مقالاتمقالات مختارة

نفحـــات إيمانيـة ولفحـــات عَلمانية

نفحـــات إيمانيـة ولفحـــات عَلمانية

بقلم أ. د. عبد الرزاق قسوم

ما فتئ شهرالصوم، هذه التجربة الإسلامية الرائعة، التي نعيش معاناتها كل سنة، ما فتئت هذه التجربة، تعلمنا من الدروس والمعاني، ما يعيننا، على مواجهة الحياة المتقلبة، المتلبدة، المتلونة.
وتزداد قيمة هذه التجربة، انغماسا في حياتنا، عندما تصادف، محنا تلفنا فصولها، كما هو الحال في هذه السنة، كمحنة الوباء، ومحنة الغلاء، ومحنة الأعداء، فتجد فينا هشاشة، لا بد أن تحصن، وفضاضة لا بد أن تهذب، وغضاضة لا بد أن ترمم.

إن الصوم، هذا التشريع الإلهي المتميز إنما جُعل ليدفع بالإنسان، والإنسانية، نحو السمو والكمال، وفق نظام محكم ومتكامل يعنى بتصحيح البدني، وصقل الروح مصداقا للحديث النبوي الشريف: «صوموا تصحوا».
من هنا، فنحن نعيش في الصوم نفحات إيمانية تسمو بنا عن الحيوانية والبهيمية، إلى عالم الإنسانية الملائكية، فتصوم جوارحنا-أو هكذا يجب أن تكون- تصوم جوارحنا عن كل أنواع الشهوات والملذات، وترشد غرائزنا، فيجسد المسلم الصائم، في الحياة، صورة الإنسان المعتدل، المتوازن، المتسامح الذي يفيض حبا في شمولية الحب، وأعمق معانيه، فيغدو نموذجا للآخر، يصحح هذا الآخر جوانب النقص فيه في ضوء نموذجية الإنسان المسلم.
وينبوع القوة، وأساس الصوم في الإسلام يتمثلان في إخضاع سلوك الصائم للعقيدة، فتنتج عنه هذه النفحة الإيمانية التي يستروح المجتمع سماتها في مختلف مجالات الحياة.
ذلك أن الإنسان، في العالم المعاصر عموما، وفي مجتمعنا الإسلامي على الخصوص، بقدر ما يعيش النفحات الإيمانية، يتعرض أيضا لنفحات علمانية تلفح وجهه ونفسه بنيران إلحادها، وشذوذها، وتطاولها على الألوهية، واستهزائها بالقيم الإنسانية الإيمانية العليا.
من هنا جاءت منهجية تحصين الذات في الإنسان المسلم، بالصوم، فالصوم في الإسلام، كتاب موسوعي، نفسي، وضعته الإرادة الإلهية للسمو بالإنسان، عن سفاسف الحياة، وتحديات التيارات الإلحادية المادية، إلى أعلى مكانة للإنسانية وقد اتسمت بأعلى وأنبل قيمها.
ولو أردنا تبسيط المعاني، وتنزيل المفاهيم على واقع الناس، وخاصة الشباب، لقلنا أن المسلم الصائم، في المجتمع، هو بمثابة حارس المرمى في الملعب الرياضي، مهمته حماية الشباك من أن تتسلل إليها كرة الفساد، والمراوغة، والتحايل، فيغدو هو حارسا للقيم، وتغدو الشباك، طاهرة نقية، لأنها حوض القيم الإنسانية الصافي من كل أنواع التلوث العلماني، الشيطاني، الشهواني الذي هو الملوث للمحيط، والذي يعمل على كشف الحجب عن المرآة، ونزع الستر والمحيط عن الإنسان.
في ضوء هذه المعطيات كلها، وجب إخضاع التجارب الإيمانية، للتأمل العميق، واستنباط ما يجب استنباطه منها من معنى دقيق، فإذا أخذنا تجربة الصوم بشموليتها الإسلامية، أدركنا أن الصوم امتحان للفقر الإجباري، وتحمل الجوع الاختياري، إنه منهج يفرضه الإسلام على الناس، ليتساوى الجميع في خفاياهم وعلنهم، سواء منهم من يملك الملاييرمن الدنانير أو من يملك الدينار الواحد، أو من لا يملك شياً.
ومن المعاني المستنبطة من الصوم أيضا، وهي كثيرة، أن قاعدة علم النفس تثبت أن الألم يولد الشفقة والرحمة، ومن هنا فإن الصوم منهج عملي، يأتي ليقاوم في الإنسان، طغيان وتحكم قانون البطن –على الأقل طيلة شهر من الشفقة، لنجد بدل ذلك قانون الروح، ومنطق النفس المطمئنة؛ يضاف إلى هذا أن من حكمة الصوم تميزه بعملية تربية الإرادة، وتقويتها، بأسلوب عملي، في شخصية الإنسان المسلم.
فكيف نوفق، والحالة هذه، بين ما يجب أن يكون في الصوم، وبين ما هو كائن، في واقعنا المجتمع، حيث نصطدم في كل مكان بأناس، تفشى فيهم قانون البطن، وغلب عليهم هوى التدخين، فانعكس ذلك على وجوه مصفرة، وأعصاب ثائرة، وعنف قاتل، فإذا أضفنا إلى هذا آفة الجشع والاحتكار، والرغبة في الإثراء بكل وسيلة تبين لنا، أي نوع من الناس يفلت من قيم الصوم، ويصاب بالتسرب المدرسي من مدرسة الصوم الإسلامية النموذجية.
ولا نريد أن نبقى حبيسي هذه الظاهرة السلبية الاستثنائية، التي يرسمها بعض شواذ مجتمعنا، الذي يقضي يومه نائما وليله هائما، فهناك لحسن الحظ، الفئة الغالبة في مجتمعنا، التي صفت سرائر أفرادها وسمت –بالصوم- إلى علياء سمائها، هذه التي نلتقي بها في رحاب المساجد، وفي ساحة البذل والعطاء، فأنتجت بكل سخاء سوق الرحمة، وفقه رمضان، والتأني عن كل ما قد يفسد العبادة وذلك بفضل حسن الإرادة، والقيادة..
ليت شعري، لو عممت تجربة الصوم على الإنسانية قاطبة، بشمولية معاني هذه التجربة لتحررت الإنسانية قاطبة، على الأقل شهرا في السنة من كل الآفات الشريرة كالأنانية، والأثرة، والبخل، فيكون ذلك سببا في إشاعة الحب، والإخاء، والتسامح بين الناس، ولاختفت الحروب، ومظاهر العنف، والكراهية بين الشعوب.
وإن هذا المقصد هو الذي عناه الإسلام من خلال الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [سورة البقرة، الآية 183].
إن للتقوى في هذه الآية، مقاصد كثيرة، أبرزها تحصين الذات بالقيم، وتزويد الإنسانية بمنهجية «الإتقاء»، ذلك أنه بالصوم يتقي الصائم شرور أهواء، وغرائز الحيوانية المتوحشة، فيكون إنسانا بحق مؤهلا لتحمل رسالة ستخلاف في الأرض، كما أراد الله له ذلك، وبذلك يعيش باستحقاق وجدارة حلاوة النفحات الإيمانية، ويمكنه مواجهة تحديات اللفحات الشيطانية، العلمانية التي يلوح بها الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون.

(المصدر: صحيفة البصائر الالكترونية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى