مقالاتمقالات مختارة

نحو قراءة منصفة للتاريخ الإسلامي

بقلم هشام دابير
إن كان من تاريخ متميز له علا كعبه على باقي التواريخ فهو تاريخ الإسلام الذي وصلت فيه دعوة الحق إلى شتى بقاع الأرض وعرفت العلوم الشرعية والكونية فيه تقدما كبيرا، وترك فيه الأسلاف للأخلاف معينا لا ينضب من كنوز العلم والمعرفة، وأنجبت أرحامه أبطالا وفرسانا للسيف والقلم تفخر بيهم الأجيال، ولا يسقط هذا الفخر بالتقادم.
وتاريخ الإسلام كمثله من تواريخ الأمم والشعوب له صفحاته المشرقة ونقطه السوداء، وهذا من سنن الله التي لا تحابي أحدا ولا تتبدل، وتدور مع الزمن حسب الأحداث والأشخاص. هذا لا يعني أن نضرب الصفح عن بعض الفترات السوداء من تاريخنا بحجة أنها تسيء للإسلام، وإنما نفعل ذلك للاعتبار وقراءة سنن الله في التاريخ عسى أن يعيننا ذلك على قراءة الواقع قراءة سليمة وتجنب أخطاء الماضي لبناء المستقبل على أساس متين انطلاقا من القاعدة القرآنية الذهبية: “لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ” (يوسف:111).

وهذا الاعتبار لا يتحقق إلا لمن قرأ التاريخ بوعي وتعقل وبصيرة نافذة، ولا يتم هذا كله إلا باستحضار مبدأ الإنصاف، لأن التاريخ الإسلامي تعرض لحملة شرسة من التشويه والتحريف من طرف المستشرقين وأذنابهم (بل ومن بعض المنتسبين إلى الإسلام قصدا أو بحسن نية) بذريعة الموضوعية والعلمية، مع أن المتأمل في إنتاجات هؤلاء المستشرقين لا يجد أمامه إلا الضرب تحت الحزام والنقد الهدام والتشكيك في الرموز والثوابت بغرض هدم الإسلام لبنة لبنة تمهيدا لتسليم دوله إلى الاستعمار الغربي والإمبريالية العالمية.

وهذا الإنصاف في قراءة التاريخ الإسلامي يقتضي تمثل واستصحاب بعض القواعد العلمية والتاريخية نجمل أبرزها فيما يأتي :
– ينبغي التمييز أولا بين الإسلام باعتباره دينا له أحكامه ومبادئه السماوية المعصومة، وبين تاريخ الإسلام الذي لا يخرج عن اجتهادات بشرية في تنزيل أحكام الإسلام وقيمه على الواقع، وهذا الاجتهاد له نصيبه من الصواب والخطأ. وكم من تهم كيلت للإسلام زورا وبهتانا مردها عدم التمييز بين الأمرين!

– الحقبة التاريخية التي عاش فيها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أفضل حقب الإسلام، إذ فيها تم تطبيق مبادئه وتنزيلها عقيدة وشريعة، ولا غرو في ذلك لأن الوحي ينزل آنذاك فيهدي ويقوم ويرشد.

– وقعت في عهد الخلفاء الراشدين مجموعة من المستجدات التي لم تكن في العهد النبوي، لذلك ينبغي تفسير كل ما كان من اجتهاداتهم في ضوء معايير عامة وضوابط كلية، منها رغبتهم في حماية جناب التوحيد، واختلاف منهج أحدهم عن الآخر في السياسة العامة وأمور الحكم. وهذا لا يضرهم في شيء -رضي الله عنهم- لأنهم أهل الاجتهاد والقياس لعلمهم ورجاحة عقلهم ومعاصرتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد شجعهم على هذا الاجتهاد والاختلاف في الرؤية اعتبار الرسول صلى الله عليه وسلم اجتهادهم سنة وحكمهم راشدا كما جاء في الحديث: “عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ”. / رواه الترمذي والحاكم ووافقه الذهبي.

– لا يصح بحال من الأحوال أن يعمم ما قد يكون حدث من خليفة أموي أو عباسي.. من زيغ وانحراف عن مبادئ الإسلام على الحكم ككل أو الدولة آنذاك بجميع حكامها، فلا يستقيم إذن أن تعمم الجزئيات والاستثناءات.

– مراحل الضعف والضمور التي عرفتها بعض الدول الإسلامية بسبب التآمر الخارجي والفتن الداخلية تقرأ أحداثها في سياقها الخاص دون تعميم ولا إسقاط على باقي فتراتها الذهبية.

– إن إسقاط المصطلحات الأيديولوجية الحديثة ومفاهيمها ومضامينها الفكرية على نظم الإسلام ومبادئه الكلية العامة يمثل خطأ منهجيا فادحا، لأن هذه المصطلحات لا تلبث أن تحل محل مصطلحات النظام الإسلامي وأفكاره بعد مرحلة من التشويش والتداخل، وهذا ما يعرف ب “التداخل والإحلال” عن طريق خلط الأوراق وتقديم نموذج مشوه من المصطلحات والنظريات الأجنبية التي تستبدل بها المصطلحات الإسلامية.

– لا مناص من إعادة كتابة التاريخ الإسلامي وقراءته من مصادره الموثوقة، لا من كتابات أهل الاستشراق وأعداء الإسلام التي تغيب عنها أبسط شروط الموضوعية وقواعد الإنصاف، ويتم تلقفها وتلقينها لناشئة المسلمين وطلبتهم دون تحرٍّ ولا تمحيص. وهنا يجب الاستعانة بعلم الجرح والتعديل عند علماء الحديث النبوي الشريف باعتباره العاصمة الكبرى من الوقوع في قاصمة تحريف التاريخ وتشويهه.

– لا ينبغي الحكم على الأفراد لموقف بعينه من حادثة تاريخية أو قضية معينة بناء على الأيديولوجية العقدية أو السياسية لأن هذا الأمر يبطل الموضوعية.

هذه بعض القواعد المهمة في التعاطي مع تاريخنا الإسلامي، لا نزعم أن الاهتداء بها كفيل بتصحيح ما اعترى الإسلام من تشويه وإساءة متعمدة، لكننا نستطيع أن نجزم أنها تحقق الحد الأدنى من شروط الموضوعية والإنصاف الذي حثنا الإسلام على الالتزام به وجعله منهجا عاما في التعامل مع المخالف في الدين والعقيدة، بل حتى مع المعتدي الظالم. قال سبحانه: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ” (المائدة: 8). ومن باب أولى أن يطبق هذا المنهج على تاريخنا الذي صنعه أشخاص مسلمون نحسب أن معظمهم كانوا على خير وهدى.

(المصدر: الجزيرة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى