مقالاتمقالات مختارة

نظام الحكم في الإسلام: برلماني أم رئاسي؟!

(بقلم عصام تليمة – الجزيرة)

أثار بيان اتحاد علماء المسلمين جدلا وهو البيان الذي صدر مؤخرا تعاطفا مع موقف تركيا ضد التضييق الذي تمارسه بعض دول أوربا، لمنع مؤتمرات تقيمها الحكومة لشرح التعديلات الدستورية المزمع التصويت عليها في الخامس والعشرين من نيسان إبريل، والتي تتجه بالحكم فيها إلى النظام الرئاسي لا البرلماني، وكان يكفي اتحاد العلماء التنديد بموقف المانعين، وإن كنت أرى البيان بالأساس لا داعي له، فهي قضية سياسية دولية، وليس مطلوبا من الاتحاد أن يدلي بدلوه في كل قضية، في كل قطر يحدث فيه حادث، إلا ما يهم عامة المسلمين من توضيح الرأي في قضايا النوازل، وقد أثارت فقرة في بيان الاتحاد الناس، وهي: أن النظام الرئاسي أقرب إلى التعاليم الإسلامية. وهو ما يطرح سؤالا مهما: هل في الإسلام نظام حكم معين يتبناه، أو يوصي به؟ وهل هو النظام الرئاسي أم البرلماني؟ وأنا أعلم أن هذا الرأي المائل للرئاسي هو رأي شيخنا القرضاوي، وقد كان رأي حسن البنا أنه يميل للنظام البرلماني، وأنه الأقرب والأفضل لنا.

وفي الحقيقة لا النظام الرئاسي ولا البرلماني ولا الملكي ولا الملكي الدستوري، ولا أي نظام في الدنيا نستطيع أن نطلق عليه نظاما إسلاميا، لأن الأمر ببساطة أن الإسلام لم يضع أو يحدد نظاما معينا للحكم فيه، بل وضع معايير وأهداف إذا تحققت فهو المطلوب، وبأي وسيلة تتحق لا يعني الإسلام بشكلها، مثل: العدل بكل مستوياته: من عدل اقتصادي، واجتماعي، وسياسي، وديني، والشورى بمعناها الشامل لا الضيق المحدود، والمساواة في الحقوق والواجبات، والوحدة، والحرية، كل هذه مبادئ ينشد الإسلام تحقيقها، وهي الأهم لديه، أما وسائلها أو القوالب التي تحددها فلم يحددها، وهو ما أشار إليه فقهاء كبار قديما وحديثا، وهو ما أنقله هنا لتوضيح الصورة.

معيار السياسة العادلة أو الحكم العادل:

جرت مناظرة بين ابن عقيل الحنبلي وأحد فقهاء زمانه حول تعريف السياسة التي يمكن أن يطلق عليها سياسة شرعية، أي يقرها الشرع، يقول ابن عقيل: (العمل بالسياسة هو الحزم، ولا يخلو منه إمام، وقال الآخر: لا سياسة إلا ما وافق الشرع، فقال ابن عقيل: السياسة ما كان من الأفعال بحيث يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يشرعه الرسول – صلى الله عليه وسلم – ولا نزل به وحي؛ فإن أردت بقولك: “لا سياسة إلا ما وافق الشرع” أي لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح، وإن أردت ما نطق به الشرع فغلط وتغليط للصحابة).[1] وهو تفريق مهم من ابن عقيل هنا، لأن الشرع لم يحدد كل السياسة، ولا الصحابة، بل وضع أسسا عامة.

تعقيب رائع للإمام ابن القيم:

وقد عقب الإمام ابن القيم على كلام ابن عقيل الحنبلي السابق بقوله: وهذا موضع مزلة أقدام، ومضلة أفهام، وهو مقام ضنك، ومعترك صعب، فرط فيه طائفة، فعطلوا الحدود، وضيعوا الحقوق، وجرءوا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد، محتاجة إلى غيرها، وسدوا على نفوسهم طرقا صحيحة من طرق معرفة الحق، والتنفيذ له، وعطلوها؛ مع علمهم وعلم غيرهم قطعا أنها حق مطابق للواقع، ظنا منهم منافاتها لقواعد الشرع.

ولعمر الله إنها لم تناف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن نافت ما فهموه من شريعته باجتهادهم، والذي أوجب لهم ذلك: نوع تقصير في معرفة الشريعة، وتقصير في معرفة الواقع، وتنزيل أحدهما على الآخر، فلما رأى ولاة الأمور ذلك، وأن الناس لا يستقيم لهم أمرهم إلا بأمر وراء ما فهمه هؤلاء من الشريعة، أحدثوا من أوضاع سياساتهم شرا طويلا، وفسادا عريضا فتفاقم الأمر، وتعذر استدراكه، وعز على العالمين بحقائق الشرع تخليص النفوس من ذلك، واستنقاذها من تلك المهالك.

وأفرطت طائفة أخرى قابلت هذه الطائفة، فسوغت من ذلك ما ينافي حكم الله ورسوله، وكلتا الطائفتين أُتيت من تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله، وأنزل به كتابه.

فإن الله سبحانه أرسل رسله، وأنزل كتبه، ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به الأرض والسموات.

فإذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان، فثم شرع الله ودينه، والله سبحانه أعلم وأحكم، وأعدل أن يخص طرق العدل وأماراته وأعلامه بشيء، ثم ينفي ما هو أظهر منها وأقوى دلالة، وأبين أمارة. فلا يجعله منها، ولا يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها، بل قد بين سبحانه بما شرعه من الطرق، أن مقصوده: إقامة العدل بين عباده، وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين، وليست مخالفة له.

فلا يقال: إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع، بل هي موافقة لما جاء به، بل هي جزء من أجزائه، ونحن نسميها سياسة تبعا لمصطلحهم، وإنما هي عدل الله ورسوله، ظهر بهذه الأمارات والعلامات).[2]

ويقول ابن القيم في موضع آخر: (وتقسيم الناس الحكم إلى شرعية وسياسية، كتقسيم من قسم الطريقة إلى شريعة وحقيقة، وذلك تقسيم باطل، فالحقيقة نوعان: حقيقة: هي حق صحيح، فهي لب الشريعة لا قسيمتها، وحقيقة باطلة فهي مضادة للشريعة، كمضادة الضلال للهدى.

وكذلك السياسة نوعان: سياسة عادلة فهي جزء من الشريعة، وقسم من أقسامها لا قسيمتها، وسياسة باطلة فهي مضادة للشريعة مضادة الظلم للعدل).[3]

العلماء المعاصرون ينسجون على نفس المنوال:

وينسج العلماء والمفكرون المعاصرون المعنيون بالفقه السياسي على نفس منوال ابن عقيل وابن القيم رحمهما الله، مبينين أنه لا يوجد نظام واضح لشكل الحكم في الإسلام، بل معايير ومثل هي المطلوب تحقيقها، يقول العلامة الشيخ محمود شلتوت: (لم يضع القرآن ولا الرسول نظاما خاصا، وإنما هو النظام الفطري، وقد ترك هذا الجانب من غير أن يوضع له نظام لأنه من الشؤون التي تتغير فيها وجهة النظر، بتغير الأجيال، والتقدم البشري، فلو وضع نظام في ذلك العهد لاتخذ أصلا لا يحيد عنه من يجيء من بعدهم، ويكون في ذلك التضييق كل التضييق عليهم في ألا يجاوزوا غيرهم، فنظام الشورى من الأمور التي تركت نظمها دون تحديد رحمة بالناس غير نسيان، توسعة عليهم، وتمكينا لهم من اختيار ما يتاح للعقول، وتدركه البشرية الناضجة، وما دام المقصود هو أصل المشورة، والوصول إلى قوانين التنظيم العادل، التي تجمع الأمة ولا تفرقها، والتي تعمر وتبني، ولا تخرب وتهدم، فالأمر في الوسيلة سهل ميسور).[4]

ويقول العلامة الشيخ عبد الوهاب خلاف: (من استقرأ آيات الأحكام في القرآن يتبين أن أحكامه تفصيلية في العبادات وما يلحق بها من الأحوال الشخصية، لأن أكثر أحكام هذا النوع تعبدي لا مجال للعقل فيه، ولا يتطور مع البيئات، وأما فيما عدا  العبادات والأحوال الشخصية؛ من الأحكام المدنية والجنائية، والدستورية، والدولية، والاقتصادية، فأحكامه فيها قواعد عامة، ومبادئ أساسية، ولم يتعرض فيها لتفصيلات جزئية إلا في النادر، لأن هذه الأحكام تتطور بتطور البيئات والمصالح، فاقتصر القرآن فيها على القواعد العامة، والمبادئ الأساسية ليكون ولاة الأمر في كل عصر في سعة من أن يفصلوا قوانينهم فيها حسب مصالحهم في حدود أسس القرآن العامة من غير اصطدام بحكم جزئي).[5]

ويقول الدكتور محمد سلام مدكور: (ومع الاعتراف بأن قيام الحكومة من ألزم ما يحتاج إليه الناس في الحياة، وأن الحكم وظيفة اجتماعية، والحاكم هو العضو الذي تؤدى به هذه الوظيفة، ومع الاعتراف بأن الإسلام عقيدة وشريعة معا، فإننا نقرر أن دعوة الإسلام ليست غايتها إقامة حكم على صورة معينة تلتزمها الأمة في جميع العصور فلا تحيد عنها، وإنما غايتها إقامة مجتمع إنساني سليم، ولذا فإن الإسلام وقف عند رسوم الخطوط العريضة التي ينبغي أن تكون دستور الحكم في الدولة الإسلامية، دون التفات إلى الصورة الكاملة الدقيقة، التي ينبغي أن يكون معها المجتمع.

ولم يكن هذا للتقليل من شأن هذا الأمر، وإنما هو لإبراز ارتباطه بالتطورات التي يمر بها المجتمع. فترك هذه التفاصيل لتلدها المجتمعات، وتستقيم على الوضع الذي يتيح لها أداء وظيفتها؛ على الوجه الأكمل).[6]

هذه نقول تعمدت نقلها على طولها، لأن الأمر يختلط على كثير من الناس، عند الخلاف فيه، وأنا لا أحجر على من يتبنى النظام الرئاسي أو البرلماني أو غيره، فليختر الناس ما يختارون، فلسنا أوصياء على الشعوب ولا الدول، ولكن دون أن نجزم بأن هذا النظام أو ذاك، هو من يمثل الإسلام. كما أنه لا يليق ما يصدر من البعض تعليقا على بيان الاتحاد بسوء أدب، ودخول في نوايا من كتبوه، فهو في النهاية رأي يقبل أو يرفض، وهو ما يستدعي منا نقاشا أهم وأرحب، حول فقه الشأن العام، ومدى اقتراب أو ابتعاد الفقيه عن هذا الفقه، وما أدواته التي تؤهله للحديث عنه؟ وهو ما يستدعي من المختصين دراسات ونقاشات أخرى مفصلة حوله.


[1] انظر: إعلام الموقعين لابن القيم (4/283).

[2] انظر: الطرق الحكمية لابن القيم ص: .

[3] انظر: بدائع الفوائد لابن القيم (3/152).

[4] انظر: الإسلام عقيدة وشريعة للشيخ محمود شلتوت ص: 370.

[5] انظر: علم أصول الفقه لعبد الوهاب خلاف ص: .

[6]  انظر: معالم الدولة الإسلامية للدكتور محمد سلام مدكور ص: 136.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى