نظرة في عيد المسيح عبد الله ورسوله… تأصيل ونقد
بقلم د. فضل مراد
بسم الله والحمد لمن تقدست أسماؤه وتعالى عن صاحبة وولد وصلى الله وسلم على المبعوث رحمة للعالمين …
لا ينبغي لأحد الفتوى في مسألة إلا بتحقيق النظر في خمسة أسئلة
ماهي المسألة وما دليلها وما صحته ثبوتا ودلالة ودفع معارض له وما الحكم …
فمن لم يحقق ماهية المسألة ودليلها من الكتاب أو السنة الخالي عن المعارضة فكيف يصدر حكما.
والدليل ثلاثة أقسام بحسب استقرائنا إما كلي عام أو كلي في باب أو دليل في مسألة.
فمن لم يجد الثالث وهو دليل المسألة المعينة لاذ إلى الثاني ثم إلى الأول الكلي العام
ولا توجد مسألة على وجه الأرض إلى يوم القيامة إلا ولها دليل من هذه الثلاثة في الكتاب أو السنة
والنوع الأولي كلي يدخل في كل أبواب الشرع كقوله تعالى إن الله يأمر بالعدل والإحسان وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي
وقوله تعالى يريد الله بكم اليسر
وقوله تعالى لا يكلف الله نفسا إلا وسعها
وهذا الباب كثير وهو من محكمات الشرع
والثاني وهو الكلي في باب كقوله تعالى (إلا أن تكون تجارة عن تراض)
وكل ما دخل في باب معين على وجه الكلية هو من هذا النوع وهو كثير
وأما الثالث فهو دليل المسألة كقوله تعالى (حرمت عليكم أمهاتكم)
وقوله صلى الله عليه وسلم (ليس فيما دون خمس ذود صدقة)
وهذا النوع هو ما انصبت عليه جهود الفقهاء جمعا ودراسة وعرفت عندهم بآيات وأحاديث الأحكام
بخلاف الكليات من النوع الأول والثاني وهي كثيرة ومحكما ت
وقد تتبعت النوع الأول والثاني فوجدته كثيرا وجمعته في كراس
هذه هي الحجج البينات عن الله ورسوله
أما مجرد نقل قول فلان أو فلان في المسائل حال النزاع فلا يقدم ولا يؤخر سوى إفادة استئناس فقط.
لأن قول هذا العالم مهما بلغ علمه ومكانته ليس دليلا بل يحتاج إلى الدليل.
ومن ضبط هذا الأصل تبين له الحق في كثير من المسائل وبلغ رتبة التحقيق في النظر
ومن عكف على نقل الأقوال في مقام الاستدلال فما جمع سوى سراب بقيعة
ولا يفيده ذلك إلا في مقام نقل الفتوى لعموم الناس لا في مقام الاحتجاج.
وبهذا يتبين خطأ الفرح بنقل فتوى فلان ليقيم بها الحجة على ضلال الغير أو بطلان قوله.
كمن ينقل عن ابن القيم مثلا تكفيره لمن هنأ النصارى في يوم عيدهم
بل بالغ البعض فزعموا أن من هنأهم فهو قائل بولد لله.
وهذا خطأ جسيم فلا ملازمة بين هذا وبين هذا إطلاقا لا قولا ولا عملا
فإن الشرع أجاز الزواج بالنصرانية وهي تقول ان المسيح ابن الله
فالزواج لا يلزم منه الإقرار مع دوامه وما فيه من ود وحب وألفة وسكن
فمجرد تهنئة من باب أولى.
فلا تلازم البتة وإنما هي خيالات مختلة وأقوال معتلة ليس عليها برهان من الله ولا من رسوله الله
وهذا القرآن وهذه السنة دونكم آتونا بنص يقضي بالمنع فضلا عن التكفير
بل كليات القرآن تأمر بالبر والقسط
(لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)
فشرع البر والقسط والتهنئة من البر ومنع موالاة المقاتلين والمظاهرين لهم في ذلك والموالاة أمر أخص من مجرد تهنئة.
