نزعة نور الدين الزنكي للبناء والإعمار
بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)
إنَّ الحاكم الناجح في نظره هو ذلك يعرف كيف يحقق أكبر قدر من العمران، والتحضر بأقل قدر من الزمن( خليل، 1980، ص19) ، فقد بنى نور الدين المساجد، والربط، والزوايا للتعبد، وتربية الروح، كما أنشأ المدارس، ودور الحديث للتعليم وتربية العقل، وشجّع أعمال الفروسيّة، وسائر النشاطات الرياضية، لكسب المزيد من المهارات القتالية، وتنمية الجسد، وبنى أيضاً دوراً للأيتام لإيواء أطفال المسلمين، والمارستان لمعالجة المرضى، وأقام الجسور، والقناطر، والحدائق، والقنوات، والأسواق، والحمامات، والمخافر، وشقَّ الطرقات العامة، فحفلت دولته بالكثير من المؤسسات الاجتماعية، والعمرانية.(خليل، 1980، ص19)
ولم يغفل نور الدين ـ وهو بصدد البناء والإعمار ـ عن الجانب الجمالي الذي يرتبط ارتباطاً أساسياً بالإبداع. ورجلٌ كنور الدين خرَّجته مدرسة الإسلام الرحيبة الشاملة لا يمكن إلا أن يرى في العمل والتزيين في المضمون والشكل في الوقائع والجماليات وجهين لعملة واحدة، فقد أوقف بستان الميدان، والغيضة التي تليه في دمشق لتطييب جوامع دمشق، ومدارسها، لكي يظل هواؤها معبقاً بالروائح الطيبة والشذا العبق.
وكان على اهتمام كبير بهذه المسألة بحيث إنه حدَّد مصارف وقفه المذكور: نصفه على تطييب جامع دمشق، والنصف الاخر يقسم عشرة أجزاء، جزءان على تطييب المدرسة التي أنشأها للحنفيَّة، والثمانية أجزاء الأخرى على تطييب المساجد التسعة في دمشق وأطرافها. وجلب للمدرسة الحلاوية التي بناها في حلب من مدينة أفامية مذبحاً من الرخام الملكي الشفاف، الذي إذا وضع تحته ضوء شفّ من وراء الرُّخام، ولما دخل قلعة دمشق عام 549هـ أنشأ بها داراً عامة، في غاية الحسن سمَّاها دار المسرَّة، وفي قلعة حلب أنشأ نور الدين أبنية كثيرة، وأقام ميداناً «خضَّره بالحشيش» وسمي الميدان: الميدان الأخضر.(خليل، 1980، ص21)
ويرتبط بهذه المسألة الجمالية ما كان نور الدين يأمر به في المناسبات؛ حيث أمر في عام 552هـ نور الدين بزينة قلعته، ودار مملكته بحيث حلَّى أسوارها بالآلات الحربية، من الجواشن، والدروع، والتروس، والسيوف، والرماح، والطوارق، والإفرنجية، والأعلام، والطبول، والبوقات، وأنواع الملاهي المختلفات، وهرعت الأجناد، والرعايا، وغرباء البلاد لمشاهدة الحال، فشاهدوا ما استحسن منه مدة سبعة أيام.
لقد كان إكسسوار الحفل وديكوراته ـ إذا صح التعبير ـ مناسبةً تماماً لمدينة كدمشق، تتزعم حركة الجهاد، وتقف في قلب التحدي. وتبدو نزعة نور الدين للإعمار، والتحضر أكثر ما تبدو في سياسته الرامية لتوطين العناصر البدوية، وجعلها تمارس حياة الاستقرار، فقد أقطع لأمراء العرب في جنوب الشام، والحجاز القطائع لئلا يتعرضوا لقوافل الحجاج(بن قزاغلي، 1951، ج 8 ص306) ونقل أعراب بني عباد من البلقاء، والأردن إلى صرخد الملاصقة لبلاد حوران من أعمال دمشق، ورغم: أن هذه الخطوة انصبت على تجميد نشاط هؤلاء في مساعدة صليبي المنطقة: وإرشادهم على الطرق، وتحويل هؤلاء الأعراب إلى قوة تعمل لصالح المسلمين أنفسهم، كما أشارت الرواية المذكورة، إلا أنها حققت من ناحية أخرى هدفاً عمرانياً واضحاً.(خليل، 1980، ص22)
وليس ثمة رواية تحمل دلالتها على نزعة نور الدين للبناء والإعمار تعدل رواية ابن جبير، الرحَّالة الذي زار دمشق، ووصف معالمها بعد سنوات، فحسب من وفاة نور الدين، ولا شك، أن وصفه هذا ينسحب على العصر الذي نتحدث عنه، لأن تغييرات جغرافية المدن، لا تقاس بالسنين المحدودة، بل بعقودها على أقل تقدير.
يقول الرجل، مشيراً إلى الاتساع العمودي لدمشق: «وبناء البلد ثلاث طبقات، فيحتوي من الخلق على ما تحتوي ثلاث مدن، لأنه أكثر بلاد الدنيا خلقاً، وحسنه كله خارج المدينة لا داخلها، وبدمشق ما يقرب من مئة حمَّام فيها وفي أرباضها، وفيها نحو أربعين داراً للوضوء يجري الماء فيها كلها، وليس في هذه البلاد كلها بلدة أحسن منها للغريب؛ لأن المرافق بها كثيرة .. وأسواق هذه البلدة من أحفل أسواق البلاد وأحسنها انتظاماً وأبدعها صنعاً».(خليل، 1980، ص24)
وقد سرت عدوى الرغبة في البناء والإعمار إلى رجال نور الدين وكبار موظفيه ـ كما سنرى في الفصول التالية ـ فراحوا يتسابقون في بناء المدارس، والمساجد، ومؤسسات الخدمات الاجتماعية، وما أكثر الروايات التي قيلت في هذا الصدد، ويكفي أن نطلع على تراجم رجال نور الدين محمود، بل النساء اللواتي اشتهرن في عصره كذلك.
_________________________________________________________________
مراجع البحث:
علي محمد الصلابي، الدولة الزنكية، دار المعرفة، بيروت، 2007، ص 164-166
شمس الدين أبي المظفر يوسف بن قزاغلي، مراة الزمان في تاريخ الأعيان،، الطبعة الأولى، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدر اباد الهند 1370 هـ 1951 م.
ابو شامة شهاب الدين المقدسي، عيون الروضتين في اخبار الدولتين النورية والصلاحية، تحقيق: ابراهيم الزيبق، منشورات وزارة الثقافة، دمشق،1418-1997
عماد الدين خليل، نور الدين محمود، الرجل التجربة، دار القلم 1400 هـ 1980 م.