بقلم: حماد القباج
نظمت صباح يوم الخميس الماضي كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس بالرباط، بتعاون مع معهد العالم العربي بباريس: لقاء علميا تكريما للمفكر المغربي عبد الله العروي؛ تحت عنوان: “تلقي فكر العروي”، بمشاركة الجامعي والروائي عبد السلام بنعبد العالي، والناطق الرسمي باسم القصر الملكي سابقا حسن أوريد، والأستاذ الجامعي والناقذ الأدبي محمد الداهي.
إن الدعوة إلى تحقيق “القطيعة الثقافية والسياسية مع الماضي”، والسعي “للتطابق مع الآخر”؛ هما العنوانان الأساسيان لمضامين مشروع الأستاذ العروي الذي سماه: “الإيديولوجية العربية المعاصرة”.
وهو المشروع الذي درسه الأستاذ امحمد جبرون دراسة نقدية تكتسي أهميتها من كون صاحبها قد مكنه قربه من العروي واطلاعه الواسع والدقيق على فكره؛ من إبراز حقيقة ذلك المشروع بشكل موضوعي ومتوازن، والجزم بمآله الذي يفضي بالقارئ ضرورة إلى “نكران الذات”، والتجرد من كينونته، وقد انتبهنا إلى هذا المآل الخطير –يقول جبرون-، الذي يقود إليه الإعجاب المفرط، المتفلت من عقال العقل، غير أن وسعنا المعرفي والثقافي لم يمكنا ونحن في سن صغيرة من الرد على أطروحاته، وأفكاره ردا مقنعا، وخوفا من آفة النقد المبتذل، الذي أصيبت بها الثقافة العربية في السنوات الأخيرة، والذي يستتر فيه الضعف الفكري وراء الشتيمة والطعن، والأحكام الجاهزة، في حين يهمل الحجة والدليل العلمي المستند إلى المنطق السليم، ولهذا آثرنا تأجيل القراءة النقدية إلى حين التمكن من مستلزماتها.
لقد انتظرنا مدة تقرب من عشرين سنة قبل كتابة هذا الرد المتكامل على أطروحة العروي الإصلاحية، راكمنا خلالها خبرة علمية، تاريخية، شرعية، مكنتنا من مناقشته بقدر من التوازن في كثير من المعلومات التاريخية وأحوال العرب في الماضي، التي بنى عليها صرحه؛ وأيضا مكنتنا من إعادة النظر في استدلالاته المنطقية ومنهجه في مقاربة الظواهر، ونظن أن المدة الفاصلة بين أول احتكاك بصاحب “الإيديولوجية العربية المعاصرة”، الذي يعود إلى مستهل التسعينات، ولحظة كتابة هذا الرد في بداية العقد الثاني من الألفية الثانية كافية للدلالة على نضج هذه التجربة النقدية، وجديتها، وسلامتها من كثير من الآفات التي وقعت فيها غيرها”.
العروي؛ القيمة والقامة:
يقول الدكتور جبرون: “إن الأستاذ عبد الله العروي، أحد أهرامات الفكر العربي المعاصر، الجديرين بهذا اللقب، الذي تدل أعماله وإنجازاته الفكرية على حيوية العقل العربي ومقدرته الكبيرة على الإبداع والتنظير، بحيث لاقت أطروحاته قبولا لافتا للانتباه في صفوف الشباب والنخبة العربية، وتأثر به الكثيرون من أوطان عربية مختلفة، وفي مستويات مختلفة من الدولة والمجتمع. وقد تجاوز صدى أعماله حدود الوطن العربي إلى أوروبا، والولايات المتحدة الأمريكية. ويفسر هذا الإقبال بعوامل عديدة منها على سبيل المثال لا الحصر: حماسه النهضوي البارز في جل كتاباته تقريبا؛ وصرامته المنهجية؛ وقدرته التنظيرية العالية؛ وانفتاحه الكبير على الفكر الغربي مع استيعاب جزئياته وكلياته في الآن نفسه.
لقد ألف العروي في حقول معرفية مختلفة، وأغرته إشكالات وقضايا متباينة، ففي البداية غلب عليه التاريخ، ثم انصرف للفكر والفلسفة دون أن ينسى حظه مما جبل عليه (التاريخ)، وخلل ذلك كله بأعمال أدبية مهمة، وفي كل هذا العطاء كان العروي ثوريا ومقداما سواء من حيث المنهج أو الأفكار والنتائج. وبالرغم من اشتغاله بكل هذه المجالات، وتأليفه فيها، فإن الجانب الأكثر شهرة وإثارة من بين آثاره مؤلفاته الفكرية، التي تناول فيها إشكالية النهوض بالوطن العربي، وبسط خلالها نظريته الإصلاحية.
يعتبر كتاب “الإيديولوجية العربية المعاصرة” حجر الأساس في المشروع الإصلاحي لعبد الله العروي.
يعود تأليفه إلى سنة 1967م. وتزامن صدوره مع وضع نفسي وسياسي خاص عاشه العالم العربي في هذا الظرف، تسببت فيه الهزيمة القاسية للعرب أمام الكيان الصهيوني، وقد أحدث هذا الظرف رجة ثقافية عنيفة، جعلت النخب العربية تراجع قناعاتها الإصلاحية، وتتطلع إلى صوغ نموذج إصلاحي أكثر صلابة، وفعالية، لتحقيق التقدم، خاصة بعد فشل الرؤية القومية، ومن ثم فأطروحة العروي هي جواب عن هذه الأوضاع، واقتراح نظري يبسط المسالك والدروب المعقدة، التي من شأنها تأمين انتقال الأمة العربية إلى مصاف الدول المتقدمة، وتجاوز التأخر التاريخي الذي تعاني من تبعاته.
بعد “الإيديولوجية العربية المعاصرة”، أصدر العروي سلسلة من المؤلفات الأخرى التي تسير في منحاها، وهي بمثابة هوامش أو حواشي “الإيديولوجيا”، أتاحت له الفرصة تدارك الالتباسات، والإشكالات، والنواقص … التي تضمنها كتاب “الإيديولوجيا”، ومن أهم هذه الكتب: العرب والفكر التاريخي (1973)، أزمة المثقفين العرب (1974)، مفهوم الإيديولوجيا (1980)، مفهوم الحرية (1981)، ثقافتنا في ضوء التاريخ (1983)، مفهوم التاريخه (1992)، مفهوم العقل (1996)….
فالعروي من خلال هذه الأعمال التي صدرت بالتتابع على مدى ثلاث عقود تقريبا، أبدى تصميما كبيرا على “الإيديولوجيا العربية المعاصرة”، ولم تزحزح الأحداث الراديكالية التي شهدها العالم، وبشكل خاص العالم العربي قناعاته الفكرية والإصلاحية، فلا زال إلى يومنا هذا مؤمنا وفيا لتعاليم “كتابه”، ولا يفوت أي فرصة لتذكيرنا بأن روح الإيديولوجية العربية لا زالت حية، وقادرة في الآن نفسه على الإحياء، فكل مرة يردد بصيغ وعبارات مختلفة “لا لحاق إلا بالإلحاق”، أي لا لحاق لأمة العرب بسطح العالم، وغرفة القيادة إلا بسياسة إلحاقية، قائمة على القطيعة، تدمج العرب في العصر ثقافيا وسياسيا، وأقصى ما نلاحظه في هذا السياق من تطور على فكر العروي، وقناعاته الإصلاحية هو تطور في القاموس ولغة التعبير، أكثر مما هو تطور في المبادئ والمنهج والغايات؛ فبدل الماركسية الموضوعية، أخذ العروي في السنوات الأخيرة يتحدث عن الحداثة وشروط الالتحاق بها، وهي نفس شروط “الإيديولوجيا العربية”، وسنقف فيما يلي مع مثال دال على هذه الاستماتة، لنرى التحوير الذي أقدم عليه العروي للإبقاء على روح “الإيديولوجيا”، بالرغم من انهيار الاتحاد السوفياتي، وانقلاب أوروبا الشرقية نحو الديمقراطية …إلـخ.
