مقالاتمقالات مختارة

نحو عقْدٍ اجتماعي جديد داخل الحركة الإسلامية

نحو عقْدٍ اجتماعي جديد داخل الحركة الإسلامية

بقلم أحمد التلاوي

خلافاً لما هو مفترض من أن تكون كل الجهود موجهة إلى خدمة المشروع الإسلامي، ورسالة الإصلاح والتجديد التي يتطلبها في مجتمعاتنا المسلمة، وبالتالي أن تكون مختلف جهود التدافُع موجهة إلى الخصوم وقوى الظلم والاستكبار والطغيان، أيّاً كانت هويتها، نقول إنه خلافاً لذلك فإننا نرى أن الصراعات البينية الداخلية صارت عنوان المرحلة للكثير من الحركات الإسلامية.
والمؤسف والمدهش في آنٍ: أن هذه الأزمات شملت مختلف المستويات، أي سواء بين هذه الحركات أو داخل الحركة الواحدة.

وآخر هذه الأزمات -والتي باتت عنواناً رئيساً للنقاشات الداخلية- ما اصطلح على تسميته بأزمة رسائل المعتقلين من شباب الإخوان المسلمين في مصر، وغيرهم ممَّن اعتُقِلوا ضمن الحِراك الاحتجاجي وأعمال العنف التي شهدتها مصر في السنوات الأخيرة، والتي ردت عليها بعض قيادات ما يُعرَف بالجناح التاريخي للجماعة، بأنهم غير ملزمين بما جاء فيها.

ربما كان هنالك ملاحظات موضوعية على طريقة طرح هذه الرسائل، ووجود حالة من غياب اليقين فيها -كما يقول البعض- بأنها في الأصل طرح أعدَّته الحكومة المصرية، ضمن عملية إضعاف جماعة الإخوان المسلمين، إلا أنه يتبقى لدينا حقيقتان موضوعيتان لا خلاف عليهما:

الحقيقة الأولى/ أن معاناة عشرات الآلاف من المعتقلين -ومن خلفهم مئات الآلاف من ذويهم خارج السجون والمعتقلات- حقيقة لا يمكن إنكارها، وأن هذه المعاناة تحمّلوها نتيجة مواقفهم المبدئية من قضية التغيير في مصر، والذي صدّرتهم فيه قيادة الجماعة.

الحقيقة الثانية/ أن ردود بعض قيادات الإخوان في الخارج، كانت مما لا يمكن قبوله، ورآها البعض غير موفقة، مع إنكارها الكامل لتضحيات هؤلاء، والتبرؤ من الشباب الذين تعاطفوا مع الجماعة من غير الإخوان المرتبطين، وخصوصاً بعد جريمة فض اعتصام رابعة، ووضْع بديل واحد لهم، وهو التبرؤ من الإخوان – كما قال نائب المرشد العام للجماعة/ إبراهيم منير لقناة “الجزيرة”.

ردود بعض قيادات الإخوان في الخارج على مطالب المعتقلين -إن صحت نسبتها لهم- كانت مما لا يمكن قبوله، ورآها البعض غير موفقة، مع إنكارها الكامل لتضحيات هؤلاء، والتبرؤ من الشباب الذين تعاطفوا مع الجماعة من غير الإخوان المرتبطين، وخصوصاً بعد جريمة فض اعتصام رابعة، ووضْع بديل واحد لهم، وهو التبرؤ من الإخوان

وأيّاً كان الموقف من هذه الرسائل ومثيلاتها (من مبادرات فردية أو جماعية ظهرت في السنوات الأخيرة؛ استجابة لظروف وملابسات الواقع، وتقييم الشخص العادي المتابع من الخارج، والمهتم بالشأن الإسلامي أو الحركي) إلا أنها في النهاية يبقى أن لها أثراً شديد السلبية على صورة الحركة الإسلامية بالمعنى العام للحركة الإسلامية المتصل بالعمل الإسلامي العام.

ويمتد أثر ذلك إلى الرسالة الأساسية للعمل الإسلامي، التي ضاعت من الجميع في خِضَمِّ كل هذه التطورات، وهي الدعوة إلى هذا الدين في أوساط غير المسلمين، وصيانة مفاهيم الدين الصحيحة في أوساط المسلمين، في ظل ضعف مسارات التنشئة الدينية السليمة في مجتمعاتنا العربية والمسلمة.

وقد يرى البعض –وأنا منهم– أن سبب هذه المشكلات ظاهرة ما يمكن أن نطلق عليه مسمَّى “الجماعاتية” في العمل الإسلامي، أو بمعنى أدق طغيان الانتماء إلى الجماعة على الهدف من تأسيسها، وعلى الانتماء إلى الدين ذاته، مع تحول الانتماء لهذه الجماعة أو تلك، إلى ما يشبه/ بل إلى انتماء ديني حقيقي، وصارت الجماعة أو الحركة صنو الانتماء إلى الدين لدى الكثير من الناس.

ولكن تبقى حقيقة مهمة، وهي أن هناك ظاهرة اسمها “الحركات الإسلامية”، تضم بين جنباتها عشرات -إن لم يكن مئات- الملايين من المسلمين بطول العالم الإسلامي وعرضه، وفي بلدان المهاجر، وأن هذه الظاهرة (الحركات الإسلامية) هي التي تؤدّي الجزء الأكبر من جهود العمل الإسلامي المختلفة، سواء على المستوى السياسي، أو المجتمعي والدعوي.

وبالتالي فإن فقه الواقع يفرض علينا البحث عن معالجات لهذه المشكلات، قبل البدء في الحديث عن قضية إعادة توحيد الصف الإسلامي، وإزالة الآثار الجانبية السلبية لهذه الظاهرة، التي قادت مع عوامل أخرى إلى تفكك الصف المسلم إلى حركات وجماعات وفرق، تناحرت مع بعضها البعض، سواء فكريّاً أو بالسلاح.

وفي حقيقة الأمر، فإنه ليس أكثر من هذا الأمر تعقيداً؛ لأن الأزمات الداخلية على مستوى الحركة الواحدة، أو بين هذه الحركات والجماعات، يستند إلى تراث راسخ مؤصّل شرعيّاً بشأن طاعة أولي الأمر، وتأصيل مسألة هي في الواقع فعلاً لازمة لأي حزب أو جماعة سياسية، وهي الانضباط والالتزام بالتعليمات والمواقف العامة للحزب أو الجماعة، أو ما يُعرَف في العلوم السياسية والنُّظُم بالانضباط الحزبي “Party discipline”.

ولقد كرَّست هذه الثقافة عقود طويلة من الممارسة العملية، جرت في إطار ضغوط جمَّة من المجتمعات والأنظمة والحكومات على حد سواء، وظروف العمل الصعبة التي تواجه العاملين في حقول العمل الإسلامي المختلفة، سواء على المستوى الأمني، أو تضاد الفكرة والعمل مع ثقافة ومعتقدات المجتمعات -التي تمثل مساحات للعمل الإسلامي- وصلت إلى مستوى اليقين أو القناعة الإيمانية، أو -على أقل تقدير- تصويرها على أنها الفيصل بين النجاح والفشل، بل والفارق بين الإخلاص وضعف الإيمان.

ومكمن المشكلة –والتي من الطبيعي أن تظهر ما دامت تتعارض مع جوهر الشريعة الإسلامية، وبالتالي مع الفطرة الصحيحة وطبائع الأمور– هو أن الأوضاع التي سادت الحركة الإسلامية بالمعنى العام لها، وسياقات العمل الإسلامي لعقود طويلة، تضادت في السنوات الأخيرة مع المستجدات في البلدان العربية، وخصوصاً البلدان ذات المركزية للحالة الإسلامية، مثل مصر.

ومن المفترض – وفق كل قواعد الإدارة السليمة، ووفق قواعد العقل والمنطق السليمَيْن أيضاً – أن يطرأ تغيير على آليات العمل التنظيمي الداخلي لأي كيان، أولا/ مع حدوث فشل كبير، وهزيمة ، كان لها كبير الأثر على الحالة النفسية، والإيمانية العقدية نفسها لكثير من الصف.

وثانياً/ وجود مستجدات تفرض آليات عمل جديدة، بما في ذلك حرب استئصال حقيقية، ولكن هذا لم يحدث، وهو أكبر مكمن للفشل، وأكبر أيضاً من أية آلية قد تلجأ إليها الحكومات لتفكيك الحركات الإسلامية أو المنتسبة للدين، باعتبار أنه باعث فشل داخلي مركزي، وهي أسوأ عوامل الفشل.

ولعل أبرز المشكلات الموجودة، مشكلة الإصرار على تأجيل فكرة المراجعات –الحقيقية وليست الإعلامية– والمحاسبات الداخلية للقيادات والمسؤولين -بشكل عام- عن الأخطاء التي وقعت، فعصفت بمنجزات سنوات طويلة في مجال العمل الدعوي والتربوي، والذي هو مجال الخسارة الأكبر، وأضخم من مجرد خسارة حكومة أو مجلس نواب في منظومة سياسية فاسدة في أصل وجذر نشأتها كما هو الحال في المنظومات السياسية في عالمنا العربي.

من أبرز المشكلات الموجودة، مشكلة الإصرار على تأجيل فكرة المراجعات –الحقيقية وليست الإعلامية– والمحاسبات الداخلية للقيادات والمسؤولين -بشكل عام- عن الأخطاء التي وقعت، فعصفت بمنجزات سنوات طويلة في مجال العمل الدعوي والتربوي، والذي هو مجال الخسارة الأكبر، وأضخم من مجرد خسارة حكومة أو مجلس نواب

وتشمل جبهات المحاسبة التي كانت ولا تزال لازمة، المحاسبة على فساد كبير حاصل في مستويات عديدة، أو -على الأقل- التحقيق في الاتهامات القائمة في هذا الاتجاه، والقائمة على أدلة وأسانيد قوية، ومصارحة الناس بحقيقة الوضع.

وكان مما فاقم أثر ذلك كله، قضية مهمة، وهي: إهمال عشرات الآلاف من الشباب الحركي، وغير الحركي الذي انضم إلى حِراك العمل بمختلف صنوفه ودرجاته، وترك هؤلاء وذويهم لمصيرهم، سواء داخل السجون والمعتقلات، أو في بلدان المهاجر والمنافي الإجبارية التي ذهبوا إليها.

ولا يمكن لأي شخص -مهما كان تفاؤله- القول بأنه من الممكن معالجة هذه الأوضاع، سيما مع ما تسببت فيه من أذىً نفسي، وأحوال مروعة لملايين الناس بلغ من درجة بؤسها أنه لا يمكن معها الحديث النظري عن الطاعة، وعن الجَلَد والتضحية؛ فقد قدموا فعلاً كل ما يمكن لأي إنسان أن يقدمه، وتحملوا ما لا طاقة لهم بهم في الأصل.

ويزيد من بؤس الواقع -بحسب البعض- وجود بعض الشخصيات في مواقع القيادة بعقلية مثل عقلية “مَن أراد أن يتبرَّأ من جماعة الإخوان فليتبرَّأ.. نحن لم ندخلهم السجن، ولم نجبرهم على الانضمام لجماعة الإخوان”!

وبصريح العبارة: لا أحد يريد أن يفهم أن الوقت قد تجاوز فكرة “الطاعة” و”الانصياع” التقليدية؛ لأننا أمام طرائق تفكير وطبائع بشرية مختلفة تماماً عن الأجيال السابقة، وعضد هذه الطبائع -وخصوصاً العقلية النقدية لدى الشباب الجديد- حالة الانفتاح والسيولة الكبيرة في الأفكار والقيم، في ظل تطور وسائل الإعلام والاتصال والمعرفة.

فصار من غير الممكن مخاطبة الجيلَيْن الأخيرَيْن –بشكل عام وليس على مستوى الحركة الإسلامية وحسب– بنفس الخطاب المتحفِّظ المحافظ الذي كان سائداً قبل أربعين أو خمسين عاماً.

صار من غير الممكن مخاطبة الجيلَيْن الأخيرَيْن –بشكل عام وليس على مستوى الحركة الإسلامية وحسب– بنفس الخطاب المتحفِّظ المحافظ الذي كان سائداً قبل أربعين أو خمسين عاماً

وفق هذه المرئيات، فإننا بحاجة إلى إعادة تقييم شاملة للموقف، سيما فيما يتعلق بصياغة أطر جديدة للعلاقة بين الصف الحركي في القيادة، خصوصاً فيما يتعلق بعلاقة التلقِّي والأخذ، والتفاعُل؛ كي لا تكون في اتجاه واحد، ولا تكون قائمة على تصورات أبطلها الزمن فيما يخص العلاقة بين المركز والأطراف.

إن الحركة الإسلامية لو أرادت النجاة مما هي فيه -والذي وصل ربما إلى مرحلة الموت الإكلينيكي في بعض الحالات- فإنها يجب أن تعمل على صياغة عِقد اجتماعي جديد بين مكوناتها المختلفة .

عقد اجتماعي يراعي حالة السيولة الراهنة في المجال الاتصالي والمجتمعي، ويرسِّخ ثقافة المراجعات، وممارسات من الأهمية بمكان الالتزام بها؛ لأننا ببساطة -في المجال الإسلامي- ندعو إلى الإصلاح والتغيير في مجتمعاتنا على أساسها، مثل: المحاسبة والمسؤولية، والشفافية.

فلم يعد الوقت الحالي يسمح بابتلاع الجيل الجديد الذي نشأ نشأةً مختلفة تماماً لعبارات “هناك ما لا تعرفونه”؛ لتبرير سياسات خاطئة أو على أقل تقدير، سياسات ومواقف.

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى