بقلم الشيخ وليد بن فهد الودعان
نشأة الاجتهاد هي بدايته وخطوته الأولى، والحديث عن بداية الاجتهاد باستيعاب قد يستغرق طولًا، ولكن لما أننا قد ارتبطنا في بحثنا بالشَّاطبي، فإننا سنقتصر على عرض النشأة بحسب ما أشار إليه الشَّاطبي، وبحسب الإشارات التي وجدت في ثنايا كلامه حول الموضوع.
رأي الشَّاطبي:
يرى الشَّاطبي أن نشأة الاجتهاد كانت في عهد النبوة؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم كان أول المجتهدين في هذه الأمة، وإنما قلنا: في هذه الأمة؛ لأن الاجتهاد كان من دأب الأنبياء من قبل؛ فقد اجتهد داود وسليمان – عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام – كما قال تعالى: ﴿ وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ﴾ [الأنبياء: 78، 79].
وقد نبَّه الشَّاطبي إلى أن في الآية تقريرًا “لإصابته – عليه السلام – في ذلك الحكم، وإيماء إلى خلاف ذلك في داود – عليه السلام”[1]، وقد اجتهد نبينا صلى الله عليه وسلم في كثير من الحوادث، كما في أسرى بدر[2]، وفي إذنه للمنافقين عن تبوك[3]، وقد عاتبه الله فيهما، فقال في أسرى بدر: ﴿ لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [الأنفال: 68]، وقال في تبوك: ﴿ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ﴾ [التوبة: 43][4].
وكان اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم شاملًا لجميع أنواع الاجتهاد؛ فقد اجتهد – عليه الصلاة والسلام – في تحقيق المناط، إضافة إلى اجتهاده في الأحكام الشرعية.
وقد أفاض الشَّاطبي في ذكر الأمثلة من السنة النبوية على تحقيق المناط المتعلق بأحوال الأشخاص، ومن أمثلته: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل في أوقات مختلفة عن أفضل الأعمال، وخير الأعمال، وعرف بذلك في بعض الأوقات من غير سؤال، فأجاب بأجوبة مختلفة، كل واحد منها لو حمل على إطلاقه أو عمومه لاقتضى من غيره التضاد في التفضيل، فلم يكن بد من تنزيل كل قول منها على حالة السائل، ومن ذلك ما في الحديث: أنه صلى الله عليه وسلم سئل: أي الأعمال أفضل؟، فقال: ((إيمان بالله))، قال: ثم ماذا؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله))، قال: ثم ماذا؟، قال: ((حج مبرور)) [5].
وسئل: أي الأعمال أفضل؟، قال: ((الصلاة لوقتها))، قال: ثم أي؟، قال: ((بر الوالدين))، قال: ثم أي؟، قال: ((الجهاد في سبيل الله)) [6]، إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة[7].
وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة في اجتهادهم في تحقيق المناط، ومنه ما جاء أن ابن مسعود جاء يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فسمعه يقول: ((اجلسوا))، فجلس بباب المسجد، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: ((تعالَ يا عبدالله بن مسعود)) [8].
وسمع عبدالله بن رواحة وهو بالطريق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: ((اجلسوا))، فجلس في الطريق، فمر به النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((ما شأنك؟))، فقال: سمعتك تقول: اجلسوا، فجلست، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((زادك الله طاعةً)) [9].
فهما اجتهدا هل يدخلان في الأمر أو لا؟، وهذا من تحقيق المناط.
ومنه ما في قصة توجُّه الصحابة إلى بني قريظة وقول النبي صلى الله عليه وسلم لهم: ((لا يصلِّ أحد العصر إلا في بني قريظة))، فأدركهم وقت العصر في الطريق، فقال بعضهم: (لا نصلي حتى نأتيها)، وقال بعضهم: (بل نصلي، ولم يرد منا ذلك)، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يعنِّفْ واحدة من الطائفتين[10]، فالصحابة اختلفوا في تطبيق الأمر، وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على اجتهادهم[11].
وقد اجتهد الصحابة من بعد النبي صلى الله عليه وسلم في حوادثَ كثيرة، كجمع المصحف، وكتابته في المصاحف، وجلد شارب الخمر، وتضمين الصناع، ونحو ذلك[12].
وكان من أهم أسباب أخذ الصحابة بالاجتهاد وتوسعهم فيه أن الاجتهاد سبيل إلى إقامة مصالح العباد، ولو لم يأخذوا به لبقيت الوقائع خالية من الأحكام الشرعية؛ لأن الوقائع كثيرة، والنصوص الشرعية قليلة، فلم يبقَ إلا سبيل الاستنباط من النصوص الشرعية من أجل توسيعها لتشمل الحوادث الكثيرة[13]، وقد اشتهر جملة من الصحابة بالعلم والاجتهاد؛ كعمر، وعثمان، وعلي، وغيرهم.
وتتابع التابعون من بعدهم على مسالك الاجتهاد، واقتدوا بمن قبلهم، وأخذوا عنهم كيفية الغوص في معاني النصوص[14].
هذه خلاصة الكيفية البدائية لنشأة الاجتهاد، حسب الإشارات التي جاءت في ثنايا كلام الشَّاطبي.
