
نماذج علمائيّة ملهمة
الإمام مسلم رحمه الله تعالى
بقلم د. علي محمد الصلابي( خاص بالمنتدى)
(الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)
الإمام مسلم رحمه الله أحد الأئمة الحفاظ وأعلام المحدثين، الذي أُجمع على جلالته وإمامته، وهو من أهل الحفظ والإتقان، إنه الإمام المحدث أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري الكعبي النيسابوري رضي الله عنه ورحمه.
اسمه ونسبه وولادته:
هو الإمام أبو الحسن مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري نسباً، النيسابوري وطناً، ولد الإمام مسلم سنة أربع ومائتين كما في خلاصة تهذيب الكمال للخزرجي، وتهذيب التهذيب وتقريبه للحافظ ابن حجر العسقلاني، وكذا في البداية والنهاية لابن كثير قال بعد أن ذكر وفاته سنة إحدى وستين ومائتين: “وكان مولده في السنة التي توفي فيها الشافعي وهي سنة أربع ومائتين فكان عمره سبعاً وخمسين سنة رحمه الله تعالى” (الإمام مسلم وصحيحه، عبد المحسن العباد، ص30).
نشأته ورحلاته:
هو أحد كبار الحفّاظ، طلب الحديث صغيرًا، وكان أول سماعه له سنة 218 هـ، وعمره آنذاك اثنتا عشرة سنة، أخذ العلم أولاً عن شيوخ بلاده وسمع الكثير من مروياتهم، وكانت له رحلةٌ واسعة في طلب الحديث، طاف خلالها البلاد الإسلامية عدة مرات (تاريخ التراث العربي، فؤاد سزكين، جـ 1، صـ 263). حتى سمي برحالة الحديث، رحل إلى الحجاز لأداء فريضة الحج والسماع من أئمة الحديث وكبار الشيوخ، وزار المدينة النبوية ومكة المكرمة، ورحل إلى العراق، فدخل البصرة وبغداد والكوفة، ورحل إلى الشام ومصر والري. فمكث قرابة الخمسة عشرة عامًا في طلب الحديث، لقي فيها عددًا كبيرًا من الشيوخ، وجمع ما يزيد على ثلاثمائة ألف حديث. أثنى عليه علماء عصره ومن بعدهم، واعترفوا له بإمامته وبالتقدم والإتقان في علم الحديث، وأخذ الحديث عن أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي زرعة الرازي وغيرهم، وتتلمذ على الإمام محمد بن إسماعيل البخاري، وله مصنفات أخرى غير صحيحه في علم الحديث وعلم الرجال؛ لكنَّ أغلبها مفقود (صلاح الأمة في علو الهمة، سيد حسين العفاني، جـ 1، صـ 315).
صفاته وشمائله:
أورد الذهبي في صفته، عن أبي عبد الرحمن السلمي يقول: “رأيت شيخًا حسن الوجه والثياب، عليه رداء حسن، وعمامة قد أرخاها بين كتفيه. فقيل: هذا مسلم. فتقدم أصحاب السلطان، فقالوا: قد أمر أمير المؤمنين أن يكون مسلم بن الحجاج إمام المسلمين، فقدموه في الجامع، فكَبَّر، وصَلَّى بالناس (سير أعلام النبلاء: الذهبي، (12 / 566).
وأورد الحافظ ابن حجر من صفته عن الحاكم يقول: “كان تامَّ القامة، أبيض الرأس واللحية، يرخي طرف عمامته بين كتفيه (تهذيب التهذيب: ابن حجر العسقلاني، (10 / 127).
كان رحمه الله تعالى عالي الهمة كثير النشاط، ذا صبر في الطلب والتحصيل، وليس أدل على ذلك من كثرة رحلاته وتطوافه في البلدان الإسلامية، ويدل أيضاً على علو همته وصبره ونشاطه بحثه الطويل عن حديثٍ حتى استغرق منه ليلة بتمامها، وقد وصفه عبد العزيز الدهلوي في بستان المحدثين بأنه: ما اغتاب أحداً في حياته ولا ضرب ولا شتم، فإنه كان له رحمه الله ملكة حسنة، ويضع الأشياء في مواضعها، وكان إماماً ثقه جليل القدر، من كبار العلماء يتسم بالورع والعبادة والعلم الواسع، والاحتياط لدينه، لذلك عظم في أعين الناس وعلت منزلته وسمت مكانته، وبالجملة فإن مناقبه مشهورة وسيرته مشكورة (الإمام مسلم بن الحجاج، مشهور سلمان، ص26).
شخصيته العلمية
وقد بدأ مسلم رحمه الله تعالى بسماع الحديث منذ 12 من عمره، وقد زادت رغبته في طلب الحديث فواظب على جمع الأحاديث وحفظها وتحقيقها.
كان حريصاً على تمييز الأحاديث الصحيحة من غيرها ومعرفة علل الحديث والاطلاع على أحوال رواة الحديث، ومعرفة عدالتهم وضبطهم وأمانتهم وصدقهم ومعيشتهم ومسكنهم ومولدهم ووفياتهم، ولقائهم فيما بينهم، ومقارنة الأسانيد بعضها ببعض، ومعرفه اتصالها وانقطاعها والبلوغ بالفنون الحديثية إلى أسمى مكانتها، وخلاصة القول أن مسلماً كان مغرماً بهذه الأمور كلها منذ البداية، ومع مرور الأيام وانقضاء الليل والنهار كانت هذه الأفكار تترسخ في قلبه وتتقوى، فاتسمت شخصية الإمام مسلم بالبحث العلمي الجاد، ولم تتح له ظروف عصره أن يظهر بما ظهر به الإمام البخاري من الجاذبية العلمية العنيفة والبروز الحاد، ولكنه مع ذلك استطاع أن يلفت الأنظار إليه بشدة حينما أظهر صحيحه الذي أصبح صنو صحيح البخاري، وأصبح به ثاني اثنين في جمع الصحيح من الحديث (أئمة الحديث النبوي، الحسيني عبد المجيد هاشم، ص119).
كان فيض العلم فيما يتصل بالحديث وفنونه، ينهل منه كل طالب، فالتمس الإمام مسلم تحصيل ما يمكن تحصيله وجد واجتهد في طلب العلم، ورحل في سبيل ذلك رحلات عديدة إلى كثير من الأمصار والأقطار، طاف خلالها البلاد الإسلامية عدة مرات (تاريخ التراث العربي، سزكين، م1، ص263).
فضم إلى علم بلده علوم البلاد الأخرى حتى أصبح من حملة التراث الإسلامي بكل ألوانه وصوره، فهو رحمه الله كما يقول الإمام النووي أحد الرحالين في طلبه إلى أئمة الأقطار والبلدان (تهذيب الأسماء واللغات، النووي، م2، ص91).
لقد كان الإمام مسلم رحمه الله تعالى من فقهاء أهل الحديث العاملين به، وكان معظم همه البحث عن معاني كتاب الله عز وجل وما يفسره من السنن الصحيحة، وكلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وعن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحيحها وسقيمها، ثم التفقه فيها وفهمها والوقوف على معانيها، ثم معرفه كلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وهذه هي طريقه أهل الحديث الربانيين (المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل، عبد القادر بن محمد بدران، ص122).
صحيح مسلم وميزاته:
(1) قَالَ أَحْمَد بن سَلَمَةَ: كُنْت مَعَ مُسْلِم فِي تَأَلِيف (صَحِيْحه) خَمْسَ عَشْرَةَ سنَة (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ12صـ 566)
(2) قال مسلم بن الحجاج: صنَّفْتُ هَذَا (المُسْنَد الصَّحِيْح) مِنْ ثَلاَث مائَة أَلْف حَدِيْث مَسْمُوْعَة (تاريخ بغداد للخطيب البغدادي جـ13صـ 101)
(3) قَالَ مَكِّيّ بن عبدَان: سَمِعْتُ مسلمًا يَقُوْلُ: عرضت كِتَابِي هَذَا (المُسْنَد) عَلَى أَبِي زُرْعَةَ، فُكُلُّ مَا أَشَار عليّ فِي هَذَا الكِتَاب أَن لَهُ عِلَّة وَسببًا تركته، وَكُلّ مَا قَالَ: إِنَّهُ صَحِيْح لَيْسَ لَهُ علَّة، فَهُوَ الَّذِي أَخرجت، وَلَوْ أَنَّ أَهْل الحَدِيْث يَكْتُبُوْنَ الحَدِيْث مَائَتَي سنَة، فمدَارهُم عَلَى هَذَا المُسْنَد (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ12صـ 568)
(4) عَدَدُ أحاديث صحيح مسلم: أربعة آلاف حديث دون المكرر، وبالمكرر: اثنا عشر ألف حديث (مسلم بشرح النووي جـ1صـ40)
(5) انفرد مسلمُ بفائدة حسنة وهي كونه أسهل متناولًا من حيث أنه جعل لكل حديث موضعًا واحدًا يليق به، جمع فيه طرقه التي ارتضاها واختار ذكرها، وأورد فيه أسانيده المتعددة وألفاظه المختلفة، فيسهل على الطالب النظر في وجوهه واستثمارها، ويحصل له الثقة بجميع ما أورده مسلم من طرقه بخلاف البخاري، فإنه يذكر تلك الوجوه المختلفة في أبواب متفرقة متباعدة، وكثير منها يذكره في غير بابه الذي يسبق إلى الفهم أنه أولى به، وذلك لدقيقة يفهمها البخاري منه، فيصعب على الطالب جمع طُرق الحديث. (مسلم بشرح النووي جـ1صـ31)
أقوال العلماء في مسلم:
(1) قال مُحَمَّدُ بنُ بَشَّار: حُفَّاظ الدُّنْيَا أَرْبَعَة: أَبُو زُرْعَةَ بِالرَّيّ، وَمُسْلِم بِنَيْسَابُوْرَ، وَعَبْد اللهِ الدَّارِمِيّ بِسَمَرْقَنْدَ، وَمُحَمَّد بن إِسْمَاعِيْلَ بِبُخَارَى (تاريخ بغداد للخطيب البغدادي جـ2صـ 16)
(2) قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بنُ يَعْقُوْبَ بنِ الأَخْرَم الحَافِظ: إِنَّمَا أَخْرَجَتْ نَيْسَابُوْرُ ثَلاَثَةَ رِجَال: مُحَمَّد بن يَحْيَى، وَمُسْلِم بن الحَجَّاجِ، وَإِبْرَاهِيْم بن أَبِي طَالِبٍ (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ12صـ 565)
(3) قال إِسْحَاقُ الكَوْسَج: لَنْ نعْدم الخَيْر مَا أَبقَاك الله لِلْمُسْلِمِيْنَ (تذكرة الحفاظ للذهبي جـ2صـ 589)
(4) قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيّ: رَأَيْتُ شَيْخًا حسن الوَجْه وَالثِّيَاب، عَلَيْهِ رِدَاء حسن، وَعِمَامَة قَدْ أَرخَاهَا بَيْنَ كَتفيهِ. فَقِيْلَ: هَذَا مُسْلِم. فَتَقَدَّم أَصْحَاب السُّلْطَان، فَقَالُوا: قَدْ أَمر أَمِيْر المُؤْمِنِيْنَ أَنْ يَكُوْنَ مُسْلِم بن الحَجَّاجِ إِمَام المُسْلِمِيْنَ، فَقَدَّمُوهُ فِي الجَامِع، فكبَّر، وَصَلَّى بِالنَّاسِ (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ12صـ 566).
(5) قال ابنُ حجر العسقلاني: حصل لمسلم في كتابه حظ عظيم مُفْرِط لم يحصل لأحدٍ مثله، بحيث أن بعض الناس كان يفضله على صحيح محمد بن إسماعيل، وذلك لما اختص به من جميع الطرق وجودة السياق، والمحافظة على أداء الألفاظ كما هي من غير تقطيع ولا رواية بمعنى، وقد نسج على منواله جماعةٌ عن النيسابوريين فلم يبلغوا منزلة مسلم. وحفظت منهم أكثر من عشرين إمامًا ممن صنف المستخرج على مسلم فسبحان المعطي الوهاب (تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني جـ5صـ427).
وفاة الإمام مسلم:
تُوفي مُسلم بن الحجاج بنيسابور عشية يوم الأحد ودُفِنَ يوم الاثنين الخامس والعشرون من شهر رجب سنة إحدى وستين ومائتين من الهجرة (تاريخ بغداد للخطيب البغدادي جـ13صـ 103).
المراجع:
- الإمام مسلم وصحيحه، عبد المحسن العباد، الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، 1970م.
- تاريخ التراث العربي، فؤاد سزكين، طبعة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
- صلاح الأمة في علو الهمة، سيد حسين العفاني، مؤسسة الرسالة.
- سير أعلام النبلاء: الذهبي
- تهذيب التهذيب، ابن حجر العسقلاني
- الإمام مسلم بن الحجاج، مشهور سلمان، دار القلم، ط1، دمشق، 1994م.
- الإمام مسلم، حياته وصحيحه لمحمود فاخوري، دار السلام للطباعة والنشر، 2007م.
- أئمة الحديث النبوي، الحسيني عبد المجيد هاشم، منشورات المكتبة العصرية، بيروت.
- تهذيب الأسماء واللغات، النووي.
- المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل، عبد القادر بن أحمد بن مصطفى بن عبد الرحيم بن محمد بدران، مؤسسة الرسالة – بيروت.
- تاريخ بغداد للخطيب البغدادي
- مسلم بشرح النووي
- تذكرة الحفاظ للذهبي
إقرأ أيضا:الشيخ أبو إسحاق الحويني مثال التسامح