لا يتعب “ليبراليونا” العرب أنفسهم كثيراً بعناء التفكير في البحث عن حلول مشكلات الحاضر، فلديهم همّ شاغل أهم بكثير من هذا. يحلو لهم وصف خصومهم بأنهم “خرفان” و”قطيع” يسيرون بلجام من الدعاة وعلماء الدين يوردونهم ما يشاؤون من مراعٍ.
لديهم مثلاً قاعدة أو لنقل أجندة تقول لهم إن التحرش في بلادنا العربية إنما مرده الكبت الجنسي، وأنه لا علاقة لملابس المرأة بتلك الجريمة، وأن الشباب العربي يقع في ذلك نتاج عدم إتاحة “الحرية الجنسية” له؛ “فيلجأ” لتفريغ كبته في التحرش بالنساء، وقد ظل هؤلاء يعزون التصرفات الفردية لبعض الشباب الخليجي في بعض مدن أوروبا لاسيما لندن قبل سنوات طويلة بأنها نتاج هذا الكبت، معللين بأنه لو أتيح “قدر من الحرية” للشباب ما فعل، ولو سُنّت قوانين تجرم التحرش لما حصل هذا في بلدان العرب أصلاً.
تأتي الجارديان البريطانية لتنشر تقريراً معمقاً في مستهل مارس الحالي، يتحدث فيه معدوه عن نحو 300 شكوى في 120 جامعة بريطانية خلال سنوات قليلة، ثم تنقل عن الدكتورة آن أوليفاريوس الشريكة الرئيسة في شركة ماكليستير أوليفاريوس للقانون، قولها: “هذه الأرقام صادمة، لكن للأسف، فإنه من خلال خبرتنا، نستطيع القول إنها لا تمثل سوى غيض من فيض.. تحرش الموظفين الجنسي بالطلاب وصل إلى مستويات وبائية في الجامعات البريطانية، ولا تمتلك معظم الجامعات آليات فعالة لمنع الموظفين من الضغط على الطلاب لإقامة علاقات جنسية، وعندما يحصل ذلك، فإن الفعل التأديبي شبه غائب، فالمسؤولون هم في العادة زملاء لديهم محفزات كثيرة لعدم التدخل”.. وتنقل الصحيفة عن مؤسسة مجموعة 1752، آنا بول، التي أسستها للتعامل مع موضوع التحرش الجنسي في مؤسسات الدراسات العليا، قولها: “هناك أدلة على أن الأرقام الحقيقية في المملكة المتحدة ستكون صاعقة، حيث قام اتحاد الجامعات الأمريكية بدراسة تفصيلية للاعتداءات الجنسية والتحرش الجنسي عام 2015، (تحرش طلاب بطلاب وموظفين بطلاب)، وتم إجراء البحث في 27 حرم جامعة، واستجاب 150072 طالبا مع الاستطلاع، ووجد الاستطلاع أن الإبلاغ عن التحرش الجنسي –الموظفين والطلاب- كان 7.7%، وكان فقط بنسبة 28% من الحالات الخطيرة التي تم إبلاغ المؤسسة عنها”.
ثم لا تسترعي هذه المعلومات أحداً من “الأكاديميين” و”الباحثين” المغرضين في عالمنا العربي المعنيين بـ”ظاهرة التحرش الجنسي”؛ فعبارات من شاكلة “مستويات وبائية” و”الأرقام الحقيقية صاعقة”، لا تستحث “طاقاتهم البحثية” لسبر غور هذه المأساة بشكل علمي دقيق منصف يضع النقاط على الحروف، ولا يخلط “الأجندات التغريبية” بالوقائع التجريبية والعلمية.
من سوى “الخرفان” سيقولون ببساطة لهؤلاء “الليبراليين” المقنّعين: إنما يتحدث عنه التقرير وأمثاله يومئ إلى ما يلي:
– التحرش “وبائي” في بريطاني في أرقى جامعاتها، وفي أعلى أوساطها العلمية والأكاديمية، وليس بين أرباب الجرائم وعديمي الثقافة و”القيم”، حيث تشتهر المؤسسات البريطانية منذ عشرات السنين بانضباطها وصرامتها.
– التحرش في بريطانيا “بأرقام صادمة” رغم أن قانون التحرش ليس جديداً في منظومة القوانين البريطانية الرادعة، وبالتالي يفترض أنه قد انتهى إلى إنجاز مهماته الزجرية في وقف أو التقليل من تلك الظاهرة، إذ خضعت المواد الحاكمة لهذا الجريمة لحوارات مجتمعية وجلسات نقاش وقراراته قانونية.
– التحرش في بريطانيا “وبائي”، برغم أن بريطانيا ذاتها ليست طارئة على “الانفتاح والحريات”، ولا تمنع قوانينها الشباب والشابات من اتخاذ “الخليلات” و”الأخدان”، وبالتالي؛ فالانفتاح والتحرر إن جاز التعبيرين لم يحولا دون تفشي هذه الظاهرة على هذا النحو.
– التحرش هكذا في بريطانيا، لكن مع هذا لم يهرول معدو التقرير لـ”التنقيب عن منتقبة” تم التحرش بها، أو يختلقوا رواية عنها، لعرض قصتها كدلالة على أن “اللبس المثير ليس هو السبب في التحرش” مثلما يدمن “باحثونا” المغرضون الترويج لهذا! (بالمناسبة: لم نجد يوماً منظمات المرأة الحقوقية دافعت عن منتقبة أو محجبة إلا في هذا الموضع فقط، ولو تعرضت هذه أو تلك للاغتصاب في دول فاشية عربية فلا تتحمس تلك المنظمات للدفاع عنهما!).
بكلمة: البيئة التي “ينظِّر” فيها “ليبراليونا” العرب بخيالاتهم عن علاجات مثل هذه الظواهر لا تسمح لهم بمجرد البدء بالتفكير في هذا التنظير، فلا دولهم العربية تملك انضباطاً وعراقة أكاديمية كالتي تتمتع بها مؤسسات التعليم في بريطانيا، ولا يتوفر لدى هؤلاء في بلادهم العربية برلمانات حقيقية تناقش مثل هذه القضايا كما لدى بريطانيا، ولا المجال يسمح في تلك البلاد العربية بنقاش مجتمعي شفاف وحر ونزيه.. مع هذا هم يريدون أن يسيروا بشعوبنا خلف علاجات مضللة لظاهرة لم تتفش هنا أو هناك إلا لغياب التربية الإسلامية الصحيحة، وإطلاق المجال للعمل الإعلامي الهادف، والمؤسسات الثقافية والاجتماعية والمحاضن التربوية الأصيلة، إذ لم تظهر هذه الممارسات الشائنة إلا حالما يضيق الحال بالعمل الدعوي الرشيد، ويفسح المجال فيه لكل ما يخدش القيم ويجرح الدين ويذهب بالأخلاق.
(موقع المسلم)