—————————————-
[1] الموافقات (4/ 465 – 466).
[2] روى مسلم في صحيحه كتاب الجهاد والسير باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم (12/ 72/ 1763) عن ابن عباس عن عمر رضي الله عنهم حديثًا مطولًا، وفيه: (فلما أسروا الأسارى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: ((ما ترون في هؤلاء الأسرى؟))، فقال أبو بكر: (يا نبي الله، هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية، فتكون لنا قوة على الكفار؛ فعسى الله أن يهديَهم للإسلام)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما ترى يا بن الخطاب؟))، قلت: (لا والله يا رسول الله، ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تمكنا فنضرب أعناقهم…)، فهوِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، ولم يَهْوَ ما قلتُ، فلما كان من الغد جئت، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان… فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أبكي للذي عرض على أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عرض عليَّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة…).
[3] جاء في حديث كعب بن مالك – رضي الله عنه – في تخلفه عن تبوك – الذي أخرجه البخاري في صحيحه كتاب المغازي باب حديث كعب بن مالك (5/ 151/ 4418) ومسلم في صحيحه كتاب التوبة باب حديث كعب بن مالك وصاحبيه (17/ 72/ 2769) إذن النبي صلى الله عليه وسلم للمنافقين حين رجع من تبوك عن تخلفهم، ولكن ذكر بعض المفسرين أن سبب نزول هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لبعض المنافقين في التخلف عنه حين شخص إلى تبوك، فعاتبه الله على إذنه لهم؛ انظر: جامع البيان (6/ 380، 382) تفسير القرآن العظيم (2/ 374 – 375).
[4] انظر: الموافقات (1/ 259 – 260).
[5] رواه البخاري في كتاب الإيمان باب من قال: إن الإيمان هو العمل (1/ 14/ 26) ومسلم كتاب الإيمان باب بيان كون الإيمان بالله أفضل الأعمال (2/ 63/ 83) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] رواه البخاري كتاب الجهاد والسير باب فضل الجهاد والسير (3/ 263/ 2782) ومسلم كتاب الإيمان باب بيان كون الإيمان بالله أفضل الأعمال (2/ 66/ 85) عن ابن مسعود رضي الله عنه.
[7] انظر: الموافقات (5/ 26 وما بعدها).
[8] رواه أبو داود في سننه كتاب الصلاة باب الإمام يكلم الرجل في خطبته (1/ 656/ 1096) والبيهقي في سننه الكبرى كتاب الجمعة باب الإمام يأمر الناس بالجلوس عند استوائه على المنبر (3/ 206) عن مخلد بن يزيد عن ابن جريج عن عطاء عن جابر رضي الله عنه، وقال أبو داود: “هذا يعرف مرسلًا، إنما رواه الناس عن عطاء مرسلًا، ومخلد هو شيخ – يعني أنه هو الذي وصله وخالف فيه غيره”، وجاء الحديث من طريق الوليد بن مسلم حدثنا ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس – رضي الله عنهما، رواه ابن خزيمة في صحيحه كتاب الجمعة باب أمر الإمام الناس بالجلوس عند الاستواء على المنبر يوم الجمعة (3/ 141/ 1780) والحاكم في المستدرك كتاب الجمعة (1/ 283)، وصححه الحاكم على شرط الشيخين، وأقره الذهبي، ولكن قال ابن خزيمة: “إن كان الوليد بن مسلم ومن دونه حفظ ابن عباس في هذا الإسناد، فإن أصحاب ابن جريج أرسلوا هذا الخبر عن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم”، وقال الألباني في تعليقه على صحيح ابن خزيمة: “فيه مع الإرسال الذي أشار إليه الحافظ – يعني ابن خزيمة – عنعنة ابن جريج، وكذا الوليد بن مسلم، وكان يدلس تدليس التسوية، وهشام بن عمار كان يتلقن.
[9] رواه البيهقي في دلائل النبوة باب ما جاء في إسماعه صلى الله عليه وسلم خطبته العواتق في خدورهن وهو في موضعه من المسجد (6/ 257) عن عبدالرحمن بن أبي ليلى مرسلًا، بلفظ: ((زادك الله حرصًا على طواعية الله تعالى وطواعية رسوله))، وأخرجه أيضًا في الباب السابق (6/ 256) موصولًا عن عائشة – رضي الله عنها – ولكن دون قوله: (زادك…).
[10] رواه البخاري في صحيحه كتاب المغازي باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب ومخرجه إلى بني قريظة ومحاصرته إياهم (5/ 60/ 4119) ومسلم في صحيحه كتاب الجهاد والسير باب المبادرة بالغزو وتقديم أهم الأمرين المتعارضين (12/ 83/ 1770) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
[11] انظر هذه الأمثلة في الموافقات (1/ 264 – 266).
[12] انظر لهذه الأمثلة الاعتصام (2/ 354 وما بعدها).
[13] انظر: الموافقات (2/ 13، 5/ 38 – 39) الاعتصام (2/ 478).
[14] انظر: الموافقات (2/ 242).
المصدر: شبكة الألوكة.