نشأة القوميَّة العربيَّة ودورها في إسقاط الخلافة الإسلاميَّة 5من 7
إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن
تفاهم بريطاني-حجازي يأذن باندلاع الثَّورة
يشير لورانس العرب في مذكَّراته إلى أنَّ عزوف بريطانيا عن التحالف مع الدَّولة العثمانيَّة كان يرجع إلى “انحلال تركيا الإمبراطوريَّة”، ومن ثمَّ “ضعفها وانهيارها الحتمي” (صـ24-25). فطن السير هنري مكماهون، المفوَّض السَّامي البريطاني في مصر، إلى التَّوتُّر الشَّديد في علاقة الشَّريف الحسين بالسُّلطنة العثمانيَّة، كما استوثق من حالة الاستنفار بين أفراد الشُّعوب العربيَّة في مختلف الأقطار ضدَّ النُّفوذ العثماني؛ نتيجة لذلك، وكما يروي لورانس (صـ27):
سرعان ما وضَع مكماهون الحجر الأساسي للتَّفاهم مع شريف مكَّة. وكانت آمالنا قبل إنجاز الاتّفاق مع شريف مكَّة تتَّجه نحو العراق حيث بدأت الحركات الاستقلاليَّة العربيَّة بقيادة الزَّعيم العراقي السَّيّد طالب النَّقيب، ومن ثمَّ بقيادة ياسين الهاشمي والعصبة العسكريَّة. وكان عزيز عليّ المصري الَّذي يعيش في مصر بمثابة المثل الأعلى للضُّبَّاط العرب، وقد اتَّصل به اللورد كتشنر في الأيَّام الأولى للحرب، مؤملًا أن يستطيع بواسطته كسْب القوَّات العسكريَّة العربيَّة في الجيش التُّركي إلى جانبنا.
بدأت الثَّورة بالفعل بعد تواصُل لورانس المباشر مع الشَّريف الحسين، عندما زاره الأوَّل في جدَّة، وكانت الثَّورة “مرتجلة” في بدايتها؛ حيث لم يتعاون الحسين بن عليّ مع أيِّ من أبنائه في وضْع خطط (صـ54). بدأت المواجهة المسلَّحة بين قوَّات الشَّريف الحسين وبين قوَّات عمر فخر الدين مسعود باشا، أو فخري باشا، وكان آخر حاكم عثماني للمدينة المنوَّرة، ليُحكم الأخير سيطرته على حصون المدينة، ويزوِّد قوَّات بمدافع بعيدة المدى. ما ضاعف من صعوبة إتمام إسقاط المدينة المنوَّرة عدم خضوع رجال العشائر المشاركين في الثَّورة في الهجوم، حيث كانوا بارعين في الدِّفاع فقط، ولم تتعدَّ خبراتهم “نسْف الخطوط الحديديَّة وسلْب القوافل والجمال” (صـ62). ومع ذلك، فقد أبدى هؤلاء من العزم والإضرار على التخلُّص من الوجود التُّركي في جزيرة العرب ما طمأن لورانس إلى إمكانيَّة نجاح الثَّورة. وبمرور أسابيع طويلة على حصار المدينة، وُضعت خُطَّة بديلة لاقتحامها، تقوم على محاصرتها من كافَّة الجهات، مع تدمير الخط الحديدي الحجازي وراءها بالمتفجرات، وبدأ تدريب العشائر على استخدام الدِّيناميت في ذلك، وقُطعت الإمدادات القادمة من القصيم والكويت للجيش العثماني في المدينة، كما تم الاستيلاء قافلة من الجمال كانت تحمل الذَّخائر للجيش ذاته.
وأمدَّت القوَّات البريطانيَّة قوَّات الحسين ولورانس بمزيد من المعدَّات العسكريَّة، وبمكافآت ماليَّة، إعجابًا منها بتقدُّم القوَّات في الجزيرة العربيَّة. مع ذلك، تعذَّر اختراق حصون فخري باشا في المدينة المنوَّرة، خاصَّة بعد أن حَفَر خنادق حول المدينة أبعدتها عن مرمى نيران المدافع العربيَّة. يتفاخر لورانس في سرده لأحداث ثورته بسلب رجاله أموال الأتراك ونهبهم أمتعتهم، لكنَّ ذلك كلَّه لم يفلح في إسقاط المدينة المنوَّرة، التي استعصت على الاقتحام حتَّى عام 1919م، عام نهاية الحرب العالميَّة الأولى. وفقًا لما أورده الكاتب التُّركي المعاصر إسماعيل بيلجن، في كتابه Medine Müdafaası: Çöl Kaplanı Fahrettin Paşa–الدِّفاع عن المدينة: أسد الصَّحراء فخر الدِّين باشا (2019م)، استسلم عمر فخر الدِّين، أو فخري باشا، بعد عناد طويل، بعد صراع مرير مع قوَّات عبد الله بن الحسين، وأُجلي الوالي العثماني الأخيرة عن المدينة ومعه 8 آلاف جندي عثماني.
انتقال الثَّورة العربيَّة إلى سوريا
ترك لورانس العرب الجزيرة العربيَّة لأسرة الحسين بن عليّ بعد تعذُّر دخولها لأشهر طويلة، واستدار إلى جهة الشَّام، ليصوِّب سهامه تجاه سوريا، التي لم يلتفت إليها إلَّا بعد اطِّلاعه على ما يكفي من المعلومات السُّكَّانيَّة التي جمعها أقرانه من عملاء المخابرات البريطانيَّة والفرنسيَّة، الذين اتَّخذوا هويَّة رَّحالة ومستكشفين لاختراق الأقطار الإسلاميَّة. يستعرض لورانس التكوين الجغرافي لسوريا، التي يحدُّها البحر المتوسِّط من الغرب من غزَّة إلى ميناء الإسكندرونة، والصَّحراء موطن البدو من الشَّرق، ومن الشَّمال الأناضول الذي يسكنه الأتراك. بقي لورانس ومرافقوه في الجنوب. ينقسم الدَّاخل السُّوري كذلك إلى عدَّة أقاليم، قسَّمتها الأنهار، التي عاش في وديانها معظم السُّكَّان، بينما عاش آخرون في الصَّحراء القاحلة، يعانون “الجفاف، والجراد، والغزو من جهة الصَّحراء“، وكذلك من العادات القبليَّة وعلى رأسها “الأخذ بالثَّأر” (صـ246). ويروي لورانس مهمَّته وأقرانه لإعداد سوريا لرفض البقاء تحت وطأة الحُكم العثماني، والتي ركَّزت في البداية على إلهاء مواطني سوريا عن أسباب الفُرقة والخلاف لحشدهم جميعًا في وجه الدَّولة العثمانيَّة (صـ246):
وهكذا فإنَّ الطَّبيعة قسَّمت البلاد إلى مناطق، وجاء الإنسان يضيف إلى التَّقسيمات تعقيدات جديدة؛ لأنَّ من طبيعته زيادة تعقيد الطَّبيعة. فكلُّ من الأقسام الطُّوليَّة من الشَّمال إلى الجنوب معزول عن غيره اصطناعيًّا لوجود جماعات فيه متخاصمة دائمًا. وكان علينا أن نبسط نفوذنا على كلّ تلك الجماعات والفئات، وتذليل ما بينها من تباعُد وتنافُر، ثمَّ حشْدها متراصَّة في عمل مشترَك ضدَّ الأتراك. هنا في هذا الطَّلسم السّياسي السُّوري كانت تكمن كلُّ إمكانات فيصل، وكذلك كلّ العقبات الَّتي قد تسدُّ عليه طريق النَّجاح.
كان من بين الصِّعاب التي واجهت لورانس إقناع أتباع الطَّائفة النُصيريَّة، وهي إحدى الفرق المنبثقة عن الشِّيعة، الذي كان يسكون منطقة السَّاحل، بالتحالف معه؛ لكره أفراد الطَّائفة التَّدخُّل الأجنبي في بلادهم. مع ذلك، فقد كانت هناك ثغرة تمكَّن لورانس وأقرانه النَّفاذ منها، وهي أنَّ من قوانين تلك الطَّائفة “أنَّه لا يمكن لنصيري أن يخون نصيريًّا آخر، بينما يحقُّ له كلَّ الوقت أن يخون الآخرين” (صـ247). كان يعيش إلى جانب الأكراد جماعات مسيحيَّة سريانيَّة، وعند منعطف نهر العاصي كانت تعيش جماعات من الأرمن، الذين كانوا من ألدِّ أعداء العثمانيين. في حين عاش الدُّروز في الدَّاخل، بالقرب من مدينة حارم، الواقعة في الشَّمال الغربي، وبالقرب من تلك البقعة كان يعيش الأكراد، الذين دأبوا على معاشرة العرب والتزاوج معهم، لكنَّهم كانوا يكرهون المسيحيين والعثمانيين. وبجوار الأكراد، عاش اليزيديون، المتأثرون بالدِّيانة المانويَّة الفارسيَّة، التي تحثُّ على تهدئة روح الشَّر، وقد كانوا يتحدَّثون العربيَّة.
عاش في سوريا كذلك أبناء الطَّائفة الإسماعيليَّة، وهي من فرق الشِّيعة المغالية، التي تؤمن بأنَّ الأغا خان تجسيد النَّبي (ﷺ). والأغا خان هو زعيم شيعي إسماعيلي، كان الإمام السادس والأربعين للطَّائفة الإسماعيليَّة النزاريَّة، وأسَّس جماعته في الهند منتصف القرن التَّاسع عشر للميلاد، وعُرف بموالاته للإنجليز من مستعمري بلاده ومعاونته لهم خلال سنوات الحرب الأنجلو أفغانية الأولى (1838 – 1842م). ولأنَّ أتباع الطَّائفة الإسماعيليَّة كان يوالون الإنجليز باعتبارهم حلفاء الأغا خان الذي يقدِّسونه، كان من السَّهل استمالتهم. ينتقل لورانس بوصفه التَّقسيم العقائدي في سوريا إلى الجهة الجنوبيَّة من السَّاحل المطلُّ على البحر المتوسِّط، مشيرًا إلى ما يُعرف اليوم بدولة لبنان المستقلَّة عن سوريا عام 1920م، وكان الانفصال من نتائج اتفاقيَّة سايكس بيكو. عاش في تلك المنطقة مسيحيُّون ينتمون إلى الملَّتين الكاثوليكيَّة، وهم الموارنة الموالون لفرنسا، والأرثوذكسيَّة، ووالى هؤلاء الرُّوس. وبرغم الاختلاف العقائدي بين أبناء الطَّائفتين المسيحيَّتين، اجتمع أبناء الطَّائفتين على “الطَّعن الذي لا حدود له بالمسلمين” ربَّما يرجع ذلك إلى “التَّصوُّر بأنَّهم أقليَّة” (صـ248). ينتقل لورانس إلى الحديث عن القُدس، الواقعة جنوب سوريا القديمة، قبل تقسيمها إلى عدَّة دول، كما سبقت الإشارة، ويقول عنها أنَّها “مدينة مقدَّسة في نظَر جميع الأديان السَّاميَّة يحجُّ إليها المؤمنون من المسيحيين على السَّواء، بينما يرى فيها بعض اليهود المستقبل السِّياسي لعنصرهم” (صـ251). ويعتبر لورانس أنَّ دمشق وحلب وحمص وحماة من أعرق مدن سوريا، وتأتي دمشق في مقدِّمة تلك المدن، بوصفها مقر الحكومة والمركز الدِّيني، وقد اتَّخذها العثمانيون مقرًّا لقيادتهم العسكريَّة، دون قلق من إمكانيَّة استغلالها في إثارة العامَّة على الدَّولة العثمانيَّة وتحريضهم ضدَّها.
أكثر ما ساعَد لورانس العرب في تنفيذ مهمَّته في سوريا أنَّ أهلها “منذ طفولتهم…يرفضون الرُّضوخ لأيِّ سُلطة”، ناهيك عن تمرُّدهم المستمر على الأوضاع المجحفة التي هي نتيجة “أنانيَّة الدُّول الكبرى التي تقدِّم مصالحها الخاصَّة على مصالح الشُّعوب التي لا قوَّة عسكريَّة لها” (صـ253-254). ومع ذلك، فقد كان السُّوريُّون يتعامون عن تلك الأوضاع، خشية الفوضى والنِّزاع المسلَّح، وكان ينقسمون ما بين مؤيِّدين لتأسيس مملكة عربيَّة، وهم من المسلمين، وبين مطالبين بحماية أجنبيَّة باعتبارهم أقليَّة، وهم الكاثوليك. غير أنَّ لورانس وجد وسيلة لتجاوز الاختلافات العقائديَّة والسياسيَّة لمواطني سوريا، وهي اللعب على وتر مفهوم “القوميَّة” المرتبط بـ “اللغة المشتركة”، كما يقرُّ (صـ255):
والمفتاح الموجَّه للرَّأي يبقى تلك اللغة المشترَكة الَّتي هي في الوقت نفسه مفتاح الخيال. والمسلمون الَّذين يفتخرون بلغتهم الأم يعتقدون أنَّهم شعب مختار. وإرث القرآن والأدب الكلاسيكي هما أفضل أداة رابطة بين الشُّعوب الَّتي تتكلَّم كلُّها اللغة العربيَّة. والفكرة القوميَّة المرتبطة عادةً بالأرض أو العنصر الَّذي تقوم هنا اللغة.
اختار لورانس وادي اليرموك لإشعال الثَّورة العربيَّة في سوريا منه، وذلك بعد ضمِّ حوران، وهي المنطقة الجنوبيَّة من سوريا والشماليَّة من الأردن، إلى الثَّورة، وكان جبل الدُّروز، الآهل بمعتنقي العقيدة الدُّرزيَّة الشِّيعيَّة الباطنيَّة، من أهم محطَّات انطلاق الثَّورة، في تأكيد على أنَّ أصحاب العقائد المخالفة لصحيح السُّنَّة هم أكثر من سانَد الانفصال عن هيكل الخلافة الإسلاميَّة. حرِص لورانس على التَّزوُّد بـ “كميَّات كبيرة من الأسلحة الأوتوماتيكيَّة الخفيفة” لضمان التَّفوُّق التقني على الجيش العثماني (صـ257). ولمَّا كان من الصَّعب دفْع كافَّة القبائل للتَّعاون مع جنود الثَّورة، كان الحلُّ الأسلم هو تشجيعها من خلال التقدُّم وتحقيق النَّصر على القوَّات العثمانيَّة وتكبيد تلك القوَّات أقصى قدر من الخسائر. وأثبت أهالي حوران وجبل الدُّروز أنَّهم “أقوى بكثير من أبناء القبائل وأشدُّ عزمًا”، وكان من الممكن تجنيد الآلاف منهم “لاحتلال درعا، عن طريق المباغَتة، ثمَّ تخريب كلِّ المواصلات، وبالتَّالي الاستيلاء على دمشق” (صـ285). كما خطَّط لورانس لتفجير خطّ حديد الحجاز، وهو خط السكَّك الحديديَّة الذي كان يربط المدينة المنوَّرة بمدن الشَّام وأسَّسه السُّلطان عبد الحميد الثَّاني لخدمة نقل الحجَّاج من الأناضول إلى الحجاز، لمنع الوصول إلى المدينة أثناء الثَّورة، فعل ذلك من جديد في سوريا في سبيل تعطيل وصول الإمدادات للجيش العثماني، وتسهيل وصول قوَّاته إلى دمشق، التي اعتبرها “نقطة الانطلاق، ونهاية مطاف حجَّنا المسلَّح” (صـ304).
حملة إسقاط الأردن
بالاتفاق مع إدموند ألنبي والتَّشاور معه، وُضعت خُطَّة للاستيلاء على الأردن وانتزاعها من السِّيادة العثمانيَّة، وكانت عبارة عن عمليَّة حربيَّة واحدة تقوم على “إقامة الوصل عبر الأردن، والاستيلاء على معان، وقطْع الاتصال بين المدينة المنوَّرة وقاعدتها” (صـ352). وتعريفًا بإدموند ألنبي، فهو قائد عسكري بريطاني بارز اشتهر بدوره في إخضاع الشَّام للانتداب البريطاني خلال سنوات الحرب العالميَّة الأولى بفعل تأسيسه ما يُعرف بـ “قوَّة التَّجريدة المصريَّة”، وكانت عبارة عن تشكيلة للجيش المصري تقيم في مصر حينها، شنَّت حملة على سيناء، ومنها إلى فلسطين وسوريا، وفق موسوعة ويكيبيديا الرَّقميَّة. ومن المفارقات المثيرة للاهتمام أنَّ فرانسوا جورج بيكو، هو ذاته مُبرم اتفاقيَّة سايكس-بيكو، قال بعد تقدُّم قوَّات الثَّورة العربيَّة في سوريا لإدموند ألنبي “ابتداءً من الغدِّ…سأتَّخذ الإجراءات اللازمة من أجل إقامة حكومة مدنيَّة في القُدس“، كما يروي لورانس (صـ322). فوجئ القائد العسكري والدبلوماسي بيكو بصياح ألنبي في وجهه بقوله “لا يوجد في المنطقة العسكريَّة سوى سُلطة واحدة هي سُلطة الجنرال القائد العام، أي سُلطتي” (صـ322-323). تعكس هذه الواقعة حرْص بريطانيا على الاستيلاء على القُدس، تمهيدًا لتسليمها لليهود دبلوماسيًّا بفعل وعْد بلفور الصَّادر في 2 نوفمبر من عام 1917م، بمنح فلسطين، التي كانت في الأصل جزء من ولاية الشَّام العثمانيَّة تتراوح نسبة اليهود فيها ما بين 3 و5 بالمائة، للأقليَّة اليهوديَّة لتأسيس وطن قومي. أراد ألنبي استئثار بريطانيا بسُلطة التحكُّم في فلسطين؛ فردع فرنسا عن محاولة التدخُّل في مستقبلها، حتَّى قبل أن تُنزع سيادة دولة الخلافة عن الشَّام بأكمله.
واكتسبت الثَّورة العربيَّة بمساعدة الجنرال ألنبي بالمخطَّطات والعتاد، قيمة ودعمًا كبيرًا بعد أن كانت “ضربًا من المخاطرة تعيش على كفِّ عفريت بوسائل صغيرة صغر الواجبات المطلوبة منها والإمكانات المعقودة عليها” (صـ353). في سبيل إنجاز مهمَّة إخضاع الأردن للثَّورة العربيَّة، طلب لورانس من الشَّريف الحسين نقْل عدد من القوَّات النّظاميَّة المتمركزة في الحجاز إلى العقبة تُقسَّم على 3 مجموعة، بحيث تتولَّى المجموعة الأولى محاصرة مدينة معان، المتاخمة لشمال الحجاز، والثَّانية الهجوم على قطاع درعا-دمشق، والثَّالثة التوجُّه إلى أريحا لمساندة قوَّات ألنبي هناك. وبعد تقدُّم قوَّات لورانس في سوريا، عَرَض أحمد جمال باشا، الوالي العثماني على الشَّام حينها وواحد من زعماء جمعيَّة الاتحاد والترقِّي المعروفة بروابطها غير المعلنة بالحركات السِّريَّة التي دبَّرت لإسقاط دولة الخلافة على مدار عقود طويلة، على فيصل بن الحسين بن عليّ الصُّلح، في مقابل ولاء جيش فيصل لجمال باشا، إذا ما أخلى الأتراك عمَّان لإقامة دولة عربيَّة فيها. تدخَّل الجنرال مصطفى كمال، هو ذاته كمال أتاتورك، مؤسِّس الجمهوريَّة التُّركيَّة في أكتوبر 1923م وملغي الخلافة في مارس من عام 1924م، حينها لينصح فيصل بعد الموافقة على عرْض جمال باشا، واعدًا “بالمساندة في حالة نجاحه في احتلال دمشق لإقامة دولة عربيَّة مستقلَّة” (صـ393).
بعد سلسلة من المواجهات بين القوَّات التَّابعة لبريطانيا بقيادة لورانس العرب والقوَّات العثمانيَّة، لم تستطع قوَّات لورانس هزيمة الخصم، ممَّا استدعى وجود قوَّة جويَّة تغطِّي تحرُّكات قوَّات لورانس وترفع من روح جنوده المعنويَّة. سارَع الجنرال ألنبي بإمداد لورانس بما طلب من طائرات حديثة كانت قد أدَّت مهمَّتها في فلسطين، التي أسقطت قوَّات ألنبي فيها مدن “نابلس والعفولة وبيسان وسمخ وحيفا”، ليدخل القُدس في 9 ديسمبر 1917م (صـ421). وبمساعدة الغطاء الجوّي الجديد، استطاع نوري السَّعيد، وهو قائد عسكري وسياسي من أعوان فيصل بن الحسين بن عليّ عاونه في تأسيس مملكة العراق عام 1921م وصار لاحقًا رئيسًا للوزراء فيها 14 مرَّة، تفجير خط السِّكك الحديديَّة بين درعا وعمَّان، وكانت تلك العمليَّة بمثابة “الضَّربة القاضية للأتراك”؛ فلم يعمدوا إلى إصلاح الخط الحديدي بعدها (صـ422). تكلَّلت جهود قوَّات لورانس بانضمام فدائيين إليهم بعد “اندحار الجيش التُّركي أمام قوَّات ألنبي في فلسطين”، وبدأت الأنباء تتوارد عن هروب جنود الجيش العثماني، خوفًا من مواجهة مصير أقرانهم في فلسطين (صـ427-428). وبعد استنزاف طاقات الجيش العثماني وعتاده العسكري خلال معركة دمشق يوم 26 سبتمبر 1918م، نجحت قوَّات لورانس العرب في العبور إلى دمشق، بفضل براعة ألنبي في التَّخطيط، وقد أراد القائد البريطاني المظفَّر أن يستقبله عند أبواب دمشق لورانس وجنوده وحلفاؤه من العرب؛ يقينًا منه بأنَّ “وجود العرب إلى جانبه يوفِّر عليه الكثير من العناء مع الأهالي الذين التفُّوا بمجموعهم حول حركة الشَّريف فيصل”؛ أراد ألنبي إقناع أهل دمشق بأنَّ الجيش البريطاني “حليف لهم في مدينتهم” (صـ435). استعان فيصل بن الحسين، الذي دخل دمشق مظفَّرًا وسُلِّمت له المدينة العريقة في 1 أكتوبر 1918م، مباشرةً بفريق من حلفائه كان على تواصُل معهم قبل أشهر لاستلام زمام الأمور وإدارة شؤون البلاد بعد “انهيار الحُكم التُّركي”؛ وتقدَّم فريق فاتحي دمشق وأعوانهم إلى مقرِّ الحكومة، وسط حفاوة جماهيريَّة بالغة من أناس “يغنُّون ويهزجون ويرقصون ويتعانقون”، واحتشد الجماهير في طريقهم بأعداد كبيرة، وكأنَّما “خرجت دمشق عن بكرة أبيها في ذلك اليوم لتعبِّر عن فرحتها بزوال كابوس الطُّغيان وزوال الاحتلال عنها” (صـ435-438). بدأت مرحلة العمل على تأسيس حكومة قوميَّة الفكر، ويوضح لورانس خطوات تحقيق ذلك، مشيرًا إلى اضطرار فيصل بن الحسين، الحاكم المُنصَّب من قِبل الانتداب، لتقل الاحتلال، البريطاني، الاستعانة بالموظَّفين الأكفَّاء في النظام العثماني المطاح به (صـ440):
كان هدفنا إقامة حكومة عربيَّة ثابتة على قواعد متينة ووطنيَّة تصلح لأن تُستخدم لأهداف سلميَّة حماسة الثَّورة وتجرّدها. وكان علينا في ذلك الظَّرف أن نحافظ ما أمكن على الرُّوح الإسلاميَّة العريقة ونأخذ بعين الاعتبار أنَّ 99 بالمائة من الشَّعب الَّذي ستُسند إليه دعائم الحُكم الجديد يدينون بالولاء الصَّادق لتلك الرُّوح.
الانتداب البريطاني على فلسطين
أثار دخول إدموند ألنبي إلى القُدس في 9 ديسمبر من عام 1917م، سعادة الغرب الصَّليبي، الذي سرَّته عودة الأرض المقدَّسة إلى الحاضنة الصَّليبيَّة من جديد، ولأوَّل مرَّة منذ فتْح السُّلطان صلاح الدِّين لها في 12 أكتوبر من عام 1187م، الموافق 27 رجب 583ه. وفي أبريل من عام 1920م، اجتمعت الدُّول المنتصرة في الحرب العالميَّة الأولى في إيطاليا لعقد مؤتمر سان ريمو، وتمَّ الاتفاق خلاله على إخضاع فلسطين للانتداب البريطاني. أقرَّت عُصبة الأمم-نواة منظَّمة الأمم المتَّحدة-رسميًّا الانتداب البريطاني على ما يُسمَّى “فلسطين التَّاريخيَّة” والتي تشمل ما يُعرف اليوم بدولة إسرائيل وفلسطين المحتلَّة وقطاع غزَّة، بالإضافة إلى منطقة شرق الأردن، التي استقلَّت في عام 1921م لتصبح إمارة خاضعة للحُكم الذَّاتي.
(المصدر: رسالة بوست)