وقد وضح جبرون بأن أفكار العروي تشكلت من خلال الاطلاع على الفكر الفلسفي الفرنسي، والاحتكاك بالثقافة الفرنسية في كافة امتداداتها، والتي أطل من خلالها على ذخائر الغرب الفلسفية والأدبية والعلمية.
كما استفاد أيضا في مناسبة لاحقة من تواجده في الولايات المتحدة (1967)، حيث أخذ التقاليد الفكرية والمنهجية الأكلوساكسونية التي تختلف نوعيا عن التقاليد الفرنسية.
لقد مكن الانفتاح المبكر على الثقافة الغربية العروي من توظيف مفردات هذه الثقافة بشكل واسع في أعماله المختلفة، وخاصة منها الإصلاحية، وتوحي المراجعة السريعة لأشكال التوظيف المختلفة لمفردات ثقافة الآخر في أعماله بتمكنه منها، واستيعابها الجيد.
المحاور الأساسية لمشروع العروي:
ترتكز الأطروحة الإصلاحية للعروي على ثلاث محاور أساسية:
1 إعادة إدراك الذات في اتجاه إلغائها، ويدخل في هذا السياق عمله الدؤوب على اختزال الإسلام وإعادة تعريفه.
2 إعادة تعريف العقل في المجتمع العربي المعاصر، بصورة تسمح للعرب بالاندماج في العصر، والتخلص من العقلانية الوهمية التي يدعونها.
3 تجاوز المفاهيم التقليدية وعلى رأسها مفهوم الدولة، وتبني مفاهيم حديثة قادرة على تأطير الفعالية الحضارية للإنسان العربي، وتوجيهها لخدمة المعاصرة.
خلاصة الأيديولوجية العربية المعاصرة:
بعد صدور كتاب “الإيديولوجيا العربية المعاصرة” سنة 1967، وتقييم النقاش الفكري الذي دار حوله، بادر العروي إلى كتابه “مفهوم الأيديولوجيا”، رفعا للالتباس، وسوء الفهم حول مغزى “الأيديولوجيا العربية المعاصرة” وأهدافها، الذي بات يتسبب فيه غموض مفهوم الإيديولوجيا، وتمثلاته المختلفة والمتناقضة أحيانا لدى القراء العرب، حيث يعتبر الإدراك السليم لهذا المفهوم أحد المفاتيح الرئيسية لفهم أطروحة “الإيديولوجيا العربية”.
بعد نقاش مستفيض، وتشريح موضوعي لظهور الإيديولوجيا وتطورها في منشئها الأوروبي، وخاصة في الفكر الألماني والفرنسي، يؤسس العروي لثلاث معان للإيديولوجيا في السياق العربي:
1 صورة ذهنية مفارقة لأصلها الواقعي (محمد عبده)
2 نظام فكري يحجب الواقع لصعوبة أو استحالة تحليل ذلك الواقع (داعية الأصالة)
3 بنية نظرية مأخوذة من مجتمع آخر توظف كنموذج يقود الممارسة ويتحقق أثناءها (دعاة الليبرالية والماركسية).
وتندرج “الأيديولوجيا العربية المعاصرة” ضمن المعنى الثالث؛ فهي إيديولوجيا ماركسية بالضرورة، تقود الممارسة الإصلاحية العربية، وتنير لها الطريق، كما تحمل في طياتها التعبيرات الإيديولوجيا الأخرى، وتتجاوزها.
ومن ثم، فـ”الأيديولوجية العربية المعاصرة” هي نقد جذري للمنظومات الفكرية (الأيديولوجيا) السائدة في البلاد العربية، وعلى رأسها المنظومة السلفية التي يمثلها في هذا العمل الشيخ محمد عبده، والمنظومة الليبرالية التي يمثلها رجل السياسة، ومنظومة داعية التقنية التي يمثلها التكنوقراط؛
يقول العروي في هذا المعنى: “درست الأدلوجات الرائجة في عالم العروبة منذ قرن أو يزيد، فصنفتها واستخلصت من كل واحدة بنيتها.
ثم أوضحت أن كل أدلوجة تستوحي دورا من أدوار التاريخ الغربي الحديث [يقصد الطور].
لم أعرض أدلوجة من ابتكاري، بل وجدتها مشتتة في برامج الفئات العربية، في تطلعات الأفراد وممارستهم.
فجمعت الأشتات وحاولت أن أبين، حسب قناعتي، أن تجزئة التراث الغربي واختيار جزء دون جزء حسب الظروف، هو سبب إخفاق السياسات الإصلاحية على الساحة العربية.
ثم تخلصت إلى ضرورة الشمول في نظرتنا إلى الغرب، مهما كان الغرض من استيحاء تجربته؛ لم أحكم على استيحاء الغرب سلبا ولا إيجابا، وإنما لاحظت وسجلت واقع الاستيحاء وربطت الغاية السياسية بالوسيلة الفكرية، أي النجاح بالشمول في التفكير”.
ويعلل العروي دعوته هاته، ويدافع عنها استنادا إلى فرضية مستخرجة من الواقع التاريخي على حد تعبيره، “وهي أن الدور التاريخي الغربي الممتد من عصر النهضة إلى الثورة الصناعية هو المرجع الوحيد للمفاهيم التي تشيد على ضوئها السياسات الثورية الصناعية الرامية إلى إخراج البلاد غير الأوروبية من أوضاع وسطوية مترهلة إلى أوضاع صناعية حديثة.
ليست هذه الفرضية فكرة مسبقة بل نتيجة استطلاع التاريخ الواقع”.
إن العروي من خلال أطروحة “الأيديولوجية العربية المعاصرة”؛ أسس لمفهوم نهاية التاريخ مبكرا، وجعل محطته الأخيرة هي القارة الأوروبية، التي شهدت عصر النهضة، والثورة الصناعية، والثورة الفرنسية…
وأكد أن لا حظ في التقدم لأي كان، دون التوحد مع هذا التاريخ، والنزول في وقائعه وروحه.
ومن ثم فقد اختار العروي النظرية النقدية للغرب الحديث وهي الماركسية كأيديولوجية، وذلك لسببين:
الأول: أنها تسمح له بالتوحد مع التاريخ الأوروبي، إذ ما فتئ يؤكد على الوحدة الجوهرية بين العرب والغرب.
والثاني: تتيح له انتقاد البشاعة المرتبطة به، والتي يجسدها التيار الليبرالي.
ومقابل هذا، انتقد العروي التشكيلات الأيديولوجية العربية المختلفة، من سلفية وليبرالية وتكنوقراطية، واعتبر كل منها تمثيلا لدور (طور) من أدوار التاريخ الأوروبي الحديث:
1 فالشيخ محمد عبده رائد السلفية يتمثل موقف ودور مارتن لوثر.
2 ولطفي السيد يمثل موقف مونتسكيو
3 وسلامة موسى يتمثل موقف هربرت سبنسر..
كما اعتبر في السياق نفسه، أن هذا المدلول القائم على التماثل والمستوحى من الخارج، يساعد على تمايز وتبلور الطبقات.
وتستند هذه “القراءة المقارنة” على فرضية التدخل والتشابك بين الغرب والعرب، فكل منهما مندس في الآخر ولا يستطيع الفكاك منه.
فأمام هذا التداخل والتشابك بين التجربتين العربية والغربية، التي بسط أدلتها بالتفصيل في متن الأطروحة، ونظرا لرجعية الأيديولوجيات العربية السالفة، وجزئيتها يقرر العروي تبني الماركسية كأيديولوجية معقولة، واضحة، ونافعة لنا في الدور التاريخي الذي نحياه، وتستجيب منطقيا لمتطلبات الفكر العربي، فهي ليست مذهبا ولكنها في الواقع مذهب المذاهب .
(المصدر: موقع أ. حماد القباج)