مقالاتمقالات مختارة

نظم الاستبداد.. وسنن التغيير

نظم الاستبداد.. وسنن التغيير

بقلم طارق الزمر

استوقفني لفترة من الوقت أثناء إعدادي لرسالة الدكتوراه في مجال النظم السياسية؛ ذلك الكم الهائل من التطورات المذهلة التي تعطي للدولة وللنظام السياسي مكنات وصلاحيات لا محدودة؛ تجعلها صاحبة اليد الطولى في إدارة التحولات الاجتماعية والتحكم في المفاهيم والقيم السائدة، ومن ثم السيطرة على إرادة التغيير السياسي أو الإصلاح أو الوقوف بها عند حد عدم الفاعلية أو الدوران في حلقات مفرغة.

وهذا النمط من إدارة الدول لا تختلف فيه كثيرا الدول العريقة في الليبرالية عن الدول الراسخة في الاستبداد؛ إلا في درجة وقدر الوضوح أو الجرأة في مقاومة حركات التغيير أو الإصلاح أو حتى الاحتجاج. المهم أن هدف الحفاظ على النظام والوضع القائم هو الهدف المشترك بينهما، والذي يضحى من أجله بالكثير. وهذا هو أحد مظاهر التقارب والتناغم والود الخفي والظاهر بين أكثر دول العالم اعتمادا واستغلالا لقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، وبين أشرس الدول في التعامل مع مواطنيها وأسوئها في مجال حقوق الإنسان.

إنني لا أبالغ، وأنا أطالب ألا يطلِق أحد على هذه الأنظمة وصف النظام السياسي؛ لأنها لا تعتمد في الحقيقة على الفعل السياسي في الوجود، ولا تستمد شرعيتها من درجات القبول أو الرضى الشعبي، بل تعتمد فقط على أذرعها الأمنية، ولا تعطي مواطنيها حقوقهم بل تسلبهم كل شيء، بما في ذلك إرادتهم، ولهذا فإن وصفها بالنظم السياسية يعد فحسب مجازا لفظيا لا يتعداه بحال.

كما يجب أن يكون معلوما أن النظام السياسي الذي لا يقوم إلا على القوة الأمنية والقبضة الحديدية؛ هو نظام هش بحسابات التاريخ والسياسة وموازين الدول، وذلك لأن الإحاطة الأمنية بالظواهر الإنسانية مهما توفرت لها كل الأدوات لن تستطيع أن تحصي التغيرات والمستجدات التي تطرأ على الشخصية الإنسانية، فضلا عن أن تحاصرها أو تجهضها أو تعيد تدجينها.

لقد لاحظت أن هناك جهودا فكرية وفنية جبارة تبذل في سبيل تحقيق واستمرار ما سمي بالاستقرار السياسي، حتى أصبح هذا المصطلح أشبه بالمقدسات التي يجب ألا تمس. وقد وضعت لذلك نظريات سياسية غربية، وكتبت لذلك دراسات عديدة تجعل الفساد والانحراف قانونا يحكم.

كما لفت نظري ذلك الانشغال الذي بلغ حد الولع بحثا عن أحدث وأكفأ التقنيات التي لا تتيح لأي معارض فرصة حتى للاختلاء بزوجته؛ دون أن يكون تحت سمع وبصر الأجهزة الأمنية. ولم تتأخر أكثر الدول تقدما في هذه المجالات وأعرقها في مجال الحريات عن أن تستخدم هذه التقنية، فضلا عن تصديرها لأكثر الدول شهرة في مجالات الاستبداد وانتهاك حقوق مواطنيها.

كما جاءت التطورات السياسية والقانونية التي شهدتها الدول الغربية بعد أحداث أيلول/ سبتمبر 2001م لتؤكد بشكل قاطع أن الأمن مقدم على الحرية في الدول الليبرالية، كما هو الحال في الدول الاستبدادية، بل وجاء تورط الولايات المتحدة في عمليات تعذيب منظم واللجوء إلى المحاكمات العسكرية وبناء سجون سرية في مناطق مختلفة من العالم، ليبرز مدى التشابه الكبير بين النظم السياسية بغض النظر عن الأيديولوجية التي تحكمها.

عند هذا الحد يمكن أن يكون اتجاه تلك النظم نحو الحفاظ على أوضاعها أمرا مبررا على أساس نزوع الإنسان غريزيا!! نحو الظفر بأكبر قدر من المكانة والشرف والعلو!! وما النظام السياسي إلا تعبيرا عن مجموعة من المصالح والأهداف المشتركة التي جمعت بين الطائفة الحاكمة وأصحاب المصالح!!

أما أن يكون هذا هو المضمون الحقيقي والجوهري للنظم السياسية السائدة، ثم يكون أهم شعارات العصر على المستوى العالمي والمستوى المحلي هي الديمقراطية وحقوق الإنسان!! فهذا ما لا ينبغي السكوت عليه؛ لأنه في الحقيقة يدل على استحمار واضح من أصحاب النفوذ في عالم اليوم لكل شعوبهم بلا استثناء!! كما يدل على أن أهم أمراض العصر وأخطرها ليست هي السرطان أو الإيدز أو الاكتئاب، إنما هي إرادة العلو على الخلق بغير حق، ومن ثم الفساد في الأرض بلا إصلاح.

وهنا وجدت نفسي وجها لوجه أمام القرآن الذي استفاض في استعراض ظاهرة العلو على الخلق، وفسر كل أسبابها، ووضع الأسباب البشرية لمقاومتها، وبين السنن الإلهية التي لا تقف أمامها تقنيات الأمن السياسي، ولا تصمد لها أجهزة تنميط الشعوب، ولا أدوات السيطرة على الجماهير وغسل أدمغتها.

ففرعون الذي سلط القرآن الأضواء عليه كرمز للاستبداد والطغيان كان “عاليا من المسرفين” (الدخان: 31)، “وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين” (يونس: 83).

كما كان حكمه يعتمد على العلو والعمل على تمزيق نسيج المجتمع وقهره. “إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين” (القصص: 4).

أما حاشيته وأنصاره وأصحاب النفوذ في دولته، فإنهم لم يمتنعوا عن صفة إرادة العلو بغير الحق مثلهم في ذلك مثل فرعون تماما “فاستكبروا وكانوا قوما عالين” (المؤمنون: 46)، “وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا” (النمل: 14).

أما سحرته وأصحاب القوة الناعمة المسخرة لحماية النظام في مواجهة خصومه السياسيين، فإن لهم حظا وافرا من صفة العلو بغير الحق، فقد وصفوا انتصارهم المزمع ونتيجة المعركة بينهم وبين موسى بانتصار العلو، فقالوا وهم يحفزون بعضهم لمواجهته وإنزال الهزيمة به: “فأجمعوا كيدكم ثم أتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى” (طه: 64).

هذا النموذج الفريد في الظلم والاستكبار والعلو والتجبر والفساد، والذي سلط عليه القرآن كل هذه المساحات من الضوء لم يتركه دون أن يوضح لنا ضرورة مقاومته وعدم الاستسلام له، بل جعل ذلك سببا رئيساً في إرسال الرسل.. “ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وملائه” (هود: 97).

كما نجد الأمر يتوجه للرسول في أكثر من موضع بأن يذهب إلى فرعون ولا يتركه وشأنه، وألا يدع هذه الحالة العقدية والسياسية تستقر، بل لا بد وأن تقاوم أو ترفض مهما كان بطشها وجبروتها.. “اذهب إلى فرعون إنه طغى” (النازعات: 17)، “اذهبا إلى فرعون إنه طغى” (طه: 43).

ولا يتركنا القرآن دون أن نرى هذا النظام السياسي الشاذ عن قوانين الفطرة والمحارب لسنن الله؛ وهو يدمر ويسوى بالأرض ويصبح أثرا بعد عين.. “ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون” (الأعراف: 137)، بل ويغرق كل رموزه وأركانه ويعلوهم الماء.. “فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون” (الأنفال: 54)، وهكذا انتصرت السنن وقوانين التغيير – التي لا تحابي ولا تظلم – على النظام القوي الأركان العتيد البنيان.

(المصدر: عربي21)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى