مقالاتمقالات مختارة

نماذج من الفساد الاقتصادي كما عرضها القرآن الكريم

نماذج من الفساد الاقتصادي كما عرضها القرآن الكريم

بقلم حمزة شواهنة

إن العالم اليوم يعاني من محن متوالية، ولعل من أبرز تلك المحن استشراء ظاهرة الفساد، ومن أسوأ صور هذا الفساد ظاهرة الفساد الاقتصادي، وقد بُذلت عالمياً جهود مضنية في مكافحته، إلا إنها لم تفلح، حيث تؤكد تقارير المنظمات الدولية أن حجم الفساد المالي في العالم الإسلامي تجاوز نصف الفساد العالمي[1] فجاء هذا المقال ليسلط الضوء على نماذج بشرية عرضها القرآن الكريم وقعت في هذه الظاهرة الخطيرة؛ وذلك لأخذ العبر منها، فيحذر الجميع من السير في ركاب الفاسدين والمفسدين، فالسعيد من وعظ بغيره، والشقي من اتعظ بنفسه، وسأخصص الحديث في هذا المقال في العناصر الآتية:

المقصود بمصطلح الفساد الاقتصادي في المفهوم القرآني:

الفساد الاقتصادي في المفهوم القرآني أشمل وأوسع مما هو عليه في الاقتصاد الوضعي؛ إذ يحصر المفهوم الوضعي الفساد الاقتصادي في استغلال الوظيفة في الأنظمة الإدارية لمصلحة شخصية، بينما يتوسع المفهوم القرآني في معناه ليشمل كل مخالفة لأحكام الله تعالى ما دامت تتعلق بالجانب المالي، إضافة إلى اعتباره أن أي كسب للمال لا يأتي من طريق شرعي أو إنفاق للمال في غير منفعة يعد فساداً، في حين يسميه الاقتصاد الوضعي حوافز ومسابقات ورفاهية وفائدة.

عناية القرآن بعلاج ظاهرة الفساد الاقتصادي:

لظاهرة الفساد الاقتصادي في القرآن الكريم أهمية بالغة، ومما يشير إلى ذلك ورود مادة «فسَد» في القرآن الكريم في أكثر من خمسين موضعاً بمشتقاتها المتعددة[2]، وهذا دليل بيِّن على الأهمية القصوى التي تحظى بها هذه الظاهرة الاجتماعية، فضلاً عن كثرة الآيات التي نددت بالفساد، وتوعدت الفاسدين، إضافة لعرض القرآن الكريم نماذج بشرية فسدت في هذا الجانب.

نماذج بشرية من الفساد الاقتصادي في ضوء قصص القرآن الكريم:

نظراً لسوء أثر الفساد الاقتصادي على المجتمع سواء على المستوى الاقتصادي أو السياسي أو الاجتماعي، فقد عرض التنزيل العزيز نماذج عديدة لأناس وقعوا في صور من هذا اللون من الفساد، فهذا نموذج صاحب الجنتين قد مثَّل لصورة الفساد العقدي الناتج عن الرخاء الاقتصادي، والافتخار بالنعم، كما حكى سبحانه وتعالى عنه:‏ {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِـمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا 35 وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا} [الكهف: 35، 36].

وتمثل الفساد الاقتصادي في نموذج المفسد قارون في صورة تفاخره بملابسه، وتكبُّره بسبب ثرائه، إضافةً لمنعه حق الفقراء مما أنعم الله تعالى عليه، فقال تعالى: {إنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص: 78].

وتمثل الفساد الاقتصادي في نموذج أصحاب الجنة بصورة تعطيل الزكاة والصدقات، فقال تعالى: {أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إن كُنتُمْ صَارِمِينَ 22 فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ 23 أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ} [القلم: 22 – 24].

وتمثل الفساد الاقتصادي في نموذج قوم سبأ بصورة بطر النعمة، ومقابلة النعم بالإعراض والاستكبار، فقال تعالى: {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ 16 ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إلَّا الْكَفُورَ} [سبأ: 16، 17].

وتمثل الفساد الاقتصادي في نموذج قوم عاد بصورة استعمال المباني للهو وإظهار القوة، كما حكى سبحانه وتعالى‏ إنكار نبيهم هود عليه السلام عليهم بقوله:‏ ‏{أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ 128 وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ 129 وَإذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ 130فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء: 128 – 131].

وتمثل الفساد الاقتصادي في نموذج ثمود بصورة إهدار المال في المباني، والإسراف المفرط في إنشائها من دون حاجة لسُكناها، كما حكى سبحانه وتعالى توبيخ نبيهم صالح عليه السلام لهم بقوله:‏ ‏{أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ 146 فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ 147 وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ 148 وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْـجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ 149 فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ 150 وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْـمُسْرِفِينَ 151 الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} [الشعراء: 146 – 152].

وتمثل الفساد الاقتصادي في نموذج قوم شعيب عليه السلام بصورة المعاملات التجارية المنحرفة، وتمثلت في إنقاص حق الغير، وتبخيس السلع، كما حكى تعالى‏ قول شعيب عليه السلام لقومه:‏ ‏{فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْـمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [الأعراف: 85].

وفي نموذج  كفار مكة تمثل فسادهم الاقتصادي بصورة الفساد بكفران النعم، كما حكى تعالى واصفاً مكة:‏ {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْـجُوعِ وَالْـخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ 112 وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِـمُونَ} [النحل: 112، 113].

فوائد من عرض القرآن الكريم لنماذج فاسدة اقتصادياً:

المتأمل في النماذج البشرية السابقة يلحظ شدة اعتناء القرآن الكريم بموضوع الفساد الاقتصادي، ويلحظ أيضاً أن مصطلح الفساد الاقتصادي في المفهوم القرآني أشمل مما هو عليه في الاقتصاد الوضعي، كما يلحظ أن من آثار الفساد الاقتصادي أكل الحقوق، كما تجلى ذلك في نموذجي قارون وأصحاب الجنة، والتأثير أحياناً على معتقد صاحبها، كما تجلى ذلك في نموذج صاحب الجنتين، حيث جره ذلك إلى إنكار البعث والقيامة، كما اتضحت ضرورة الاقتداء بنهج الرسل عليهم السلام والمصلحين من بعدهم في مكافحة الفساد الاقتصادي، كما ظهر ذلك في محاربة شعيب عليه السلام للفساد الاقتصادي الذي وقع من قومه، وتحذير هود وصالح عليهما السلام قوميهما من الترف، واليوم لا بد من قيام الغيورين والمصلحين بإنكار هذا الفساد، وينبغي أن يتصدر العلماء الربانيون صفوف الغيورين ممن يحملون لواء الإصلاح، وأن يعايشوا قضايا الشعوب وهمومها، فالناس تنتظر من العالم والمثقف موقفاً شجاعاً، حتى يصدِّق موقفه علمه، فها هم العلماء المؤمنون من قوم قارون لم يسكتوا على فساد الطاغية قارون، كما قص تعالى ‏ذلك الإنكار:‏ {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّـمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِـحًا وَلا يُلَقَّاهَا إلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص: 80]، ومما يستفاد أيضاً أن من أسباب دوام النعم وازديادها الإحسان إلى  المحتاجين، كما أن من أسباب زوال النعم الإساءة إلى خلق الله، كما ظهر ذلك في أصحاب الجنة، حيث تحولت ثمار الحديقة إلى محترقة سوداء لا ينتفع منها بشيء، ومما يستفاد كذلك أن الفساد الاقتصادي أحد أعظم أسباب الهلاك وتلف الأموال، فمن يتأمل في عواقب كل تلك النماذج التي أساءت في جانب الاقتصاد يجد أن عاقبتها جميعاً في الدنيا الهلاك والدمار، والواقع المعاصر يشهد انهيار حكومات وأنظمة بسبب الفساد الاقتصادي الذي تغلغل في مؤسسات بعض الدول.

 

[1] لمزيد من التوضيح يمكن الاطلاع على تقارير منظمة الشفافية الدولية على الموقع الإلكتروني التالي: (https://www.transparency.org )

[2] انظر: محمد فؤاد عبد الباقي، المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، ص518-519.

(المصدر: مجلة البيان)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى