مقالاتمقالات مختارة

نحو فهمٍ أعمق لجوهر الشريعة وسياقات تطبيق الأحكام.. واجبات الساعة!

نحو فهمٍ أعمق لجوهر الشريعة وسياقات تطبيق الأحكام.. واجبات الساعة!

بقلم أحمد التلاوي

بلا شك، كانت السنوات الأخيرة مجالاً مهمًّا لمراجعات عميقة تمت على الكثير مِن الأمور التي كانت في حكم البديهيات في الفكر الإسلامي، وفي المجال التطبيقي للعقيدة الإسلامية بمختلف جوانبها، واتضح أنَّها كانت ليست بالبديهيات، وأنها لا تعني الدين ذاته، وإنما تعني فهم بعض الأوَّلين والمتأخرين للدين، وللشريعة.

وبالتالي؛ ظهرت حركة واسعة النطاق، تدعو إلى تحديث تصوراتنا عن الدين وعن الشريعة، وتستند إلى قاعدة أنه لا غرو لو أنَّنا تحرَّرنا مِن بعض هذه الرؤى باعتبار أنَّها تأويلات وليدة عصرها وظروفه ومتطلباته، وليست هي الدين نفسه، وبدأنا في البحث عن تفسيرات ورؤى أخرى وفق مقتضى الواقع.

وقد يكون قد تمت مناقشة بعض جوانب هذا الأمر في هذا الموضِع من الحديث، وهناك الكثيرون ممَّن ناقشوه، إلا أنَّه في حقيقة الأمر؛ فإنَّ هناك ضرورة لإجراء نقاشٍ مستمرٍّ في هذا الصدد في ظل كثير مِن العوامل التي تفرض قضية التحديث، ليس تحديث الخطاب الديني فحسب، وإنما تحديث مفاهيمنا بالكامل عن الدين وعن الشريعة.

ومن بين أهم هذه العوامل، المكتشفات العلمية الحديثة في المجالات التي قد يحصل فيها تقاطعات مع النَّصِّ القرآني، ولاسيما في علوم الأحياء والفضاء، والتحولات الحاصلة في القيم الاجتماعية والثقافية في المجتمعات الإنسانية كافة، في ظل حالة الانفتاح الكبير الحادثة في وسائل التواصل الواقعي وفي الفضاء الافتراضي.

وقد يكون من مكرور ومحزِن القول التأكيد على ضرورة ذلك من خلال الإشارة إلى نتائج بحوث كثيرة جرت في عالمنا العربي والإسلامي، وفي البلدان التي يوجد بها أقليات مسلمة، بالذات في أوروبا وأمريكا الشمالية؛ حيث تزداد نسبة الانفضاض عن التَّديُّن، وترك فكرة أنْ يكون الدين هو الموجِّه الرئيسي لتصورات المسلم وحِرَاكِه في هذه الحياة.

ومع كون هذه المشكلة مستمرة؛ فإنَّه مِن المستمرِّ كذلك الاستمرار في الحديث فيها، وفي النقاط التي تتعلق بها.

بدايةً؛ فإنَّه ينبغي التأكيد على أنَّ الشريعة الإسلامية في جوهرها، هي المنهج أو الطريقة التي ارتضاها اللهُ تعالى لنا لكي نحيا بها، وتحكم تصوراتنا لأنفسنا وأدوارنا في هذه الحياة، وعلاقتنا بالخالق عزَّ وجل، وكذلك علاقاتنا بسائر المخلوقات الأخرى.

ولكن لا ينبغي لنا أنْ نقف في تعريفها عند هذا الحَد؛ حيث الشريعة إنَّ اللهَ تعالى بحكمته البالغة فَرَض علينا هذا المنهج لغايات كُبرى، تندرج كلها أسفل عنوان واحدٍ عريض، وهو أنَّ الشريعة غرضها تحقيق مصالح الدين والدنيا، وتنظيم مصالح الإنسان في هذه الأخيرة، حتى يصل إلى محطة الحياةِ الآخرةِ بسلامٍ.

وهذا هو جوهر المنهج الذي استند إليه الأصوليون في تحديد مقاصد الشريعة الخمسة المعروفة، وهي حفظ الدين والنَّفس والعقل والمال والعِرض أو النَّسل.

وقبل التطرُّق إلى الأفكار العامة المراد طرحها في هذا المقال، فإنَّه من الأهمية بمكان التمييز هنا بين مستويَيْن من الحديث عن علاقة الشريعة بالواقع، أحدهما مقبول، والآخر غير مقبول، ولكن يحدث بينهما تداخلٍ يؤدي إلى رفض مبدئي من دون نقاش أو تفكير من جانب البعض – كثيرٌ من المسلمين – وجاءةً منهم مِن قضية الدخول في منطقة الكُفر والعياذ بالله.

المستوى الأول، هو تطويع الشريعة لكي تلائم الواقع، وهذا مرفوض، ولا نعنيه بالحديث هنا، ولا ندعو إليه، لأنَّ الشريعة هي منهاج اللهِ تعالى لنا، وقاعدة التسليم والإذعان في العقيدة، تقتضي منَّا الاعتقاد المطلق بصوابيتها، بالإضافة إلى أنَّها جاءت من لدن اللهِ تعالى، وهو الخالق الأدرى بخلقه، وبمصالحهم، وهو الحكيم العليم.

المستوى الثاني، هو المتعلق بكيفية تطبيق الشريعة وإنزال أحكامها على الواقع، وهذا هو صُلب الفقه الإسلامي، وهذا هو الذي لا مشكلة في إخضاعه للمتغيرات؛ حيث شاءت حكمة اللهِ تعالى أنْ يأتي القرآن الكريم، وعاء أحكام الشريعة الأساسي، عامًّا في سياقاته وصياغاته، من أجل تحقيق الصلاحية لكل زمان ومكان.

ومِن ثَمَّ، ينبغي هنا توضيح بعض الأمور. أولها، أنَّ الشريعة ليست هي كل الدين، وليست هي العقيدة، والدليل في القرآن الكريم؛ حيث العقيدة واحدة؛ عقيدة التوحيد، وآمن بها كل أنبياء اللهِ تعالى ومرسليه، ومَن تبعهم، وشهدوا بأنهم مسلمون، ولكن الشريعة والمنهاج اختلفت لكل أُمِّة أرسل اللهُ تعالى إليها التكليف.

يقول اللهُ تعالى في سُورَة “المائدة”: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ(48)}.

فنجد مثلاً أنَّ الصلاة والصوم والزكاة والحج؛ كلها تم تكليف الأمم السابقة على البعثة النبوية، ولكن بصورٍ مختلفةٍ، ومن أسباب هذا الاختلاف، هو مقتضى الواقع؛ حيث إنَّ القواعد التي كانت تصلح لبني إسرائيل، في مصر، وقت بعثة نبي اللهِ موسى (عليه السلام)، لا تصلح لهم وقت بعثة السيد المسيح (عليه السلام) فيهم، في فلسطين، مع تبدُّل الظرفية والمكان، وهكذا.

في هذا الإطار، نفهم أنَّ أحكام الشريعة، إنَّما هي أداةٌ وضعها اللهُ تعالى لنا لكي ندير أمورنا ونحقق مصالح الدين والدنيا، وإنْ دخل الإيمان بها، والتسليم لها، ضمن العقيدة.

وبالتالي؛ فإنَّه ينبغي لنا عند التعامل مع الشريعة الإسلامية، مراعاة مجموعة من القواعد والمفاهيم عند التطبيق.

أولها؛ أنَّه لا يُوجد تكليفٌ أو حكمٌ شرعيٌّ، ورد في القرآن الكريم أو في السُّنَّة النبوية، فرضه اللهُ تعالى من دون عِلَّة وسبب، وبالتالي، فإنَّه -منطقيًّا- متى انتفت العِلَّة أو السبب؛ انتفى التطبيق، وهو أمرٌ مختلف عن القول “انتفت القاعدة الشرعية”؛ حيث القاعدة قائمة ونؤمن بها، ولا نعطِّلها، ولكن نعطِّل تطبيقها.

فمثلاً لو لم يكمِل الإنسان النِّصَاب في دخله؛ فلا زكاةَ عليه، والتكليف أصلاً رُفِع عمَّن غاب عنه أحد مناطَيْ التكليف؛ العقل والبلوغ، أو كلاهما، وعن المريض والأعمى والأعرج، وكلُّ ذلك مذكورٌ في القرآن الكريم.

ثانيها؛ أنَّه لا يُوجد تكليفٌ أو حكم شرعيٌّ مطلق النفاذ؛ حيث إنَّ لكل حكمٍ وتكليف ضوابط عند تطبيقه وتنفيذه، وهذا جزءٌ أصلاً من الشريعة الإسلامية؛ أي أنَّ الشريعة وأحكامها كما جاءت في القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية أكَّدت مبدأ الضوابط هذا، وبالتالي؛ نفي مبدأ الإطلاقات الذي يلجأ إليه البعض، وأضاع بالفعل الرابط بين المصلحة والشريعة، وبالتالي، دفع الكثيرين للانفضاض عن الدين.

والأمر هنا لا يتعلق بعبارات وقواعد عامة مثل سماحة الدين، والسَّعة وكذا؛ مطلقًا، وإنما الأمر في صلب أحكام الشريعة نفسها، بشكلٍ تطبيقيٍّ.

ونأخذ نماذج على ذلك. يقول اللهُ تعالى في كتابه العزيز: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [سُورَة “البقرة” – مِن الآية 223]. ظاهر القول أنَّه لا قيود على العلاقة الزوجية، وأنَّ من حق الزوج أنْ يأتي زوجته في أي وقت، وهذا خطأ؛ حيث هناك قيود في ذلك، ومنها قيدٌ زمنيٌّ حتى؛ أي من نفس جِنس الإطلاق الموجود في هذه الآية؛ الإطلاق الزمني، وسبق هذه الآية مباشرةً.

يقول تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)}، أي نهيٌّ مُغَلَّظ عن إتيان الزوجة وقت الحيض.

وحتى لو أنَّنا فهمنا “أَنَّى شِئْتُمْ” هذه – في الآية (223) – على أنَّها إطلاقٌ مكاني لجسد الزوجة بالكامل؛ فإنَّه في الآية (222)؛ قيَّد اللهُ تعالى إتيان الزوجة في مناطق محددة من جسدها؛ عندما قال اللهُ تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ}، ولهذا حرم العلماء بناء على بعض النصوص إتيان المرأة في دبرها، وأثبت العلم الحديث أن ذلك يعود إلى بواعث طبية عديدة؛ أي من مصلحة الإنسان عدم إتيان المرأة في دُبُرِها.

ولذلك بمنطق البعض مِن غير المتخصصين؛ مِن مدرسة إطلاقات النَّصِّ والحُكم؛ فإنَّه لو وقفنا عند الآية (223) فقط في هذا الأمر؛ إمَّا سوف نقول بتناقُض القرآن والسُّنَّة حاشا لله تعالى، وحاشا لرسوله الكريم “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”، أو سوف نرتكب فاحشة في فِرَاش الزوجية، فِرَاش الحلال نفسه.

ونأخذ نموذج آخر على ذلك، ففي سُورة “البقرة” أيضًا قال اللهُ تعالى ما يمكن أنْ يُفهَمَ منه إطلاق حُكم القَصاص. يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى}، ثُمَّ جاء بالضوابط والقيود في نفس الآية، في الآية التالية، ففي نفس الآية، جاء قوله تعالى: {…. فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)}.

ثم وفي الآية التالية، يقول عزَّ وجل: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(179)}، وفي تفسيرها، قال المفسِّرون إنَّ القَصاص مِن اختصاص أهل العقل والحكم، وليس لكُلِّ المؤمنين، وكذلك أنَّ مقصود القصاص هو الردع والزجر لحفظ مقاصِد الشريعة، بالذات النفس والمال والعِرض، مما يقود لحفظ الأمن والاستقرار، وبالتالي؛ لا قَصاص لو أدَّى ذلك لمزيدٍ من القتلِ في حالة القَصاص في جرائم النَّفس.

والأمر واضح حتى في أحكام العبادات عامةً؛ فالصلاةُ التي هي عماد الدين؛ تكون حرامًا في بعض الأوقات، وغير مستحبَّة في أوقاتٍ أخرى، وكذلك الصوم.

وفي حقيقة الأمر؛ فإنَّ هذا بابٌ واسعٌ يشمل قضايا مركزية مهمة، منها أنَّ الجذر الأساس الذي يستند له كل ذلك، بما في ذلك كيفية تطبيق أحكام الشريعة، هو القوانين التي وضعها اللهُ تعالى كَرَبٍّ خالقٍ لهذا الكون، ومُدَبِّرِه، والتي لا يمكن لنا أنْ نتجاوزها، مثل الاستطاعة والملائمة، والتدافع، وكلها مذكورة في القرآن الكريم.

كذلك أنْ نؤمنَ أنَّ فهمنا لشريعتنا، وللقرآن الكريم؛ يجب أنْ يكون في إطار مبدأ الإحاطة؛ أي عدم فهم الآيات بمعزلٍ عن بعضها البعض، أو بمعزلِ عن السُّنَّة النبوية الشريفة، التي هي في جانبٍ منه، أحد أوجه القرآن الكريم؛ حيث هي الشارحة له. لذلك فإن أي فعل وقول وتقرير ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام، يعتبر مرآة للقرآن الكريم، وتطبيقًا له.

إنَّه مِن المهم على المفكرين والتربويين إعداد أنفسهم لكي يخصصوا له مركزيةً كبرى في منتجهم الفكري، على أنْ يكون للجانب التطبيقي فيما يتناولون؛ الجانب الأكبر؛ بعيدًا عن التنظيرات والأقوال المُرسَلة!

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى