نشأة القوميَّة العربيَّة ودورها في إسقاط الخلافة الإسلاميَّة 1من 7
إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن
مع حلول الذّكرى الـ 100 لإسقاط آخر دولة للخلافة الإسلاميَّة، أي الخلافة العثمانيَّة (1517-1924م)، في 28 رجب 1442ه، الموافق 12 مارس 2021م، ومع ما آلت إليه أحوال الأمَّة الإسلاميَّة من ضَعْف وهوان، ينبغي التَّقليب في صفحات الماضي؛ بهدف الوقوف على أسباب انهيار الكيان الجامع لمسلمي العالم وتحديد العدوّ الحقيقي للأمَّة. لم تدَّخر الحركات السّرّيَّة جهدًا في سبيل إحكام السَّيطرة على العالم للتَّهيئة لتأسيس دولة مخلّص بني إسرائيل، وليس القول بأنَّ دولة الخلافة الإسلاميَّة، حتَّى في أوج ضعفتها وتسلُّط القوى الاستعماريَّة عليها، كانت العائق الأكبر في طريق الهجرات اليهوديَّة إلى الأرض المقدَّسة. وجدت جمعيَّة الاتّحاد والتّرقي، بثورتها على السُّلطان عبد الحميد الثَّاني عام 1908م، فرصة ذهبيَّة بنجاح انقلابها وإزاحة آخر السَّلاطين الأقوياء من آل عثمان لإبطال العمل وفق الشَّريعة الإسلاميَّة وتأسيس دولة دستوريَّة تحتكم إلى القوانين الوضعيَّة.
فتحت ثورة الاتّحاديين المجال أمام توسيع نفوذ كبار قادة الجيش العثماني، من يهود الدُّونمة وأعضاء الجمعيَّات السّريَّة، ليمعنوا في قمْع الشُّعوب العربيَّة الخاضعة لسُلطان الدَّولة العثمانيَّة، التي مورست أشدُّ ألوان البطش باسمها. وكما انتشر الفكر القومي في الأناضول وساعد على تحويل ذهن العامَّة عن الرَّابط الإسلامي بين أبناء دولة الخلافة، ظهرت النَّزعة القوميَّة بين شعوب الولايات العثمانيَّة العربيَّة بتدبير الجمعيَّات السّرّيَّة، التي استخدمت عملاءها من رجالات الفكر والسّياسة في إقناع البسطاء بأنَّ الرَّابط العروبي أولى بالولاء. على ذلك النَّحو، أعُدَّت السَّاحة لتدخُّل العميل الاستخباراتي والعسكري البريطاني توماس إدوارد لورانس، المعروف بلقب لورانس العرب، في شؤون المسلمين، وتجنيد القبائل العربيَّة ضدَّ دولة الخلافة، مدشّنًا في 1916م ما يُعرف باسم الثورة العربيَّة الكبرى، وإن كان الاسم الأدق هو ثورة لورانس. بنجاح ثورة لورانس، أُطلقت يد الاستعمار الغربي في العالم الإسلامي، بعد فصْل جزيرة العرب والشَّام والعراق عن دولة الخلافة، التي كانت في رمقها الأخير بعد هزيمة الجيش العثماني في الحرب العالميَّة الأولى (1914-1919م).
استغلَّت القوى الاستعماريَّة الكبرى، وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا، ضعْف الأمَّة الإسلاميَّة؛ فقُسّمت بلاد المسلمين بين أباطرة الاستعمار الغربي بقوَّة السّلاح وخيانة العملاء من رجال الجيش والسّياسة، وكذلك بفعل اندساس المتآمرين بين صفوف الشُّعوب المسلمة والتَّظاهر بالدّفاع عن قضيَّتهم، وهم لا يخدمون سوى أصحاب الملل الباطنيَّة الضَّالَّة الذين ينتمون إليهم في واقع الأمر. وقد شهدت منطقة الشَّرق الأوسط عهدًا جديد بعد تفتيت الشَّام، وفرْض الانتداب البريطاني على فلسطين والأردن عام 1920م، ليتوافد المهاجرون إلى اليهود وتأسيس مستوطناتهم دون قيود، وكذلك إخضاع سوريا ولبنان للانتداب الفرنسي في العام ذاته، ليؤسّس المستعمر الفرنسي دويلات طائفيَّة، ويختصّ أبناء الطَّوائف غير المسلمة بالمناصب القياديَّة. ولعلَّ من أشهر الأمثلة على ذلك منْح الانتداب الفرنسي الأقليات الدرزية والعلوية في سوريا ميزات غير مسبوقة، ليصل المنحدرون من الفرق الباطنيَّة المنبثقة عن المذهب الشّيعي المخالف لصحيح السُّنَّة، إلى أعلى المراتب، وبخاصة في الجيش، ومن هؤلاء كان حافظ علي سليمان-ولقبه الأصلي الوحش، وقيل النَّعجة، ثمَّ أصبح الأسد-الذي وصل إلى رئاسة أركان الجيش، ثم إلى منصب وزير الدفاع بعد ثورة حزب البعث الاشتراكي عام 1963م، لتصل قيادات الحزب علويَّة المذهب إلى هرم السُّلطة، في أوج توتُّر العلاقات بدولة إسرائيل، التي تأسَّست عام 1948م بمساعدة الانتداب البريطاني.
ومن الألغاز المستعصية على الفهم إلى يومنا إصرار حزب البعث الاشتراكي ذي الأغلبيَّة العلويَّة على إيواء الفدائيين من حركة تحرير فلسطين (فتح) ودعمهم في شنّ عمليَّات استفزازيَّة من جهة مرتفعات الجولان، ثمَّ المسارعة بعقد اتّفاقيَّة للدّفاع المشترك مع مصر، ثمَّ ادّعاء احتشاد قوَّات إسرائيليَّة على الحدود السُّوريَّة الجنوبيَّة وثبوت كذب تلك المزاعم، لتُجر مصر والأردن وفلسطين وسوريا البعثيَّة إلى حرب طاحنة-حرب الأيَّام السّتَّة في 5 يونيو 1967م-أسفرت عن احتلال سيناء ومعها مرتفعات الجولان وغزَّة والضَّفَّة الغربيَّة لنهر الأردن، ثم تُحرَّر سيناء بالكامل باتّفاقيَّة سلام (1978م) أودت بحياة مبرمها مع الكيان الصُّهيوني، وتبقى مرتفعات الجولان وغزَّة والضَّفَّة الغربيَّة تحت الاحتلال إلى يومنا. الأعجب أنَّ النّظام السُّوري البعثي قاطع مؤتمر الخرطوم في سبتمبر 1967م، المنعقد لمناقشة كيفيَّة التَّعامل مع الاحتلال الإسرائيلي، وأصرَّ على العمل العسكري لتحرير الأراضي المحتلَّة، لتبدأ حرب استنزاف، ليس للعدوّ وحده، إنَّما لموارد البلدان المشاركة فيها وقوَّاتها المحاربة وعتادها العسكري، بعد أن بلغت خسائر مصر وحدها في حرب 5 يونيو ملياري دولار. والأعجب ممَّا سبق أن النّظام البعثي، بعد أن صار حافظ الأسد زعيمه رسميًّا عام 1971م، آثر لاحقًا التَّفاوض والحلول السّلميَّة، لتنشأ عداوة بين الأسد وياسر عرفات، رفيق الكفاح المسلَّح ضدَّ إسرائيل الذي أفضى إلى حرب 5 يونيو!
انقسمت الأنظمة الحاكمة الجديدة في منطقة الشَّرق الأوسط، بعد انفراط عقْد رابطة الخلافة الإسلاميَّة، إلى أنظمة جمهوريَّة تطبّق الاشتراكيَّة تحت شعار رفع المظالم وتحقيق المساواة بين المحكومين والقضاء على المحاباة، وتسعى إلى تصدير الثَّورة إلى جيرانها العرب من منطلَق توحيد الصَّف العربي وتأسيس دولة عربيَّة كبرى موحَّدة تتقاسم الثَّروات؛ وأنظمة ملكيَّة رأسماليَّة تنعم بثروات طبيعيَّة، على رأسها الثَّروة النَّفطيَّة، تقاوم المدّ الاشتراكي وتحارب مساعي فرضه على الدُّول العربيَّة الأخرى. اصطدم النّظام الاشتراكي المصري بالرأسمالي السَّعودي، عند تأييد مصر ثورة اليمن وتأسيس الجمهوريَّة اليمنيَّة في سبتمبر من عام 1962م، ودعم السَّعوديَّة للنّظام الملكي البائد، لتشتعل حرب اليمن، وتُستنزف فيها موارد مصر العسكريَّة، من قوَّات محاربة وعتاد حربي، وكان لذلك أثره العظيم في عدم استعداد الجيش المصري لحرب مع إسرائيل عام 1967م. وبرغم تلك الظُّروف، لم يجد صُنَّاع القرار مانعًا عن خوض الحرب، ولعلَّ ممَّا ساعَد على ذلك اتّباع الآلة الإعلاميَّة استراتيجيَّة للاستخفاف بالعدوّ والتَّشجيع على خوض المعركة، بترديد الأبواق المسلَّطة على الوعي العرب شعارات، مثل “يا أهلًا بالمعارك”، و “دقَّت ساعة العمل الثَّوري في فلسطين باسم الجماهير”، و “والله زمان يا سلاحي”. غير أنَّ واقع المعركة وما آلت إليه من هزيمة ساحقة استنكرها كبار قادة الجيوش العربيَّة من غير المسؤولين عنها، واكتوت بنارها الجماهير، أثبت خلاف ما عمد إليه الإعلام، من تضخيم لكيانات، وشيطنة لكيانات أخرى، واستخفاف بغير ذلك.
تستهدف هذه الدّراسة تتبُّع سير الأحداث، منذ نشأة القوميَّة في العالم الإسلامي، ومرورًا بسقوط دولة الخلافة بتأثير قويّ منها، ثمَّ بتأسيس أنظمة جديدة بعد جلاء الاستعمار الغربي وفي ظلّ الاستعمار الصُّهيوني، وثمَّ بانكشاف حقيقة القوميَّة وما آل إليه تطبيق الاشتراكيَّة، وحتَّى وصول العالم العربي إلى ما وصل إليه من تمزُّق وما يُنذر به من تقسيم طائفي بتأييد غربي مطلق ولمصلحة الصُّهاينة على حساب أبناء أمَّة الإسلام. ولعلَّ أهم تساؤل تطرحه الدّراسة هو: كيف يُولَّى على المسلمين المنتمون إلى الفرق الباطنيَّة علنًا واليهود الخفيُّون سرًّا بعد تغييب خليفة المسلمين عن موقعه عمدًا بفعل مؤامرات الصُّهيونيَّة العالميَّة؟ وهل كان في نشْر الفكر القومي، النَّابع من عقيدة اليهود التَّوراتيَّة التي تؤمن بتقسيم الأمم بحسب العرق واللغة والمعتَقد الدّيني وتضع اليهود على رأس الأمم، وتطبيق الاشتراكيَّة، المستمدَّة من الكتاب المقدَّس والتي فشلت تجاربها في سائر بلدان العالم إلَّا عند تأسيس التَّعاونيَّات الزَّراعيَّة التي شكَّلت نواة المستوطنات اليهوديَّة في فلسطين قبل التَّقسيم، تمهيد لإزاحة الإسلام من المشهد وإفساح المجال للعلمانيَّة، التي آثرها بنو إسرائيل بتمرُّدهم على أنبيائهم وإخفاء الشَّريعة السَّماويَّة وتحجيم دور الأنبياء بعد أن كانوا ولاة الأمر؟
2.القوميَّة في ميزان الفكر الإسلامي: محمَّد جلال كشك نموذجًا
أنجز المفكِّر الإسلامي المصري محمَّد جلال كشك كتابه القوميَّة والغزو الفكري في مارس من عام 1967م، تزامنًا مع تصاعُد الأحداث على جبهة القتال بين إسرائيل وجيرانها العرب، وعلى رأسهم مصر، والذي أفضى إلى حرب الأيَّام الستَّة في 5 يونيو 1967م، واحتُلَّ على إثره سيناء والضَّفة الغربيَّة لنهر الأردن ومرتفعات الجولان. اعتنق كشك الشُّيوعيَّة وهو في مقتبل العمر، دون سنِّ العشرين، لكنَّه تبرَّأ منها أواخر الخمسينات من القرن الماضي، وهو على مشارف الثَّلاثين من العمر، لمَّا تنبَّه إلى معارضة الشُّيوعيين العرب للوحدة بين الأقطار العربيَّة؛ فاعتبر ذلك خيانة واتَّخذ وجهته إلى نقْد الأفكار التي شكَّلت الفكر العربي في تلك المرحلة، وعلى رأسها القوميَّة العربيَّة، الدَّاعية إلى تغليب الهويَّة العربيَّة واتِّخاذا عنصرًا مشتركًا بين أبناء العالم الإسلامي. وكما تذكر موسوعة ويكيبيديا الرَّقميَّة عن سيرة محمَّد جلال كشك، فقد كتَب أثناء عمله في الصَّحافة مطلع ستِّينات القرن الماضي، سلسلة مقالات تحت عنوان “خلافنا مع الشُّيوعيين”، ما اعتُبر إساءة للشُّيوعيَّة، النِّظام المطبَّق في الاتحاد السُّوفييتي، حليف مصر حينها، ومن ثمَّ أُعقد كشك عن العمل في الصَّحافة لمدَّة 3 سنوات، ليعود عام 1967م، عام الهزيمة المنكرة للجيوش العربيَّة على يد الكيان الصُّهيوني.
