
نماذج علمائيّة ملهمة
(34) سعيد بن المسيب رحمه الله
بقلم د. علي محمد الصلابي(الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين) ( خاص بمنتدى العلماء)
يعتبر سعيد بن المسيب رحمه الله من كبار علماء التابعين وأعلامهم، وقد اشتهر بين أقرانه في زمانه، فهو عالم أهل المدينة، المقدم في الفتوى في دهره، تميزت حياته بالجد والورع والزهد والتواضع وحب العبادة والمجاهرة بالحق، ورفض أن يداهن الحكام أو يصانع الظلمة والطغاة بغية عرض من الدنيا.
اسمه ونسبه وكنيته:
هو سعيد بن المسيّب بن حزن بن أبي وهب المخزومي القرشي، أبو محمد، سيد التابعين، وأحد الفقهاء السبعة بالمدينة، جمع بين الحديث والفقه والزهد والورع، وكان يعيش من التجارة بالزيت، لا يأخذ عطاءً، وكان أحفظ الناس لأحكام عمر بن الخطاب وأقضيته، حتى سمّي راوية عمر (سير أعلام النبلاء، الذهبي، 4/ 217).
مولده ونشأته:
ولد سعيد في المدينة المنورة بعد استخلاف عمر بسنتين أي سنة 15ه، وهذا هو أرجح الروايات، بدليل قول ابن عمر: والذي رأيت عليه الناس في مولد سعيد بن المسيب أنه ولد لسنتين خلتا من خلافة عمر”، وقال سعيد عن نفسه: ولدت لسنتين مضتا من خلافة عمر بن الخطاب (طبقات ابن سعد، م5، ص119).
نشأ سعيد وتربّى في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مهبط الوحي وموئل الهداية، وعاصمة الخلفاء الراشدين، ومقر الصحب البررة الكرام، فأصبحت مأوى الفقهاء ومجمع العلماء، ومهد السنة، ودار الفقه، ومنبع الحديث، وكان لهذه النشأة أثرها الكبير في تكوين شخصية ابن المسيب، قوةً وعزة وصلابة في الحق واستقامة في السلوك، وزهداً وورعاً وتديناً، حتى لقب براهب قريش، وسداداً في القول والعمل، وخصوبة في العلم والثقافة، وجرأة في الفتيا، بسبب مخالطته الصحابة وتلقيه عنهم الآثار والأحاديث النبوية، فكان خير خلف لخير سلف.
وعصر سعيد بن المسيب هو عصر التابعين، وهو عصر متداخل مع عصر الصحابة، فقد كان كبار التابعين وعلى رأسهم سعيد بن المسيب يفتون بالأمصار مع وجود الصحابة فيها، وقد استفاد سعيد فعلاً من علم الصحابة، فوهبه الله علماً واسعاً، وفي الجملة كانت البيئة التي عاش فيها بيئة علمية برزت فيها عبقريات فذة، وكان ابن المسيب من المفتين في المدينة، من بين الفقهاء السبعة المعروفين، وكل العلماء متفقون على أن أفضل هؤلاء الفقهاء هو ابن المسيب، قال الخزرجي عنه: “رأس علماء التابعين وفردهم وفاضلهم وفقيههم” (سعيد بن المسيب، الزحيلي، ص18ــ 28).
أخلاقه وشمائله:
لم يكن ابن المسيب إلا مثلاً أعلى للقيم والفضائل والنشاط، والطموح والرجولة، والتدين المتين، وكان بادي الإيمان، متنوراً بنور الله متشبع القلب والجوارح، بسبب صلاحه وتقواه بالبهاء والصفاء والنورانية الربانية، التي تتفتح أمامها الظلمات، وتستضيئ بها الحوالك، وكان رحمه الله يسهر ليله بالصلاة، ويظمأ نهاره بالصوم، ويضني نفسه في الأسفار لحج بيت الله الحرام، حتى أنه لقب بـ : (راهب قريش) لعبادته وفضله، فقد جمع بين روح العبادة وحقيقتها، وبين مراسمها وكيفيتها المشروعة، فاعتبر أن التفقه في الدين والتفكر في أوامر الله، والورع عن محارم الله، وأداء فرائض الله هو العبادة (سعيد ابن المسيب، الزحيلي، بتصرف)، وقال: برد مولى ابن المسيب لسعيد بن المسيب: “ما رأيت ما أحسن ما يصنع هؤلاء! قال سعيد: وما يصنعون؟ قال: يصلي أحدهم الظهر، ثم لا يزال صافاً رجليه حتى يصلي العصر. فقال: ويحك يا برد ! أما والله ما هي العبادة، إنما العبادة التفكر في أمر الله، والكف عن محارم الله “(سير أعلام النبلاء، الذهبي، ص 3/239) (الدولة الأموية، الصلابي، ص 124)
ومما قاله عن نفسه أنه إذا دخل الليل قال: “قومي يا مأوى كل شر، والله لأدعنك تزحفين زحف البعير، فكان يصبح وقدماه منتفختان، فيقول لنفسه: بذا أمرت، ولذا خلقت”، ويذكر أنه صلى فرض الصبح بوضوء العشاء خمسين سنة، وكان يحافظ على صلاة الجماعة، لم تفته التكبيرة الأولى في الصف الأول منذ خمسين سنة، وأما عن الحج يقول ابن حرملة: سمعت ابن المسيب يقول: لقد حججت أربعين حجة (سعيد ابن المسيب، الزحيلي، بتصرف).
علمه وحركته العلمية:
نشأ سعيد في المدينة المنورة، واجتهد في طلب العلم من علمائها، فسمع من زيد بن ثابت وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عباس وابن عمر، وسمع من زوجات النبي محمد ﷺ عائشة بنت أبي بكر وأم سلمة، كما سمع من عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وصهيب الرومي ومحمد بن مسلمة، وكان يسير الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد، ولزم أبا هريرة وسمع منه، وتزوج من ابنته، فأصبح سعيد أعلم الناس بحديث أبي هريرة، كما لزم عمر بن الخطاب في صباه، حتى سُمّي «راوية عُمر» لأنه كان أحفظ الناس لأحكامه وأقضيته ( الطبقات الكبرى، ابن سعد، م5).
وكان سعيد دائم الحركة والنشاط في سبيل الله، وفي انتهال العلم ونشر التعليم، مما بوأه مكانة رفيعة غي عصره، وأحله منزلة عالية في نفوس الناس جميعاً، وقد وهب ابن المسيب ذكاءً حاداً، ونباهة عالية، وذاكرة مدهشة وعجيبة، قال عمران بن عبدالله الخزاعي: والله ما أراه مرّ على أذنه شيئ قط إلا وعاه قلبه، لهذا قيل في سعيد: ” وكان سعيد جامعاً ثقة، كثير الحديث، ثبتاً فقيهاً مفتياً مأموناً ورعاً عالياً رفيعاً، وكان له حلقة علمية دائمة في المسجد النبوي، يتدارس العلم ويدرسه، وينشر معارفه وعلومه في التفسير والحديث ويجتهد، يأتيه الناس من كل مكان يسألونه، فكان يفتي الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحياء، فمجالسه كانت بحراً يتدفق بالعلم والنور والمعرفة والموعظة الحسنة، والفقه، ولقد اهتم بالفقه كثيراً حتى سمي: فقيه الفقهاء، ومن أشهر تلامذته: الذين رووا عنه خلقاً كثيراً: ابنه محمد، وسالم بن عبدالله بن عمر، ومحمد بن شهاب الزهري، وعمرو بن دينار، وكان رضي الله عنه يعظم الحديث النبوي ويتأدب عند روايته، قال طلحة بن محمد بن سعيد بن المسيب: دخل المطلب بن حنطب على سعيد بن المسيب في مرضه، وهو مضطجع، فسأله عن حديث، فقال أقعدوني، فأقعدوه، قال: إني أكره أن أحدث حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا مضطجع، فابن المسيب ثقة من أعلام رواة الحديث، وبالجملة فإنه: إمام في الحديث، والتفسير والفقه والوعظ وتعبير الرؤيا، وقد أجمع المحدثون على ثقته وضبطه، وحبه للسنة وحرصه عليها، قال ابن حجر: اتفقو على أن مرسلاته أصح المراسيل، واشتهر رضي الله عنه بالفقه والفتوى، لأنه كان فقيه النفس، واسع العلم، خصب المعرفة، وأعلم الناس بالقضاء، وكانت الفتوى إذا جاءت المدينة تتردد بين علمائها إلى أن تصل غليه فيفتي، وله أثر وحكمة في حسن الموعظة، يجيد النصح والتذكير والتخويف” ( سعيد بن المسيب، سابق، ص 80 ـ 171ــ بتصرف)
يعود للإمام ابن المسيب الفضل الكبير في حفظ ونقل وتثبيت الثروة العلمية الإسلامية من المعاني القرآنية والأحاديث النبوية والآثار الاجتهادية، ويعتبر من الرواد الأوائل الذين شقوا الطريق أمام حركة اجتهادية واسعة في الإسلام.
ثناء العلماء عليه:
قال عنه ابن كثير: “سيد التابعين على الإطلاق”.
وقال عنه الذهبي: “الإمام، العلم، أبو محمد القرشي، المخزومي، عالم أهل المدينة، وسيد التابعين في زمانه”.
وعن سعيد بن إبراهيم، “أنه سمع ابن المسيب يقول: ما أحد أعلم بقضاء قضاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا أبو بكر، ولا عمر مني”.
وعن نافع: أن ابن عمر ذكر سعيد بن المسيب، فقال: هو -والله- أحد المفتين.
وقال أحمد بن حنبل وغير واحد: “مرسلات سعيد بن المسيب صحاح”.
وقال قتادة ومكحول والزهري وآخرون -واللفظ لقتادة-: “ما رأيتُ أعلم من سعيد بن المسيب”.
وعن ميمون بن مهران، قال:” أتيتُ المدينة، فسألتُ عن أفقه أهلها، فدفعتُ إلى سعيد بن المسيب”.
وعن شهاب بن عباد العصري: حججتُ، فأتينا المدينة، فسألنا عن أعلم أهلها، فقالوا: سعيد.
وكان عمر بن عبد العزيز يقول: ما كان بالمدينة عالمٌ إلا يأتيني بعلمه، وكنت أوتي بما عند سعيد بن المسيب (سير أعلام النبلاء ط الرسالة، 4/ 217/ 224).
وفاته:
توفي سعيد بن المسيب رضي الله عنه أيام خلافة الوليد بن عبد الملك (86 ـ 96ه)، في المدينة ودفن بها بالبقيع سنة 94ه وهو ابن حوالي ثمانين سنة، وكان يقال لهذه السنة التي مات فيها (سنة الفقهاء)، لكثرة من مات فيها من عامة فقهاء أهل المدينة (تاريخ الطبري، م6، ص491)
المراجع:
ـ الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار، علي محمد الصلابي، ط1، دار ابن كثير، دمشق، 2005.
سير أعلام النبلاء، الذهبي، ط: الرسالة.
ـ صحيح البخاري (8/ 43-6190).
ـ طبقات ابن سعد.
ــ تاريخ الطبري.
سعيد بن المسيب سيد التابعين، وهبة الزحيلي، دار القلم، دمشق، ط5، 1992م.
إقرأ ايضا:الواقع المرير لأهل السنة في لبنان ووجوب العمل على تغييره