نوح و هو عائد إلى بغداد، و تركزت رئاسة المعارضة في أحمد بن حنبل فكان زعيمها و علمها و متجه الأنظار فيها كما يقول الدكتور أحمد أمين رحمه الله، و وصل أحمد بن حنبل إلى بغداد و حبس في دار عمارة في بغداد، ثم حول إلى سجن العامة، و مكث في السجن ثمانية و عشرين شهرا، قال حنبل كنا نأتيه، وقرأ علي كتاب الإرجاء و غيره في الحبس، و رأيته يصلي بأهل الحبس و عليه القيد، فكان يخرج رجله من حلقة القيد وقت الصلاة.
محنة أحمد بن حنبل في عهد المعتصم:
و ها هو رحمه الله يحكي قصته و ما جرى له أيام المعتصم بنفسه، وهي قصة البطولة الخالدة و الإيمان الراسخ و الثبات و الصمود على المبدأ، فلنستمع إليه رحمه الله و لنع ما يقول: “فلما كان في الليلة الرابعة وجه – يعني المعتصم – ربيعا الذي يقال له الكبير أبو إسحاق، فأمره بحملي إليه فأدخلت على إسحاق فقال: يا أحمد إنها و الله نفسك، إنه لا يقتلك بالسيف إنه قد آلى إن لم تجبه أن يضربك ضربا بعد ضرب، و أن يلقيك في موضع لا تُرى فيه شمس و لا قمر، فلما بلغنا إلى الموضع المعروف بباب البستان أخرجت و جيء بدابةفحملت عليها و علي الأقياد و ما معي أحد يمسكني، فكدت غير ما مرة أخر على وجهي لثقل القيود، فجيء بي إلى دار المعتصم، فأدخلت حجرة، و أدخلت إلى بيت فأقفل الباب علي، و ذلك في جوف الليل و ليس في البيت سراج فأردت أن أتمسح للصلاة، فمددت يدي فإذا أنا بإناء فيه ماء و طست موضوع فتوضأت وصليت، فلما كان من الغد أخرجت تكتي من سراويلي، و شددت بهاالأقياد أحملها، و عطفت سراويلي فجاء رسول المعتصم فقال: أجب/ فأخذ بيدي و أدخلني عليه، و التكة في يدي أحمل بها الأقياد و إذا هو جالس و ابن أبي دؤادحاضر، و قد جمع خلقا كثيرا من أصحابه، فقال لي يعني المعتصم أدنه، فلم يزل يدنيني حتى قربت منه، ثم قال لي: إجلس، فجلست و قد أثقلتني الأقياد فمكثت قليلا ثم قلت: أتأذن لي بالكلام، فقال: تكلم، فقلت إلام دعا الله و رسوله؟ فسكت هنيهة ثم قال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله، فقلت: فأنا أشهد أن لا إله إلا الله، ثم قلت: “إن جدك ابن عباس يقول: لما قدم وفد عبد القيس على الرسول صلى الله عليه و سلم سألوه عن الإيمان؟ فقال: أتدرون ما الإيمان، قالوا الله و رسوله أعلم. قال: شهادة أن لا إله إلا الله، و أن محمدا رسوله، و إقام الصلاة، و إيتاء الزكاة، و أن تعطوا الخمس من المغنم” قال أحمد، و قال يعني المعتصم: لولا أني وجدتك في يد من كان قبلي ما عرضت لك، و يذكر أحمد بن حنبل ما جرى بينه و بين علماء البلاط من الكلام و المناظرة ثم يقول: وجعل ابن أبي دؤاد يقول: يا أمير المؤمنين لئن أجابك فهو أحب إلي من مائة ألف دينار و مائة ألف دينار، فيعد من ذلك ما شاء الله أن يعد، فقال المعتصم و الله لئن أجابني لأطلقن عنه بيدي، و لأركبن إليه بجندي و لأطأن عقبه، ثم قال: يا أحمد، و الله إني عليك لشفيق و إني لأشفق عليك شفقتي على هارون ابني، ما تقول؟ فأقول: أعطوني شيئا من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم، و لما طال المجلس، ضجر و قال: قوموا و حبسني يعني عنده، و عبد الرحمان بن إسحاق يكلمني، فقال المعتصم: ويحك أجبني، فقال: ما أعرفك ألم تكن تأتينا فقال له عبد الرحمان بن إسحاق: يا أمير المؤمنين أعرفه منذ ثلاثين سنة يرى طاعتك و الجهاد و الحج معك، قال فيقول: و الله إنه لعالم، و إنه لفقيه، و ما يسوءني أن يكون معي يرد عني أهل الملل، ثم قال لي: ما كنت تعرف صالحا الرشيدي، قلت: قد سمعت باسمه، قال كان مؤدبي، و كان في ذلك الموضع جالسا، و أشار إلى ناحية من الدار، فسألته عن القرآن فخالفني فأمرت به فوطئ و سحب. ثم قال يا أحمد، أجبني إلى شيء لك فيه أدنى فرج حتى أطلق عنك بيدي. قلت أعطوني شيئا من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه و سلم فطال المجلس و قام، و رددت إلى الموضع الذي كنت فيه. فلما كان المغرب وجه إلي رجلين من أصحاب ابن أبي دؤاد، يبيتان عندي و يناظراني و يقيمان معي حتى إذا كان وقت الإفطار جيء بالطعام، و يجتهدان بي أن أفطر فلا أفطر/ و وجه إلي المعتصم بن أبي دؤاد في بعض الليل فقال يقول أمير المؤمنين ما تقول؟ فأرد عليه نحوا مما كنت أرد فقال ابن أبي دؤاد و الله لقد كتبت اسمك في السبعة يحيى ابن معين و غيره فمحوته، و لقد ساءني أخذهم إياك ثم إن أمير المؤمنين قد حلف أن يضربك ضربا بعد ضرب و أن يلقيك في موضع لا تر فيه الشمس، و يقول: إن أجابني جئت إليه حتى أطلق عليه بيدي و أنصرف. فلما كان في الليلة الثالثة: قلت خليق أن يحدث غدا من أمري شيء. فقلت لبعض من كان معي الموكل بي ارتد لي خيطا، فجاءني بخيط فشددت به الأقياد و رددت التكة إلى سراويلي مخافة أن يحدث من أمري شيء فأتعرى، فلما كان من الغد في اليوم الثالث وجه إلي فأدخلت فإذا الدار غاصة، فجعلت أدخل من موضع إلى موضع و قوم معهم السيوف، و قوم معهم السياط و غير ذلك، و لم يكن في اليومين الماضيين كبير عدد من هؤلاء، فلما انتهيت إليه قال: أقعد ثم قال: ناظروه كلموه فجعلوا يناظرونني، يتكلم هذا فأرد عليه، و يتكلم هذا فأرد عليه، و جعل صوتي يعلوا أصواتهم، فجعل بعض من على رأسه قائم يومئ إلي بيده، فلما طال المجلس نحاني ثم خلا بهم، ثم نحاني و ردني إلى عنده، فقال ويحك يا أحمد أجبني حتى أطلق عنك بيدي فرددت عليه نحوا مما كنت أرد، فقال: عليك و ذكر اللعن، و قال خذوه و اسحبوه و اخلعوه، قال فسحبت ثم خلعت.
قال: و كان قد صار إلي شعر من شعر النبي صلى الله عليه و سلم في كم قميصي فوجه إلي إسحاق ابن إبراهيم ما هذا المصرور في كم قميصك؟ قلت: شعر من شعر رسول الله صلى الله عليه و سلم. قال: و سعى بعض القوم إلى القميص ليخرقه علي، فقال لهم – يعني المعتصم – لا تخرقوه، فنزع القميص عني، قال: فظننت أنه إنما درأ عن القميص الخرق بسبب الشعر الذي كان فيه. قال: و جلس المعتصم على كرسي ثم قال: العقابين و السياط فجيء بالعقابين فمدت يداي، فقال بعض من حضر خلفي: خذ نأي الخشبتين بيدك، و شد عليهما، فلم أفهم ما قال: فتخلعت يداي. و لما جيء بالسياط، نظر إليهم المعتصم و قال للجلادين: تقدموا فجعل يتقدم إلي الرجل منهم فيضربني سوطين، فيقول له شد قطع الله يدك. فلما ضربت تسعة عشر سوطا قام إلي – يعني المعتصم – و قال: يا أحمد، علام تقتل نفسك إني – و الله – عليك لشفيق. قال فجعل عجيفينخسني بقائمة سيفه و قال: أتريد أن تغلب هؤلاء كلهم، و جعل بعضهم يقول: ويلك الخليفة على رأسك قائم و قال بعضهم: يا أمير المؤمنين، دمه في عنقي، أقتله. و جعلوا يقولون يا أمير المؤمنين، أنت صائم، و أنت في الشمس قائم فقال لي ويحك يا أحمد ما تقول: فأقول أعطوني شيئا من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم أقول به فرجع و جلس و قال للجلاد: تقدم و ارجع قطع الله يدك، ثم قام الثانية فجعل يقول: ويحك يا أحمد أجبني، فجعلوا يقبلون علي و يقولون: يا أحمد إمامك على رأسك قائم، و جعل عبد الرحمان يقول: من صنع من أصحابك في هذا الأمر ما تصنع؟ و جعل المعتصم يقول: ويحك أجبني إلى شيء لك فيه أدنى فرج حتى أطلق عنك بيدي، فقلت: يا أمير المؤمنين، أعطوني شيئا من كتاب الله. فيرجع. و قال للجلادين تقدموا، فجعل الجلاد يتقدم و يضربني سوطين و يتنحى، و هو في خلال ذلك يقول: شد قطع الله يدك، قال أبي: فذهب عقلي، فأفقت بعد ذلك، فإذا الأقياد قد أطلقت عني، فقال لي رجل ممن حضر: إنا كببناك على وجهك، وطرحنا على ظهرك بارية و دسناك، قال أبي: فما شعرت بذلك، و أتوني بسويق و قالوا لي: اشرب و تقيأ. فقلت: لا أفطر، ثم جيء بي إلى دار إسحاق بن إبراهيم فحضرت صلاة الظهر، فتقدم ابن سماعة فصلى بنا، فلما أنفتل من الصلاة قال لي: صليت و الدم يسيل في ثوبك، فقلت قد صلى عمر و جرحه يثعب دما، و يقول ابنه صالح ثم خلي عنه و صار إلى منزله، و كان مكثه منذ أخذ و حمل إلى أن ضرب و خلي عنه ثمانية و عشرين شهرا، و لقد أخبرني أحد الرجلين اللذين كانا معه قال: يا ابن أخي رحمة الله على أبي عبد الله، و الله ما رأيت أحدا يشبهه، و لقد جعلت أقول في وقت ما يوجه إلينا بالطعام: يا أبا عبد الله، أنت صائم و أنت في موضع تقية، و لقد عطشت، فقال لصاحب الشراب: ناولني فناوله قدحا فيه ماء و ثلج، فأخذه و نظر إليه هنيهة ثم رده و لم يشرب فجعلت أعجب من صبره على الجوع و العطش و هو فيما هو فيه من الهول. قال صالح: كنت ألتمس و أحتال أن أوصل إليه طعاما أو رغيفا في تلك الأيام، فلم أقدر و أخبرني رجل حضره أنه تفقده في هذه الأيام الثلاثة و هم يناظرونه، فما لحن في كلمة، قال: و ما أظن أحدا يكون في شجاعته و شدة قلبه. و يرحم الله الأستاذ أبا الحسن على الحسنى الندوي إذ يقول: مستخلصا العبر من محنة هذا الإمام العالم الرباني: (و هكذا تنتهي هذه القصة التي لا تزال حجة بطولة الإمام أحمد و قوة العقيدة و عجائب صنع الإيمان، و قد كان من ثبات ابن حنبل و شجاعته و إخلاصه أن انطفأت عقيدة خلق القرآن، و انطفأت معها حركة الاعتزال حتى بقيت مدفونة في كتب الملل و النحل و علم الكلام، و انتصر الإمام العلم أحمد بن حنبل بإيمانه و شجاعته و كان انتصاره دليلا على انتصار الإخلاص و العزم على القوة و الدولة و المعارضات الشديدة و العقوبات الموجعة، و انهزمت حكومة هي من أقوى الحكومات و أوسعها في عصرها، و انهزم معها كل من والاها و التف تحت رايتها من أهل العلم و الجدل و الذكاء و المناصب و الرايات، و كان المعتزلة لو انتصروا في المحنة فاستطاعوا بسيطرتهم العملية و السياسية على البلاط أن يعاقبوا منافسيهم و رئيس الحزب الذي يعارضهم بما شاءوا و ينفذوا فيه إرادتهم و لكنهم خسروا دولتهم، و فقدوا سلطانهم، و قطعوا صلتهم بالشعب، فقد كرههم منذ ذلك اليوم كراهية شديدة، و انصرفت القلوب عنهم، و لم يزل نجمهم في أفول حتى غرب من غير رجعة غير مأسوف عليه. قال الدكتور أحمد أمين (و لم يسترد المعتزلة يوما ما هيبتهم بعد المحنة) (أوقدوا النار فأحرقتهم “و لا يحيق المكر السيئ إلا بأهله”) و خرج أحمد من هذه المحنة خروج السيف من الجلاء و البدر من الظلماء، كما قال بعض معاصريه (أدخل الكير فخرج ذهبا أحمر) و لم يزل بعد ذلك اليوم في صعود و اعتلاء حتى تواضعت القلوب على حبه، و أصبح حبه شعار أهل السنة و اهل الصلاح ، حتى نقل عن أحد معاصريه قتيبةأنه قال (إذا رأيت الرجل يحب أحمد بن حنبل فاعلم أنه صاحب سنة) و قال أحمد بن إبراهيم الدورقي: (من سمعتموه يذكر أحمد ابن حنبل بسوء فاتهموه على الإسلام)، قال بعض الشعراء:
أضحى ابن حنبل محنة مأمونة
و بحب أحمد يُعرف المتنسك
و إذا رأيت لأحمد متنقصــا
فاعلم بأن ستوره ستــهتك
و قد اعترف معاصروه بأن غناءه للإسلام و في الدفاع عن القرآن كان عظيما، و أنه سد ثلمة عظيمة كادت تحدث في الإسلام.
و شبهوا يوم المحنة بيوم الردة و قرنوا ذكر أحمد بن حنبل بذكر أبي بكر الصديق، و كفى به عظمة، قال علي بن المديني أحد أئمة الحديث في عصره و من شيوخ البخاري: (إن الله أعز هذا الدين بأبي بكر الصديق يوم الردة و بأحمد بن أبي حنبل يوم المحنة) و ليس سر عبقرية أحمد بن حنبل في دفاعه عن عقيدة من عقائد الإسلام، و انتصاره لها – و فضله في ذلك لا ينكر – و لكن مأثرته الكبرى التي أكسبته منصب التجديد هو أنه وقف سدا منيعا في اتجاه هذه الأمة إلى التفكير الفلسفي المتهور الذي لو سيطر على هذه الأمة لانقطعت صلتها بالتدريج عن منابع الدين الأولى، و عن النبوة المحمدية، و خضعت هذه الأمة للفلسفات، و أصبحت عرضه للآراء و القياسات، و انتصرت الحكومة على الشعب و السياسة على الذين انتصارا مؤبدا، و سلبت حرية الرأي و العقيدة و لا شك أنها رزية جليلة، و فتنة عظيمة في الإسلام و قد قضى عليها أحمد بن حنبل، و هي في شبابها و أوجها و حفظ هذا الدين من أن يعبث، به العابثون، و تتحكم فيه السلطة و الأهواء و حفظ هذه الأمة من أن تكون في حضانة الملوك الشباب الثائرين المتهورين و بطانتهم يفرضون عليها العقائد فرض الجباياتو يسوقونها إلى أهوائهم سوق المواشي و الحيوانات. و رد إلى العقيدة الإسلامية أصالتها و سلاستها و يسرها و إلى الأمة حريتها و شخصيتها، فاستحق بذلك تقدير الإنسانية و ثناء المسلمين و محبتهم و اعتراف الأجيال القادمة بفضله و إجلال التاريخ و إكباره، فكان من المجددين الكبار في الإسلام.
رحمة الله عليه و جزاه عن الإسلام و المسلمين خيرا.
(المصدر: رابطة علماء المسلمين)