يبدأ كشك كتابه بطرح سؤال في غاية الأهميَّة، وهو “هل تنهار الحضارة الغربيَّة؟ …ومَن يرثها؟”، موضحًا أنَّ ذلك السؤال يهمُّ المنشغلين بمصير الأمَّة العربيَّة، ممَّن تؤلمهم الهيمنة الغربيَّة على أمَّتهم، ويزعجهم عجزها عن مسايرة التَّقدُّم الغربي المتسارع الذي نقل الغرب إلى الفضاء، وليس الذين أغراها ذلك التقدُّم المادِّي وارتضوا بالتَّبعيَّة للولايات المتَّحدة، التي “تحرمهم من لقمة العيش، فيتصدَّق بها عليها الاتحاد السُّوفييتي” (صـ9). يدرك كشك أنَّ الأمَّة العربيَّة في ذلك الحين كانت في مرحلة فارقة، بعد أن “فُرض عليها التَّخلُّف”، وأُجبرت على التَّبعيَّة التي منحها المشروعيَّة موالاة بعض أبناء الأمَّة لليد الباطشة للدُّول الكبرى (صـ10). ومع وصول الحضارة الغربيَّة إلى ذروة السَّيطرة على الشُّعوب “الملوَّنة”، وفق الوصف التَّحقيري للبشر غير أصحاب البشرة البيضاء، فمن المتوقَّع أن يُحكم المستعمر الغربي الأبيض قبضته على تلك الشُّعوب، ويفنيها إن لم ترضخ لسُلطته؛ فقد “تملَّك الشَّيطان الأبيض الأسلحة النَّوويَّة…وأطلَّ علينا من السماوات وحرَّك أزراره الإلكترونيَّة…فأباد حيث شاء وأهلك مَن يشاء” (صـ11). ويجد كشك في التقدُّم العلمي الغربي السَّبب الأكبر فيما آلت إليه الأمَّة من تدهور أخلاقي أكثر منه مالي، فهو يرى أنَّ “هذه التِّكنولوجيا هي التي قهرت هذه الشُّعوب وأذلَّتها”، وأنَّ “التَّفوُّق الآلي هو الذي سمح…لقيم أكثر تخلُّفًا وأقل سموًّا بأن تسود قيمًا أعلى وأسمى” (صـ13).
وبرغم التَّفوُّق العلمي الهائل للغرب، وابتكاره من التِّقنيات الحديثة ما عظَّم من درجة رفاهية شعوبه ووسَّع الفجوة بينها وبين شعوب العالم الثَّالث، فليس من المستبعد أبدًا انهيار الحضارة الغربيَّة المهيمنة على العالم العربي، والممعنة في إذلاله للتخلّي عن هويَّته الإسلاميَّة واعتناق أفكارها ومعتَقداتها، خاصَّة مع التوصُّل إلى أدلَّة “تشير إلى وجود عوامل فناء وانهيار حتَّى داخل التَّقدُّم العلمي الفائق في الحضارة الغربيَّة” (صـ10). تعي الصِّين، كما يشير كشك، أنَّ الحضارة الغربيَّة بدأت مرحلة الأفول، وتعمل على وراثتها في تغليب المادَّة والتسابق على النُّهوض بالحياة الدُّنيَّويَّة، ساعيةً بكلِّ طاقاتها إلى أن تصبح دولة صناعيَّة رائدة تغزو العالم بمنتجاتها الحديثة، علمًا منها بأنَّ “الدُّول الصِّناعيَّة هي وحدها الجديرة بالحياة…تملك أن تقول فيُسمع لها” (صـ13).
على ذلك، يعتقد كشك أنَّ سبيل التخلُّص من الهيمنة الغربيَّة هو اللحاق بركب الدُّول الصِّناعيَّة واستثمار المال المتواضع للعالم العربي في إنتاج تقنيات جديدة تنهض بالحالة الاقتصاديَّة. أراد كشك أن يوجد إنتاج صناعي عربي الهويَّة ينافس الإنتاج الغربي، أسوةً بالتَّجربة الصّينيَّة في إنتاج تقنياتها بمنأى عن التقنيات التي خرج بها الغرب. يعتبر كشك أنَّ “رفْض أيديولوجيَّة الغرب” أوَّل خطوة في الوقوف على قدم المساواة النَّفسيَّة معه، ولا يمكن للأمَّة أن تحقق نهضتا إلَّا من خلال “البدء بتحرير روحها” (صـ19). يضرب كشك المثل بتركيا العلمانيَّة، التي اعتنقت الفكر الغربي وتماهت معه إلى درجة تحويل حروف التُّركيَّة إلى اللاتينيَّة والزَّواج على طريقة الغرب وادّعاء أنَّ تركيا الكماليَّة، أي في المرحلة التَّالية لسقوط الخلافة، صارت جزءً من أوروبا. ونتيجة ذلك التَّماهي التَّام مع الغرب هي التأخُّر العلمي والتَّبعيَّة للغرب والعجز عن تحقيق ما أنجزته روسيا أو الصِّين من تقدُّم تقني نتج عن دراسة تقنيات الغرب والاقتباس منها.
ينقلنا هذا المثل إلى الحديث عن استخدام العلمانيَّة، باعتبارها النِّظام البديل عن الخلافة الإسلاميَّة في تركيا، لمحاربة الإسلام، ويذكِّرنا ذلك بأنَّ العلمانيَّة وغزوها الفكري من أدوات الاستعمار الجديد، الممهِّد للاحتلال العسكري. يعيد ذلك إلى الأذهان الحملات الصَّليبيَّة في القرنين الثَّاني عشر والثَّالث عشر للميلاد، ثمَّ الغزو الاستعماري الغربي اللاحق لذلك في القرن التَّاسع عشر، إدراكًا من الغرب بأهميَّة العالم الإسلامي وقدرته على تشكيل حضارة تعصف ببنيان الحضارة الغربيَّة وتقوِّضه. يستشهد كشك بما أورده المؤرِّخ البريطاني الشَّهير أرنولد توينبي في كتابه A Study of History: Abridgement of Vols I-VI–مختصر دراسة للتَّاريخ (1948م)، عن أنَّ مصير العالم الإسلامي مرهون بمدى قدرة العالمين، الغربي والرُّوسي، على إحكام السَّيطرة عليه ووأد نهضته، بقوله “إنَّ طالع الإسلام في المستقبل القريب متوقِّف على نتيجة القوَّة بين العالمين الغربي والرُّوسي، الذين يطوِّقان العالم الإسلامي فيما بينهما”، نقلًا عن كشك (صـ20). ويعبّر عن الخوف الغربي حيال التفاف المسلمين حول زعامة توحِّدهم ما يذكره كتاب Whither Islam-الإسلام إلى أين (1932م)، وهو من تأليف مجموعة من المستشرقين على رأسهم هاملتون غيب، حيث يقول “إنَّ الحركات الإسلاميَّة تتطوَّر بسرعة مذهلة تدعو إلى الدَّهشة…فهي تنفجر انفجارًا مفاجئًا قبل أن يتبيَّن المراقبون من أماراتها ما يدعوهم إلى الاسترابة من أمرها؛ فالحركات الإسلاميَّة لا ينقصها إلَّا وجود الزَّعامة؛ لا ينقصها إلَّا ظهور صلاح الدِّين”، نقلًا عن كشك (صـ21).
يشير المفكِّر الإسلامي إلى طرحه فكرة أن تكون الماركسيَّة هي عقيدة العالم العربي، عوضًا عن الإسلام، في كتابه الماركسية والغزو الفكري (1965م)، وتبيانه سخافة الفكرة؛ على اعتبار أنَّ الماركسيَّة لا تتعدَّى كونها نظامًا اقتصاديًّا لا يمكن أن ينظِّم الحياة البشريَّة إلَّا لمعتنقي القيم المادِّيَّة البحتة. أثبت كشك في كتابه (1965م) أنَّ “الاشتراكيَّة جزئيَّة في حضارتنا”، وأنَّ “إسلامنا أكبر من الاشتراكيَّة”؛ من ثمَّ، فالأولى من تطبيق الاشتراكيَّة هو أن “ندعو إلى الإسلام”، بوصفه “العقيدة الوحيدة القادرة على تحقيق الثَّورة العربيَّة وتحرير شعوب العالم الثَّالث” (صـ24). وأسوةً بنقده للماركسيَّة وإثباته عدم أهليَّتها لتكون عقيدة للعالم الإسلامي، يتناول كشك القوميَّة من نفس المنظور، ساعيًا لتبيان مدى قدرتها على إنهاض الأمَّة من كبوتها. يوضح كشك أنَّ القوميَّة التي يقصدها هي “القوميَّة اللاإسلاميَّة”، التي يطرحها البعض لتكون “الدَّافع الرَّوحي الذي يحقِّق وحدة وقوَّة العرب”، مضيفًا عدم معارضته للقوميَّة من حيث المبدأ، وإنَّما مفهوم القوميَّة الذي يتجاهل الإسلام ويستبدله بقيم خارجة عليه، على رأسها الاشتراكيَّة (صـ24). يتأسَّف كشك على ما اعتبره تآمرًا من القوميين العرب، برفضهم وحدة الأقطار العربيَّة في “دولة الوحدة الكبرى”، مستنتجًا أنَّ (صـ25):
بذلك يكون شعار الوَحدة على يد الحركات القوميَّة اللادينيَّة على الطّراز الغربي قد سقط، وأصبح لزامًا على أنصار العروبة أن يعيدوا فحْص ترسانة الوَحدة؛ ليستبعدوا من فسد من أسلحتها وما ثلم…وليفتّشوا عن الحلّ الثَّوري السَّليم…
أمَّا عن أصل الحركات القوميَّة، علمانيَّة التوجُّه، فيرى كشك أنَّها من تدبير “مدارس التَّبشير وبيوت القناصل وأقلام المخابرات الاستعماريَّة”، ولم يكن هدف تلك الحركات سوى شرذمة العالم الإسلامي لتهيئته للغزو الاستعماري، ويُضاف إلى ذلك إيهام المسلمين بأنَّ تقدُّمهم مقرون بمدى تماهيهم مع الغرب الصَّليبي ونجاحهم في “كسْب رضا العالم المتمدين” (ص27). يستدعي ذلك الإشارة إلى أنَّ ليس كلُّ مَن يدعو إلى القوميَّة اللادينيَّة يعادي الإسلام ويستخدم العروبة شعارًا يخفي به حقيقة نواياه؛ فهناك فريق آخر حسن النيَّة، لُقَّن أنَّ تقدُّمه مقترن باللحاق بالغرب، لتبدأ سلسلة من التَّنازلات التي يخسر من خلالها دينه دون أن يقصد. يطبِّق كشك المعلومات النَّظريَّة على واقع الأمَّة في أعقاب سقوط الخلافة ونشأة الأنظمة القوميَّة في العالم الإسلامي، مشيرًا إلى نشأة حزب البعث الاشتراكي في سوريا، على يد المسيحي مشيل عفلق، بعد تقسيم الشَّام وفق اتفاقيَّة سايكس-بيكو الغادرة (1916م)، تزامنًا مع “الثَّورة العربيَّة الكبرى” التي تمخَّضت عن مراسلات الشَّريف الحسين مع السير هنري مكماهون، المفوَّض السَّامي البريطاني في مصر ، والتي وعَد فيها الأخير الأوَّل بمملكة عربيَّة كبرى في الجانب الآسيوي من العالم العربي، شريطةً إسهام الشَّريف حسين في إسقاط دولة الخلافة العثمانيَّة، العدو الأول لأوروبا وأكبر تهديد بالتوسُّع الإسلامي على حساب الاستعمار الغربي لديار الإسلام، بمساعدة الضَّابط والرَّحالة البريطاني توماس إدوارد لورنس. ويتساءل كشك (صـ28-29):
أية حركة بعْث تلك الَّتي يجعلون بدايتها زحفًا يقوده ضابط المخابرات البريطاني لورنس…وثورة قامت على خطابات متبادَلة بين أمير والسُّلطات البريطانيَّة، حاملها بهائي إيراني جاسوس بريطاني! أي رواد “عظام” على الطَّريق: مكماهون…كتشنر…لورنس…عازوري…حتَّى نصل إلى أنطون…وميشيل…وأخيرًا جورج! تعست البداية وبئست النّهاية.
(المصدر: رسالة بوست)