ولعموم (وقولوا للناس حسنا)
ولعموم قوله تعالى (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها)
فمن حياك في عيدك فمن الشرع أن تفعل ذلك معه..
وقد أحل الله أكل ذبائحهم وعمم الخطاب فشمل ما ذكروا عليه المسيح أو ذكروا عليه اسم الله
وإنما يذكرون اسم المسيح على الذبيح لاعتقادهم أنه ابن الله أو الرب يسوع تعالى الله عما يقولون علوا كبير
ومع هذا لم يكن أكل ذبيحتهم إقرارا لهم بأنه ابن الله أو الرب يسوع ولم يقل هذا أحد من السلف ولا من الخلف.
قال القرطبي
(6/ 76)
قال ابن عباس قال الله تعالى:” ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه” «1»] الانعام: 121]، ثم استثنى فقال:” وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم” يعني ذبيحة اليهودي والنصراني، وإن كان النصراني يقول عند الذبح: باسم المسيح واليهودي يقول: باسم عزير، وذلك لأنهم يذبحون على الملة. وقال عطاء: كل من ذبيحة النصراني وإن قال باسم المسيح، لأن الله عز وجل قد أباح ذبائحهم، وقد علم ما يقولون. وقال القاسم بن مخيمرة: كل من ذبيحته وإن قال باسم سرجس «2» – اسم كنيسة لهم- وهو قول الزهري وربيعة والشعبي ومكحول، وروي عن صحابيين: عن أبي الدرداء وعبادة ابن الصامت. انتهى كلامه
ثم نقل عن جماعة أن من سمع النصارى يذكرون اسم المسيح صراحة فلا يأكل الذبيحة
فقال وقالت طائفة: إذا سمعت الكتابي يسمي غير اسم الله عز وجل فلا تأكل، وقال بهذا من الصحابة على وعائشة وابن عمر، وهو قول طاوس والحسن متمسكين بقوله تعالى:” ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق”] الانعام: 121]. وقال مالك: أكره ذلك، ولم يحرمه.. انتهى كلامه
فهؤلاء إنما منعوا حال السماع أم من لم يسمع ولم يشهد الذبح فلم يمنعوه ولا غيرهم
مع أن النصارى تذكر اسم المسيح الرب أو الأبن تعالى الله عن ذلك.
لهذا لم يمنع مالك ذلك ولو سمع مباشرة بل كره ولم يحرم كما نقل عنه القرطبي
والحاصل أن هذا الدين العظيم دين الرحمة والأخلاق والتعايش والسلام والسلم الاجتماعي
ولا يشوش عليه فتوى أو اختيار فقهي من عالم أفرط في القول وزلت قدمه ما دام أن النصوص ومعانيها لم تشهد له.
وقد قررت في غير هذا الموضع جواز تهنئتهم بمباح كقولك مبارك عليكم عيد ميلاد المسيح عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم.
ويقول لهم نسأل الله أن يوفقكم لما يرضيه ناويا الهداية لهم..
ونحو هذه المجاملات العادية التي هي من البر ولا تدخل في كفر ولا شرك
أما الاحتفال فهذا أمر آخر فلنا أهل الإسلام عيد محدد من شعائر الله فلا يشرع غيره
خاصة وأن احتفالهم بالعيد يعد من شعائر دينهم ولا يجوز لمسلم أن يشارك في شعائر دين غير الإسلام.
وأما قبول الهدية منهم سواء كانت من مطعوم ومشروب أو زينة
فالله أحل لنا أكل طعامهم ونكاح نسائهم وقبول هداياهم ولم يخص ومن ادعى المنع لزمه الدليل.
ودعوى الاجماع في مثل هذه المسائل مبالغات خالية عن التحقيق لأن من ادعاه فقد زعم حصر عبادة الله من أهل الفتوى في أرجاء المعمورة وتسطير كلامه ومعرفة رأيه وهذا بعيد كل البعد والله المستعان ..
وبالله التوفيق …
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
د. فضل مراد – عضو مجلس الأمناء وأمين سر لجنة الفتوى بالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)